ليس مفاجأة أو صدفة أن نرى الشرق موطن دائم وآمن للمسيحيين والمسلمين، الذين رصوا صفوفهم سوية في أوائل القرن السابع لإعلاء كلمة الله الواحد الأحد، بعد أن استولى الغرب الروماني المستعمر على الشرق الحافل بكنوز الحضارات المختلفة، التي فاقت الستمائة حضارة على مدى أكثر من عشرة آلاف سنة من تاريخه الحافل والغني، الذي قال عنه ويل ديورانت في موسوعته الشهيرة "تاريخ الحضارات " أنه تاريخ الانسانية جمعاء، وأصل الحضارات.
كانت أحوال العرب الدينية في بلاد الشام والشرق العربي قبل دخول الإسلام مشوشة غير منظّمة، وكانت بعض قبائلهم وثنية صرفة، وكان انقسام المسيحية على ذاتها قد شغلها عن الاهتمام بنشر بشارة الإنجيل، لذلك كانت هناك ضرورة لظهور الدين الجديد في الجزيرة العربية لإتمام مكارم الأخلاق التي حملتها الديانات السماوية التوحيدية التي ميزت معتقدات الشرق جميعها، ومهدت هذه الديانة الجديدة لترسيخ قواعد الألفة والمحبة بين الناس، بعد أن مزقتها العنصرية، والفوقية، والتمييز، والتسييس، والهيمنة التي سادت تحت وطأة الاستعمار الفارسي والروماني، ليشمل ذلك النزاع الدين نفسه، فينقسم العالم المسيحي إلى كنيسة شرقية، وغربية في ذلك العصر، وليأتي هرقل، امبراطور روما، بعد أن انتصر على الفرس، واستولى على الجزيرة وما بين النهرين، ودخل سوريا عام 612، واستولى على دمشق عام 629، ليسعى لإعادة الوحدة الدينية إلى الإمبراطورية، ويوحّد الكنائس الشرقية من سريان وأقباط وأرمن مع كنائس الغرب البيزنطية، مستخدماً أساليب الوعود حيناً، والوعيد والقمع الشديد أغلب الأحيان
فاستشهد من المسيحيين المؤمنين عدد لا يحصى لعدم الانصياع إلى رغبته، وليكون ظهور الإسلام مبشراً بنهاية اضطهادات المملكة البيزنطية الغربية للكنيسة الشرقية، حيث خرجت جيوش الفاتحين المسلمين من الجزيرة العربية وحررت بلاد المشرق من حكم البيزنطيين والفرس في النصف الأول من القرن السابع للميلاد، بالتعاون مع أتباع الكنيسة الشرقية سكان البلاد الأصليين، الذين كانوا موجودين في تلك المناطق منذ أجيال سحيقة، وكان بعضهم من أبناء القبائل العربية الذين ارتبطوا بصلة الدم، والنسب، واللغة، والتاريخ مع العرب المسلمين، لذلك استقبلهم مسيحيو الشرق بفرح عند دخولهم، واعتبروهم منقذين، جاءوا ليخلصوهم من نير البيزنطيين الذين حاولوا إذابتهم في كنيستهم البيزنطية التي اعتبرت كنيسة الدولة الرسمية، وتمكن مسيحيو الشرق بالتعاون مع العرب المسلمين من المحافظة على عقيدتهم الدينية، وكرسيهم الرسولي الأنطاكي، وكنائسهم، وأديرتهم، وتراثهم، وطقوسهم الدينية المشرقية، التي مثلت أصول الديانة السماوية التي ظهرت في الشرق، وعاشت فيه، ولاتزال حتى اليوم جزءاً لايتجزأ من التراث العقائدي لأهل المشرق جميعهم، مسلميهم ومسيحييهم، الذين آمنوا بالدين الجديد إيمانهم بتعاليم كنيستهم المشرقية، التي جعلت الانسان، وقيمه، وحريته في التفكير، والاعتقاد، أساساً في مبدأ ظهور وانتشار الأديان جميعها، إسلامية كانت أم مسيحية (لاإكراه في الدين).
تناول مسيحيو الشرق العربي سيرة الرسول العربي الكريم محمد صلوات الله عليه، معترفين بفضله وكرم أخلاقه، ومن جملة هؤلاء العلماء العلامة السرياني مار غريغوريوس يوحنا الذي لخّص ترجمة حياة الرسول العربي الكريم في كتابه تاريخ مختصر الدول، الذي ألّفه باللغة العربية، موضحاً كيف كان الرسول العربي في كل فتوحاته وتحريره البلاد من حكم المحتلين الغربيين يوصي جيشه قائلاً: «إنكم ستجدون رجالاً حبسوا أنفسهم في الصوامع، فلا تتعرضوا لهم، ولا تقتلوا امرأة، ولا صغيراً، ولا فانياً، ولا تقطعوا شجراً»، وهكذا أراد الرسول العربي الكريم أن ينشر الدعوة بالتآخي، وعلى مناخ العدل، وحفظ حرية الناس، وحقوقهم كبشر، دون أي تمييز بينهم خارج إطار التقوى حيث قال صلى الله عليه وسلم: لافرق بين عربي على أعجمي إلا بالتقوى، مؤكداً أنه لم يُرسل لإجبار الناس وإكراههم على الإسلام كما تبرهن على ذلك الآية الكريمة من سورة البقرة 256: «لا إكراه في الدين، قد تبيّن الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم»، وفي الآية 82 من سورة المائدة «لتجدنّ أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا، ولتجدنّ أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى، ذلك بأنّ منهم قسيسين ورهباناً، وإنهم لا يستكبرون».
وقد حارب مسيحيو الشرق جنباً إلى جنب مع العرب المسلمين، مع محافظتهم على نصرانيتهم، فحرروا البلاد من المستعمرين، وشاركوا في توطيد أركان الدولة الجديدة، وشهد التاريخ بإنتاجهم الخلاق في جميع ميادين الفكر والحضارة.
لكن المسيحية الشرقية ضعفت بعد سقوط بغداد بيد المغول سنة 1258م، فهم لم يكونوا عادلين كالمسلمين العرب، إذ قلّ عدد المسيحيين في الشرق من جرّاء ظلم القائد المغولي تيمورلنك الذي استولى على سوريا وبلاد ما بين النهرين، ودمر بغداد سنة 1393، وعادى المسيحية، وأرغم المسيحيين على اعتناق الإسلام، واضطهد الذين لم يفعلوا ذلك، فهو كقائد مسلم غير عربي، لم يراع العهود التي أعطيت للمسيحيين من الرسول العربي الكريم، والخلفاء الراشدين، والأمويين، والعباسيين، لحمايتهم وصيانة حقوقهم، بل هدر دمهم، وهدم كنائسهم وأديرتهم، ومدارسهم، فضاعت أغلب مخطوطاتها الثمينة، وخسرت الحضارة الإنسانية العالمية أهم كنوزها الثقافية والعلمية وأنفسها.
أما في عصر النهضة العربية الحديثة، فقد اضطلع المفكرون والأدباء المسيحيون في الشرق بدور متميز في الثقافة العربية، وكانوا أول من رفع لواء القومية العربية عالياً ضد حملة حركة التتريك العثمانية، وحافظوا على اللغة العربية وآدابها، وبادروا إلى وضع المعاجم المفصلة للغة العربية، ولعل مما حفظه العرب قصيدة الشاعر ابراهيم اليازجي الذي عاش بين (1847- 1871) وكان متحمساً لقضية الأمة العربية، وحزيناً على غفلة العرب عن خطورة ما تتعرض له بلدانهم من خراب ودمار مادي، ومعنوي حيث قال:
تنبهوا واستـفـيـقـوا أيـــها العربُ
فقد طغى الخطبُ حتى غاصتْ الرُكبُ
فِيمَ 'التـّــعَـلّـُـلُ بِالآمَـال تَخْدَعُـكـُم
وَأَنـْـتـُــمُ بَيْنَ 'رَاحَاتِ 'القَنَـا 'سُلـبُ
اللهُ أَكْبَـرُ مَا هَـذَا 'المَنَـامُ فَقَـدْ
شَكَاكـُـمُ 'المَهْدُ 'وَاشْـتــاقَـتـْـكُمُ 'التــُّـرَبُ
كَمْ تـُظْـلَمُونَ وَلَستـُمْ 'تَشْـتَكُونَ 'وَكَمْ
تـُسْـتَغـْـضَبُونَ 'فَلا 'يَبْدُو 'لَكُمْ 'غَضَـبُ
أَلِفـْتـُمُ الْهَوْنَ حَتى صَارَ عِنـْدَكُمُ
طَبْعَاً 'وَبَعْـضُ 'طِبَـاعِ 'الْمَرْءِ مُكـْتـَـسَـبُ
وَفَارَقَـتـْكـُمْ 'لِطُولِ 'الذ ُلِّ ' 'نَخْوَتـُـكُم
فَلَيْسَ 'يُؤْلِمُكُمْ 'خَسْفٌ 'وَلا 'عَطـبُ
فَصَاحِبُ الأَرْضِ مِنْكُمْ ضِمْنَ 'ضَيْعَتِه
مُسْتَخْـدَمٌ 'وَرَبِيبُ 'الدَّارِ ' 'مُغْـتـَـرِبُ
واليوم يطالعنا من يجهل هذا التاريخ المشرف لمسيحيي الشرق، ليجعل من حياتهم في موطنهم، والتصاقهم بأرضهم، وإيمانهم بوطنهم وتراثهم موضع قلق لهم، ويحاول أن يشعرهم بأنهم غرباء في بيوتهم، ومستهدفون في كنائسهم، يعيشون تحت وصاية أو حماية غيرهم من البشر، وكأن هذه الأرض، وهذه الديانات الإلهية التي نزلت فيها، قد تخلى الله عنها، وعن حمايتها، وأوكلها لبعض من عبيده، لكن الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها أبداً أن مسيحيي ومسلمي الشرق جميعهم، كانوا ولازالوا بإيمانهم وصبرهم وتقواهم بحماية إله واحد أحد صمد، لا إله غيره، وليس له كفواً أحد، ومن كان الله معه، فلا خوف عليه.
منشان الله حاجه , التاريخ مزور والاسود لا يصبح ابيض, مين بيعرف الحقيقة