كانت إيران بدون منازع نجمة نيويورك، كأن الدورة العادية للأمم المتحدة هذه السنة مخصصة للملف النووي الإيراني، حيث طغت عناوين الخارج على تفاصيل الداخل وبقيت نيويورك محط أنظار العالم لرسم ما يجري على الخط الأمريكي الإيراني بشكل أساسي بين إطلالات وكلمات الرئيس الإيراني حسن روحاني قراءة مفصلة توقفت عندها الكثير من الدول الغربية عند استعداد طهران لإجراء مفاوضات دبلوماسية شفافة حول ملفها النووي وتوقيع اتفاق خلال ثلاثة الى ستة أشهر بهذا الخصوص.
فالرئيس الروحاني حسم الجدل الدولي حول قدرته على اتخاذ القرارات النوعية بحديثه عن صلاحية الرئاسة الإيرانية بتسوية الملف النووي الإيراني انطلاقاً من اعتراف الدول الغربية بحقوق إيران في برنامجها النووي بما فيه امتلاك تقنيات البناء النووي في مجالات البحوث والتطوير والمنشآت، هذا الاعتراف يشكل نقطة الانطلاق ويشرع بدء المفاوضات بين الولايات المتحدة الامريكية والجمهورية الإسلامية الإيرانية ضمن فترة زمنية تحدد وتضع الآفاق المستقبلية في هدف المفاوضات.
وفي سابقة دبلوماسية في تاريخ البلدين وذلك ضمن اجتماع مجموعة الدول خمسة + واحد حول الملف النووي، عقد وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف مع نظيره الأمريكي كيري إجتماعاً ثنائياً، إذ وصف بالتاريخي واستمر حوالي نصف ساعة بعد أن شارك الوزير الإيراني في اجتماع مع نظرائه من القوى العالمية الست لبحث مخاوف الغرب بشأن برنامج طهران النووي واستهدفت المحادثات إعادة إطلاق المساعي الرامية لتسوية مواجهة مضى عليها أكثر من عشر سنوات حول طموحات إيران النووية وكانت الأجواء توحي بالإيجابية وإمكانية تحقيق تقدم سريع في الملف النووي.
أكد الوزير الإيراني على تخفيف سريع للعقوبات المؤلمة التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة على إيران لرفضها تعليق برنامجها لتخصيب اليورانيوم، حيث قال " بالطبع ونحن نسير للأمام يجب أن يكون هناك إزالة للعقوبات وفي نهاية الأمر يجب أن يكون هناك رفع شامل لجميع العقوبات...نحن نأمل بأن يكون بمقدورنا التحرك في ذلك الاتجاه في فترة زمنية قصيرة ". ".
ويأتي عقب ذلك ترحيب متبادل بين واشنطن وطهران بشأن تصريحان الطرفين إزاء الملف النووي والتحرك الدبلوماسي لإيجاد حل لهذا الملف الذي يشك الغرب إن الإيرانيين يسعون من خلاله إلى إمتلاك أسلحة نووية وهذا ما تنفيه طهران.
كما أثنى الرئيس الأمريكي باراك أوباما على اعتدال القادة الإيرانيين وما جاء في خطاب الرئيس الإيراني روحاني أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة حيث أكد أن " حل الملف النووي يمكن أن يكون عبر الاعتدال والحكمة والاحترام المتبادل ونبذ العنف والإرهاب " وبالمقابل رحبت إيران بنبرة أوباما ومواقفه تجاهها في خطابه الذي كان يتسم بالاحترام والليونة، حيث وصف حديث أوباما عن الملف النووي بإنه تطور هائل لجهة إعتراف بحقوق إيران النووية، مؤكداً إن هذا التطور سيكون الأساس في تطوير وتعزيز العلاقات المستقبلية بين البلدين.
وبالمقابل تنظر إسرائيل بخوف وقلق شديد الى التطورات الحاصلة بشأن التقارب بين إيران والغرب والتي بلغت أوجها في اللقاء بين الدول العظمى خمسة + واحد وبين وزير الخارجية الإيرانية الذي جلس الى جانب الوزير الأمريكي كيري، كما تتزايد هذه المخاوف من نتائج الحملة الإعلامية للرئيس الإيراني والمقابلات الصحافية مع كبر وسائل الأعلام الأمريكية وتأثير ذلك على حل قضية البرنامج النووي من دون إرغام إيران على وقف كافة أنشطتها النووية التي تطالب إسرائيل على توقيعها لمعاهدة حظر الانتشار النووي ووضع جميع أسلحتها النووية تحت الإشراف الدولي.
وفي إطار ذلك فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتياهو سيلتقي مع الرئيس الأمريكي أوباما في واشنطن وسيلقي خطاباً أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة سيسعى خلاله الى صد التقارب بين الدول الغربية وإيران وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، وسيركز نتياهو في خطابه على البرنامج النووي الإيراني من خلال تذكير الولايات المتحدة عن فشل الاتصالات التي أجرتها واشنطن في الماضي مع كوريا الشمالية، وإنه من الأفضل ألا يتم التوصل الى تفاهمات مع إيران لإنها صفقة سيئة.
لقد مرت العلاقات الأمريكية الإيرانية المعاصرة، بمرحلتين بارزتين، تميزت المرحلة الأولى بالعلاقات الحسنة والمتشعبة وقد وطد لها عهد الشاه، أما المرحلة الثانية فقد بدأت مع الثورة الإسلامية عام 1979م، وحتى الآن وقد اتسمت بالقطيعة مع بؤر التحسن وخاصة في عهد الرئيس خاتمي، مع تطور العلاقات الدبلوماسية في عهد الرئيس الحالي روحاني.
من يراقب الأوضاع خلال السنوات العشر الماضية قد يصل الى قناعة أساسية مفادها أن الولايات المتحدة الأمريكية ليست بحاجة الى حرب مع إيران ذات القدرات السياسية والعسكرية المتصاعدة لأسباب عديدة أهمها، إن أمريكا تعرف أنها إذا ضربت إيران من الممكن أن تشل الحركة البحرية في مضيق هرمز الذي يمر عبره حوالي ربع النفط العالمي الى الأسواق الدولية وستكون نتيجة ذلك عاملاً في ارتفاع أسعاره، بالإضافة الى ذلك تستطيع إيران تحريك الكثير من مؤيديها داخل دول الجوار، ومن الممكن أيضاً أن تهاجم إسرائيل الحلف الاستراتيجي الأول لأمريكا من خلال إطلاق صواريخها بعيدة المدى على العمق الإسرائيلي، فضلاً عن إنه يجمعهما مصالح مشتركة في بعض الدول وخاصة الخليجية منها.
السؤال الذي يفرض نفسه بقوة هنا، هل يستطيع الرئيس الإيراني ووزير خارجيته من كسر العزلة التي تعاني منها إيران حالياً ومد جسور الثقة بين طهران والعواصم الغربية؟
إذ إن الولايات المتّحدة تتفاوض مع إيران بحذر شديد لعدة اعتبارات منها، أن الأمريكيين لا يشعرون بأيّ ضغط يبرر الإسراع في التفاوض مع الإيرانيين، كما إن موقف أوباما الآن، في أضعف حالاته منذ أن أصبح رئيساً للبلاد، خصوصاً بعد أزمة الأسلحة الكيميائية السورية الأخيرة ونجاح روسيا في استغلال الرغبة الأمريكية، في تلافي العمل العسكري ضدّ سوريا. وبالتالي قد يتعرّض أوباما لانتقادات حادّة إذا بدا أنه قدم تنازلات كبيرة إلى الإيرانيين، كما أن المفاوضات الإيرانية -الأمريكية ستنطوي على انعكاسات مهمة على ميزان القوى في الشرق الأوسط، وعلى علاقات واشنطن مع حلفائها في المنطقة، وخاصة في دول الخليج وإسرائيل، ومن شأن أي تنازلات أمريكية لإيران أن تثير قلقاً عميقاً للدول الخليجية وإسرائيل، إذ يخشوا أن يؤدي تخفيف التوتر بين الولايات المتّحدة وإيران إلى تعزيز موقع إيران الإقليمي، على حساب مصالحهم، فضلاً عن أن الولايات المتّحدة ستستفيد من التعاون مع الإيرانيين لإدارة معظم دول منطقة الشرق الأوسط بصورة أفضل.
وأخيراً انهي مقالتي بالقول إن الرئيس الإيراني حسن روحاني أحيا الآمال في إنهاء القطيعة بين الولايات المتحدة الامريكية وإيران والتي بدأت منذ قيام الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979م، واستطاع إيثار الدبلوماسية والحوار التي ُتعد خطوة متقدمة على المواقف الأمريكية السابقة، التي كانت فيها أمريكا رافضةً للحوار المباشر مع إيران حول هذا الملف، والذي سيترجم قريبا الى حوار قد يتمخض عن صفقة استراتيجية بين البلدين تعترف بإيران قوة عظمى في المنطقة، وتقاسم النفوذ والمصالح بين البلدين، كما تمكن الرئيس روحاني ووزير خارجيته من أن يكسرا الجمود السياسي ويلتقيا مع وفود دبلوماسية أمريكية لمناقشة علاقات البلدين. وبالرغم من تعزيز وإعادة العلاقات الدبلوماسية بين كل من واشنطن وإيران التي تسعى الى تحسين وضعها الاقتصادي ستستمر في اتباع سياسة خارجية مستقلة، الأمر الذي سيجعل من الصعب على الولايات المتّحدة الحفاظ على ميزان القوى الإقليمي، خصوصاً في ظل الأزمات التي يعاني منها العالم العربي.