تشعر بالجوع قليلا والسبب هو السير لمسافات طويلة والحركة وغيرها ولكن هناك فكرة لمن فاتته مثل هذه الأفكار والاستنتاجات أن طبيعة الخبز بالشام ان لم نقل كل سورية هي طبيعة بكل ما يحمله معنى الطبيعة .وهو ما أكتشفته بنفسي عندما كنت قد اشتريت قطعتين من الخبز في شهر رمضان من أحد الأفران الشعبية والذي يقع بمنتصف سوق سريجة.
حيث بقي القليل على حالته الطبيعية لمدة يومين دون أن يجفر أو يتغير لونه من جراء استخدام الكثير من المواد الاضافية الصناعية والتي للأسف أصبحنا نعيشها واقعا بمعنى التحضر والعولمة في جميع مناحي الحياة ..لقد كان سرا وراء هذه الجوع وهو طبيعة الخبز في سورية بشكل عام أنه ليس ثقيلا عالمعدة وسهل الهضم ..عندما تأكل كثيرا أو قليلا وتسير لبضع لحظات الا وتشعر بالجوع مرة أخرى.
اتجهت نزولا من محطة الحجاز الى ذلك الجسر قاصدا ساحة يوسف العظمة أو ساحة المحافظة المحكية بالعامية لدى الشوام والدمشقيين بشكل عام..وقد سرت من الاتجاه الأيسر وووقفت بمحاذاة مبنى ضخم وحديث البناء وقد كان مبنى البريد ونظرت الى الاتجاه الأيمن ووجدت أحد الفنادق وسرت أحدث نفسي: هاي هون فندق بمنطقة حلوة ليش دايما نازل بالحميدية؟ ..غير شوي.. ولكن كلما حاولت النزول بفنادق أخرى أحدث من الفندق الذي أستقر فيه يغلبني التفكير بدمشق القديمة وباب السلام وباب شرقي والشارع المستقيم والأموي وسلام ومعانقة الأخوة والأحبة في الفندق والابتسامة التي لا تفارقهم.. الله يحفظها على كل سورية الحبيبة قبل كل شيء.. أحس بلهيب الفرقة والغربة .
وصلت الى ذلك الجسر وقفت ونظرت الى اليمين واليسار سيارات ذاهبة وأخرى عائدة وانا لا أعلم من أين..سالت نفسي مرة ومرات وكم كانت الأسئلة : شوهاي المنطقة؟ هاي السيارات والباصات الصغيرة(الميكرو) أين تذهب ومن أين تأتي ؟ كانت تلك الباصات ذاهبة بالاتجاه اليسار ..مزة جبل ..مزة فيلات شرقية..مزة فيلات غربية..حاولت أن أتذكر أول رحلة لي الى دمشق الحبيبة وأتذكر هذا الجسر وهو جسر الثورة..والطريق الى اليسار كنا نسير بنفس الطريق ونحن عائدين من بلودان والزبداني ..نظرت الى الطريق على مدى بصري والشمس قاربت من المغيب شارع طويل ومدينة كبيرة تعج بها الحياة ..وقلت: ياريت أضل هون أكثر كمان..أين يذهب راكبوا هذه الباصات الصغيرة؟ أين يسكنون؟ هل يمارسون حياتهم كما نمارسها نحن في الأردن؟ كيف هي بيوتهم وتنظيم البيوت ومصروف البيت؟ أين تذهب تلك العائلات وضحكات الأطفال التي تملأ السيارات والباصات..ماسر هذا الفضول ؟ لا أدري ..وربما كنت أخطأت بوصف الطريق والمكان ولكن هذا مادونته ذاكرتي على صفحات مذكراتي الدمشقية وانشالله سنذكر الحلبية والحمصية أيضا..
قطعت من تحت الجسر للأمام ووقفت بجانب محل صغير ويعرض ساعات بماركات عالمية ولكن الصناعة صينية باستثناء ساعات الكاسيو اليابانية الصنع والماركة والتي كنا نحاول جاهدين توفير عشرة قروش يوميا من المصروف الاسبوعي المدرسي لشراء مثل هذه الساعة لارتدائها بعيد الفطر أو الأضحى ..حيث أتذكر كم انتظرت بفارغ الصبر في أحد أيام المدرسة وأنا بالصف الرابع أن تنتهي الفسحة والتي كانت عبارة عن عشرون دقيقة وابتداء الحصة الرابعة فقط من أجل أن أتغلب على التفكير بشراء علبة عصير (عصير دمعة) بسبعة قروش حيث يتبقى لي ثلاثة قروش للتوفير وهو مبلغ لا يساوي أي شيء يذكر ليوم مدرسي كامل..حيث كان مصروفي 20 قرشا يوميا أشتري بعشرة قروش الشيبس أو البسكويت أو أي شيء جديد من التسالي وأوفر العشرة قروش الأخرى..
أحمل في الحقيبة سندويشة زعتر (عروسة زعتر) وأخرى بالجبنة أو المربى وحبة تفاح أو حبتين من الموز وهكذا كنت في نظر زملائي من أغنى أغنياء العالم..سعر الساعة كان يعادل أربعة أو خمسة دنانير ..أردت الدخول الى ذلك المحل عللني أجد ساعات أحلى وأرقى وأشتري واحدة لوالدتي وأخرى لأختي وثالثة لأخي الصغير ولكن هذا يعتمد على السعر المقنع والمقبول ..حيث شراء أي شيء من قلب دمشق الحبيبة هو بمعدل انتصار شخصي..ولكن الجوع كان سيد الموقف ولذلك قبل أن أهم بالدخول قررت العودة الى هنا مرة أخرى قبل العودة الى الأردن.. نظرت الى الجانب الأيمن وكان أناس يتجمعون.. صبيتان جميلتان يرتدين الجينز ولباس ينم يوحيالى الموضة الغربية من رأسهن الى أخمص أقدامهن وقد ذكرت الموقف بالكامل في مذكراتي حيث جاءت صديقة ثالثة لهن وتعانقن وقالت احداهن للصبية الثالثة باللهجة الشامية: لك شو كندا موخلصانين منك بالجامعة كمان بالسوء (السوق)؟
كنت قد نسيت نفسي واخذت أحدق بجمالهن وملابسهن الجميلة وضحكاتهن التي ليس لها حدود.. اللهم احفظ البسمة على وجوههن ..ثم التفت يمنة ويسرة فربما هناك من كان يراقبني بمثل هذا الفضول وكأنني لم أرى أية فتاة بحياتي ..وهناك صبية بمرحلة الشباب ماشاء الله وجهها يشع نورا بالحجاب الأبيض والجلباب المحتشم ..الله يحفظها..ثم سألت نفسي وكم كانت الأسئلة أين تقف أنت الان؟ ولماذا؟ وماذا تفعل؟ كان المكان : معجنات جزايرلي ..فجاء صوت العامل هناك وأوقف قطار الأسئلة : اتنين أشوان وتنين محمرة وقد كانت من نصيب الصبايا الثلاثة ..لا أدري ماهي المحمرة ولم أتناولها بالأردن الا في أحد محلات المعجنات في عمان حيث كان أسمها معروضا بالمنيو وسألت صاحب المحل مباشرة: عفوا عموه انت من سورية؟ فأجابني: ايه. بس كيف عرفت؟ فأجبته :من كلمة المحمرة عالمنيو وصار يضحك .ثم جاء العامل مرة أخرى وذكر: ثلاثة أشوان وتنين فطر وأربعة محمرة وقد كانت من نصيب الصبية المحجبة ..ثم سأله شاب هناك كان يتحدث بالمحمول :زكاتك 3 سبانخ شو صار فيون؟ ثم جاء دوري وباللهجة الشامية زكاتك أربعة: محمرة- أشوان- فطر- سبانخ ..أديه بيطلع حقن؟هل كان انصافا للصبايا والشاب ؟ أم فضولا؟ لاأدري .لماذا؟ لا أحد يملك الاجابة.
لأن محبتي لدمشق وسورية وأهلها هو ما يغلبني وغلبني وتغلب علي.بعدها سألت نفسي أين أريد ان أتناولها هنا واقفا بجانب المحل أم سيرا على الأقدام الى أماكن أخرى فتناولت بعضا منها بجانب المحل ثم أكملت البقية سيرا على الأقدام وأنا أتجه بنظري يمنة الى الجانب الأخر من الشارع ولاأدري هل هو شارع 29 أيار أم شارع بورسعيد؟ ولكن الأغلب هو شارع بورسعيد لأنني أحفظ غيبا ان هاذين الشارعين أحدهما يوصل الى ساحة المحافظة والأخر الى ساحة السبع بحرات.وأتجه يسرة وأنا أوزع النظرات على محلات الألبسة وكذلك الساعات وهناك أحد المطاعم ..مايعجبني بالشام أن المحل او الحانوت أو المطعم سواء بدمشق القديمة او خارجها لاداعي لتغيير الديكور وانما الابقاء على ماهو عليه ..حيث النعمة والبركة تحل بمكانها.. الله يحفظ هالنعمة ويحميها من الزوال..
وصلت الى ساحة المحافظة والقائد الشهيد يوسف العظمة ووقفته المهيبة بالسيف المهيب وكم كنت أتوق لقطع الشارع والوقوف بمحاذاة التمثال عللي أدون ما هو مكتوب هناك وكنت أريد الاستئذان من شرطي السير الواقف هناك..ولكن فجأة انقطعت السيارات حيث توقفت واذا بألة صغيرة دخلت لتمسح أرضية الشارع وتنظيفها من الغبرة..مشكورين محافظة دمشق على هالجهود الطيبة..ثم طلبت من صاحب أحد محلات الألبسة وقد كان واقفا خارج محله أن يأخذ لي صورة وخلفي الساحة لأن الشمس قاربت على المغيب والضوء أصبح خافتا نوعا ما. تذكرت الطريق هنا الى فندق بلازا عندما نزل فيه مسافرين معنا الى دمشق بينما نحن نزلنا بفندق صحارى بالديماس..نهاية ذلك الشارع حيث فندق بلازا يشع من هناك مبنى بالحجر القديم وكأنه مهجور أنا كنت أفكر أنها ربما الصالحية حيث كنت أرغب بل أريد دخول أحد البيوت الشامية كالتي تتزين بجمالها في أحدى مسلسات البيئة الشامية.ثم وقفت هل أكمل طريقي الى ذلك المكان وصولا الى ذلك المبنى القديم؟ أم..أم..أم...؟ حيث كنت أفكر بدمشق القديمة والتسكع بأزقتها وقرب صلاة المغرب ولاأريد أن أفوت فرصة سماع الاذان والذي تصدح به ماذن الأموي أريد أن أعيش ذلك الجو ..خصوصا أن الشمس كانت قد أسدلت نصفها الأول ..ولذلك قررت العودة وبخطوات سريعة الى دمشق القديمة وساحة المرجة ولكن ليس من الطريق الذي سرت فيه علما أنه الأفضل خوفا من التيه والضياع..ثم أسريت لنفسي :أضيع؟ اللي بتمه لسان ما بضيع..خليني أضيع بالشام وين المشكلة؟
ولم أشأ أن أسأل أي كان.. فقررت الاتجاه من الاتجاه الأيمن ولكن ليس العودة بذات الشارع وانما دخول شارع فرعي أخر من جانب مبنى ضخم ربما كان مبنى : محافظة دمشق وقد كان واقفا هناك رجل أمن وسألته بعد السلام والابتسامة : من وين بقدر أروح ساحة المرجة ؟ من هالطريق بمشي الحال؟ فاجابني : ايه من نفس الطريق ..انت من الأردن؟ فأجبت : أه ثم بادلني:ايه أهلا وسهلا..ثم سألته: وحضرتك من وين؟ فأجاب : أنا من منطقة ازا بتسمع فيا اسمها: عربين ..انا أجبته: لا والله بس أهلا وسهلا..ثم أكمل هيه برا الشام. ثم طلبت منه اذا كان باستطاعته أخذ صورة لي من هذا الجانب الأخر وخلفي الساحة وانا اقول : بدي كل الساحة تظهر منيح وواضحة ..ازا ما زبطت الصورة ممكن تعيدها مرة تانية؟ بغلبك معي..اجاب: ايه بعيدا مرة ومرتين وتلاتة ..ايه مو على عيني.
اتجهت بعدها قاصدا ساحة المرجة حيث كنت أريد أخذ بعض الصور الجميلة هناك قبل مغيب الشمس وكنت أرغب بل أريد مشاهدة نهر بردى والذي يسير تحت الشارع الذي نسير فيه وصولا الى ساحة المرجة هذا ناهيك عن دخوله من تحت منطقة دمشق القديمة والذي تتوضح صورته أمامك خلف قلعة دمشق وسأذكر لاحقا ان شالله كم تعبت قدماي وأنا أسير بمحاذاته عللي أستعلم وأرى المكان الذي يصب فيه وأتذكر كيف أنني قرأت عنه وتلك المعلومة التي تقول : أنه يظهر واضحا وجليا من جانب باب السلام وكم كنت أتوق وأنتظر بفارغ الصبر عطلتي السنوية للوصول الى ذلك المكان ورؤيته بأم عيني ..
وصلت ساحة المرجة وأخذت بعض الصور الجميلة حيث كان الجو باردا قليلا برد المساء..وكنت أرتدي جاكيت خفيف باللون السكني وجينز باللون السكني الفاتح وكذلك حذاء رياضي باللون الأبيض والكحلى وحقيبتي الحبيبة باللون الأزرق الفاتح والأورانج والتي رافقتني مرات ومرات الى دمشق وحلب وحمص والتي لغاية اللحظة أحفظها وأضعها في خزانتي بعد أن تمزقت قليلا واهترأت من التنقل والسفر..فهي أيضا شاهد على حبي وعشقي لسورية الحبيبة..
برنامجي طويل ولا يخلو من حبي وعشقي لهذه المدينة والتي كنت أنتظر بفارغ الصبر زيارتها وما أن زرتها بل ووطأت قدماي أرضها لا أدري ماحل بي وقررت ان لا أفارقها بل أتي اليها مرات ومرات وأدعو الله تعالى أن لا تكون مرة واحدة ..أينما شاهدت مكان أو مقهى أو غيره على شاشة التلفزيون العربي السوري سواء باحدى المسلسلات أو نشرات الأخبار أو أية برامج كنت أقرر زيارته وكم كنت أنتظر بفارغ الصبر برنامج صباح الخير حتى أقولها صباح الخير ياشام وياكل سورية الحبيبة.. أو برنامج أخر المشوار أو غدا نلتقي حتى أقول لمقدمة البرنامج والتي يبدو عليها النعاس والارهاق قليلا بعد يوم لا يخلو من أي نشاط في هذا القطر الحبيب وحتى يتسنى أن أقولها تصبحين على خير يا شام ويا كل سورية الحبيبة..
أه يا قارئي العزيز فقط لو تدري ولو تعلم كم بلغ عشقي لهذه المدينة وهذا البلد الحبيب..يامن تقرأ هذه الكلمات وهذه الوريقات سمها بما شئت..ولكن رسالتي لك : حاول ان لا تنساها أو تتنساها أو تتركها بغياهب النسيان .. فرجائي لك أن تنشرها وان لم تشأ فلا تمزقها بل ارمها على قارعة الطريق من عمان الى دمشق ومن دمشق الى حلب ومن حلب الى حمص..فهي الشاهد على عشق انسان لهذا البلد الحبيب..لو تدري كم انهمر من دموعي كلما فتحت ذلك الدفتر الذي رافقني اليها ووثق على صفحاته وباللون الأزرق لون البحر والسماء والحب والأمل برنامجي فيها..فقد زاغ الحبر بعد أن امتزج بالدموع وتغير لونه قليلا..ولكن المفارقة أن الكلمات امتزج حبرها بالدموع فامتزجت بعضها ببعض.. الكلمة بالسطر الأول سال حبرها لتمتزج بالكلمة بالسطر الثاني والثالث وأبت أن تخرج وتسيل خارج سياق الصفحة..لماذا؟..ياأخي القارىء وأختي القارئة لأنها كلمات صادقة دافئة خرجت من فلذات هذا الانسان ..ياأخي القارىء وأختي القارئة اسأل عنها الأموي والصالحية ودمشق القديمة .. اسأل عنها قاسيون وباب السلام والعمارة وباب توما..اسأل عنها الحميدية والبزورية ومدحت باشا...اسأل عنها أبو شاكر وأبو حسن والجزماتية..اسأل عنها أبو اياد وسائق التكسي أبوالحسام..
يا أخي القارىء وأختي القارئة هذا مسلسل غلب عليه الطابع الدمشقي وليس استثناء لباقي سورية الحبيبة.. لماذا؟.. لأنه من دمشق كانت نقطة الانطلاق لقطار العشق هذا..الى حلب وحمص الحبيبتين وان شالله الى كل سورية الحبيبة ..
أه يا وجعي يا دمشق..اه يا حبي يا دمشق..أه يا عشقي الأبدي يا دمشق..اللهم يا خالق الانسان امسح عن شامنا الأحزان ..واعد اليها ولأهلها ذلك الزمان..لنا لقاء قريب يا دمشق..
كسوري، أود أن أشكر الكاتب على هذه الكلمات، ولكن في الحقيقة يجب أن يعلم هو والإخوة في الأردن والعراق ولبنان أنهم لم يظهروا حبهم هذا لسوريا والشعب السوري خلال الأزمة ... الشعب السوري لن ينسى أبدا سلوكهم غير الإنساني...في الوقت نفسه، يجب أن يفهم إخواننا في الدول العربية الأخرى وخاصة دول المشرق أن الربيع العربي أبدا لن يتوقف على أبواب دمشق...