رنين قهقهاتها تعالت في ذلك المكان ووصلت إلى مسافات بعيدة و قد أدركت أن المساحة مفتوحة أمامها و لا حواجز .
و صداها وصل إلى ما لا نهاية.......... و كأنها تصرخ بكل قوة لتلفظ الأكوام المكدسة من الهموم المغرورقة فيها.......و تخرج من البوتقة الضيقة التي كبلت روحها .
وأمسكت بحبال تلك الأرجوحة الصغيرة التي لا تقوى على حمل سوى كتاكيت صغيرة........لكنها و على غير عادتها هذه المرة أبت واستأنفت واحتملت ذلك الثقل الكبير فهي لا تريد أن تنزع عليها فرحتها ولا أن تكسر سيمفونية ذلك النغم السعيد الحزين.
عصرت تلك الحبال بيديها المتعبتين و كأنها تعصر الغسيل لتتخلص من كل قطرة ماء تنساب منه .......و قد جمعت كل ما تحمل من نوازع لتحولها إلى قوة جبارة ..... و أخذت تدفع الأرض من تحت قدميها تريد فقط أن تطير أن تحلق مع النسمات .
سمعتُ ابنها يهمس في أذنيها......هيا افرحي العبي اضحكي و حاول أن يدفعها ويرفعها بيديه الصغيرتين يريد أن يرد لها جزءً بسيطاً من فضلها في حملهم جميعاً وبآن معاً دون شكوى أو تململ .
لكنه لم يستطع وحده فطلب المساعدة من أخويه الصغيرين فهَما و نجحت المحاولة أخيراً و بدَوا و كأنهم امتلكوا الدنيا بقلوبهم الصغيرة و عيونهم الرانية.
و أخذت تتأرجح وهي تلفظ أنفاسها بتسارع تريد أن تلمس الغيوم ....السماء ......أن ترافق العصافير....تطير تحلق ....تريد أن تهمس لها تحدثها... تغازلها.... تنأى بعيداً عن قيودها التي أزهقت صدرها .
كانت ترتدي معطفاً رماديا يغطي أسفل ركبتيها هو شاهد عيان على ذلك الفرح الذي أسر قلبها وعيونها وكل حواسها .
و منديلاً أبيض تفوح منه رائحة الزهور المخملية يلف شعرها المخنوق .
وهاهم أطفالها توزعوا يمينا ويساراً يرتشفون ضحكاتها و على وجوههم ابتسامة لا تنتهي و قد شاهدوا مشهداً لم ينظروه من قبل .
هاهي أمهم حياة تحلق بعيداً عنهم هذه المرة......تريد فقط أن تصرخ أن تضحك أن تلعب لعب الأطفال فقد اشتاقت وزاد حنينها إلى تلك اللحظات عندما كانت عصفورة صغيرة تطير بجناحيها الرقيقين...همها الوحيد الدراسة ........و زادها اللعب و الغناء والرقص .
لم تكن تدرك أن تلك الثواني ستصبح ذكريات جميلة لن تتكرر.......
لم تكن تدرك أن كل ابتسامة وكل ضحكة ستخرج من حنجرتها فيما بعد ستسجل في سجلات المراقبين .
لم تكن تدرك أن كل خطوة ستخطوها مهما كانت و أينما توجهت ستضاف إلى قوائمهم السوداء.
لم تكن تدرك أن
حواسها الخمس ستسجن في كلمات من حولها........ لا...حذار.....انتبهي.....
لم تكن تدرك أن الزمن سيجعل منها آلة ميكانيكية تعمل دون توقف إلى أن ينتهي عمرها الافتراضي.
أصبحت يداها قطعتان صلبتان هنا جراح مضمّدة لكل منها قصة تُحكى ....وهناك علام جراح قديمة حفرت في باطن كفيها و أرّخت أحداث أيام مرت, و قد آثرت كفيها أن تزور كل تلك الأواني التي تقيم في رفوف مطبخها الصغير.
عيناها الخضراوان غابتا نخيل غيبها الغروب و هجرها الشفق وأرهقها السهاد و أضناها السهر .
وجهها امتلأ بالهالات السوداء التي كادت أن تغطيه بالكامل لولا ابتسامتها التي اعترضت و بعثت بأمل متجدد وبريق لا ينتهي.
ها هي تستيقظ من قبل بزوغ الفجر لتحضر أشكال الطعام لأطفالها ثم تسارع إلى فراش كل واحد منهم لتوقظهم على دغدغة صوتها الخافت وتغسل لهم الغبار النائم عن عيونهم الجميلة وتلبسهم ثيابهم و تودّعهم بألوان العطور و آخرها قبلة الحياة ليذهبوا إلى مدارسهم و قد حملوا معهم الصور اللطيفة في مخيلاتهم و معاني الحب والعطاء في أفئدتهم الصغيرة.
ومن ثم يأتي الوقت لتهتم قليلاً بنفسها و تقوم بذلك بخطى متسارعة لأن سائق المايكرو باص لن يغفر لها إن حصلَ وتأخرت .
و هناك في مكان عملها ما تعودت أن تكون على الهامش يوما.
تحاول أن تجد دائما لنفسها المكان رغم كل العقبات و العقليات المتخبطة و تطوع الزمان لتثبت للمجتمع أنها موجودة رغم كل القوانين والأعراف والأفكار التي تضيق خطاها و تقيد مفرداتها وأفكارها .
تحاول في كل لحظة أن تثبت أنها جديرة بالاحترام والتقدير وأنها تعمل مثلها مثل الرجل و ربما أكثر في الكثير من الحالات فلماذا هذه الذكورية في مجتمعنا لم تكن تستوعب ولماذا هذا التمييز لم تدرك .
فهي قادرة على التفكير والعمل والاهتمام بكل ما تملك وما هي مسؤولة عنه و قادرة على برمجة ذاتها وما بداخلها بما يتناسب وكل الظروف و العوامل دون أن تقصر بعملها في الخارج أو واجباتها في المنزل أمام زوجها وأولادها و لو على حساب يديها التين لا تخمدان أبداَ و قدميها التين لا تتوقفان عن الحركة.
و تبقي الابتسامةعلى شفتيها الورديتين و تزرع الأمل و الأمان في نفوس كل من حولها رغم تعبها و إرهاقها.
هي مخلوق لطيف تملك مشاعر لا تنتهي تكفي العالم بأسره ولا تبخل ,وتحتاج إلى الشعور بالاحتضان و الحنان كطفل صغير في كثير من الأوقات.
و تكره القيود و القمع والحصار الذي يفرض عليها فقط لأنها أنثى و لأن هناك من هو قوّام عليها .
و ما أن تنهي رحلتها اليومية حتى تنفذ كل طاقاتها لتهمد قليلاً و تكفيها كلمة واحدة هي شحنٌ لطاقاتها و شحذٌ لهمتها و عزيمتها : شكراً .........سلمت يداك ...... حتى هذه الأمنية الخجولة غالباً لا تتحقق .
لكنها تستأنف العيش و لا تمل لأنها حياة و تعشق الحياة و تمنحها لكل من حولها رغم أن بعضهم يحاول سلب كل ما تحمله هذه الكلمة من معاني.
و دائماً تغني للحياة و تشدو....... و تقول :
لقد غربت الشمس و
أصبحت التلال معتمة وما تزال حوافٌ من جبال عقلي تحتفظ بالقليل من الضوء على
متممها.
لكن الليل المقدس يهبط إنه ينهض من الأرض وينزل من السماء وقد أقسم الضوء أن لا
يستسلم غير أنه يدرك
أن لا خلاص لن يستسلم لكنه سيخمد قليلاً.
سلمت يداك.....لقد نقلت لنا الصورة الأكثر تكرارا في مجتمعنا ...حطمي يا أيتها الأنثى العظيمة كل قيود تمنع حواسك الخمس من أن تعيش بحرية بريئة كما تعيش الأشجار غلى ضفاف الأنهر تبا لمن فرض القوانين و العادات تبا لكل من يرغب بتقييد حريتك التي منحتك اياها السماء. تقبلي مروري
سيمفونيةالنغم السعيد .. جميل جدا هذا التعبير الذي ورد في سيل تعابيرك الرائعة في هذه القصة الرائعة المميزة و المؤثرة هذه القصة كالمرج الأخضر المليئ بأزهار الأقحوان المتنوعة بكل العطور والألوان سلمت يداكِ