الدكتور خيام محمد الزعبي-كاتب وباحث أكاديمي سوري
بعدما تراجعت العلاقات المصرية مع الولايات المتحدة الأميركية لصالح روسيا، وأخذت السعودية والإمارات مكانة قطر في تمويل النظام المصري الجديد، وصل الخلاف المصري التركي إلى ذروته بعد قرار الحكومة المصرية بطرد السفير التركي وإعتباره شخصاً غير مرغوب به في مصر، والذي نتج عنه تخفيض مستوى العلاقات الدبلوماسية بين البلدين إلى مستوى القائمين بالأعمال.
واليوم تشهد العلاقات المصرية التركية حالة غير مسبوقة من التوتر والاضطراب، وتأزم هذه العلاقات ووصولها إلى هذا المنحى ليس بالجديد، فالتاريخ الدبلوماسي بين البلدين يبرز مرور هذه العلاقات بمحطات مختلفة منذ نشأتها، لعل أولى محطات التوتر بينهما تعود لعام 1961، عندما رفضت أنقرة الوحدة السورية المصرية وأقرت الانفصال، وشهدت فترة السبعينات والثمانينات تحسن في العلاقات التركية -العربية خاصة بعد حرب تشرين عام 1973، حيث أعلنت تركيا بانها لن تسمح بأي استـخدام عسـكري للقواعد التركية من أجل مساعـدة إسرائيل، أما في فترة التسعينيات تقاربت مصر وتركيا سياسياً حيث قامت مصر بدور الوساطة بين تركيا وسوريا، ونجحت في نزع فتيل الحرب التي كانت على وشك الوقوع بين الطرفين بشأن ملفات تتعلق بالمياه والأكراد والحدود.
وبالمقابل شهدت العلاقات تحسن على المستوي الاقتصادي بين الطرفين، ففي عام 2006 تم تخصيص مليوني متر مربع كمنطقة صناعية تركية في مدينة السادس من أكتوبر للإسهام في زيادة حجم الاستثمارات بينهما، لكن الأمور تغيرت مع ثورة الخامس والعشرين من يناير التي أطاحت بالرئيس السابق حسني مبارك، ليحدث نوع من الفتور السياسي عندما دعا رئيس الوزراء التركي أردوغان إلى الإطاحة بالرئيس مبارك، وسرعان ما عادت الأمور إلى التقارب أيام حكم المجلس العسكري، حيث وصل الرئيس التركي عبد الله غول إلى القاهرة، وناقش فيها سبل دعم التعاون السياسي والإقتصادي والعسكري بين البلدين خلال المرحلة الانتقالية، وبلغت العلاقات أوجها مع وصول الرئيس محمد مرسي الى سدة الحكم، فبالإضافة إلى تطور العلاقات السياسية والإقتصادية بين الطرفين ، دخلت العلاقات العسكرية إلى الواجهة بالإتفاق على إجراء تدريبات مشتركة، ومع سقوط الإخوان عن رئاسة مصر، بثورة 30 يونيو، وعزل مرسي في الثالث من يوليو الماضي، دخلت العلاقات المصرية – التركية مسار التوتر والتدهور بين البلدين.
وفي السياق نفسه تصاعدت حدة الأزمة التي ضربت العلاقات المصرية التركية في الآونة الأخيرة، على خلفية الموقف التركي الرسمي المناصر لجماعة الإخوان المسلمين والرئيس المعزول محمد مرسي، ضد السلطات المصرية الحالية، إذ أن رئيس الوزراء التركي كان من أشرس المنتقدين لعزل الرئيس محمد مرسي، واصفاً ما حدث في مصر بأنه إنقلاب غير مقبول.
وفي تطور جديد، أعلنت الرئاسة المصرية عزمها على إعادة تقييم ومراجعة العلاقات المصرية مع تركيا، حيث خفضت مستوى العلاقات الدبلوماسية مع تركيا من مستوى السفير إلى مستوى القائم بالأعمال وبناءً عليه سحب السفير المصري من أنقرة ومطالبة السفير التركي بالقاهرة بمغادرة البلاد، وبررت الوزارة في بيان صحفي لها أن ذلك جاء على خلفية تصريحات رئيس الوزراء التركي الأخيرة التي أدلى بها قبيل مغادرته إلى موسكو حول الشأن الداخلي المصري وإنتقد فيها السلطات المصرية ، وإعتبرت هذه التصريحات أنها تمثل حلقة إضافية في سلسلة من المواقف والتصريحات الصادرة عن أردوغان و تعكس إصراراً غير مقبول على تحدي إرادة الشعب المصري، وإستهانة بإختياراته المشروعة وتدخلاً في الشأن الداخلي المصري، وفي وقت سابق أشاد أردوغان في كلمته أمام اجتماع تشاوري لحزب العدالة والتنمية بإشارة رابعة، ووصفها بأنها أصبحت علامة تندد بالظلم والإضطهاد والمذابح في كل أنحاء العالم.
فضلاً عن إستضافة إسطنبول مؤتمراً للتنظيم الدولي للإخوان تحت مسمى "مؤتمر تحالف الحقوقيين الدوليين " لمقاضاة مصر والنظام الحالي في الجنائية الدولية للتحقيق في انتهاكات لحقوق الإنسان بعد فض إعتصامي رابعة والنهضة، وبهذا الشأن إعتبرت مصر أن استضافة تركيا لهذا المؤتمر تصعيداً تركياً ضدها، وذلك للتحريض ضد النظام الحالي والجيش وعدد من الإعلاميين المصريين، وبحث تدويل قضية محاكمة الرئيس المعزول محمد مرسى.
وفي هذا الإطار فقد لقي قرار الخارجية المصرية بطرد السفير التركي تأييداً قوياً من أوساط النخبة السياسية، فيما وجد البعض أن القرار جاء متأخرا وكان يجب اتخاذه منذ إعلان تركيا موقفها من ثورة 30 يونيو التي أسقطت حكم الإخوان
وفي السياق نفسه تعتبر تركيا هي المستفيد الأكبر من العلاقات التجارية مع مصر، وليس من مصلحتها أن تقوم بتصعيد الموقف وقطع العلاقات نهائياً مع مصر، حيث حقق المستثمرون الأتراك خلال إتفاقيات التجارة الحرة بين البلدين والمصنعين الأتراك العديد من الأرباح الضخمة خلال إستفادتهم من إتفاقيات التجارة الحرة والشراكة مع الإتحاد الأوربي كما إستفاد المستثمرون الأتراك في مصر من الدعم الحكومي للصادرات، وهو ما يجعل الجانب التركي الخاسر الأكبر من جراء قطع العلاقات الدبلوماسية، فضلاً عن أن المستثمرين الأتراك كانوا يستفيدون بالإتفاقيات التجارية المصرية، والتي كانت تعفيهم من سداد ضرائب وصلت إلى 36%، وهو ما كان يمثل مصلحة كبرى للأتراك.
وبالمقابل نجد أن لدى مصر العديد من الأوراق الرابحة التي يمكن من خلالها الضغط على تركيا ومن أهمها، وقف وتجميد جميع أشكال التعاون العسكري بين مصر وتركيا، خاصة المناورات الحربية المشتركة، بالإضافة الى الإستثمارات التركية وإنتقال رؤوس الأموال التركية في مصر، وذلك بإعادة النظر في التسهيلات والمشروعات التي تحصل عليها الدولة التركية في العديد من المناطق الصناعية وغيرها، وهذا يرجع الى رخص تكلفة العمالة المصرية، فضلاً عن البعد الثقافي المتنامي في الآونة الأخيرة بين القاهرة وأنقرة، ويتمثل في الإعلام التركي والمسلسلات التركية والمعارض والمنتديات الثقافية التركية التي تروج للدولة التركية بشكل مباشر. لذلك فإن فرض القيود على هذه الأنشطة سيؤثر بشكل كبير على القرار والخطاب السياسي الصادر من تركيا تجاه مصر، بالإضافة الى أن الاستثمارات التركية بدول الخليج العربي، يمكن أن تتأثر بالتوتر السياسي الحادث بين مصر وتركيا، ما قد يصيب تركيا بخسائر كبيرة.
فالسؤال الذي يفرض نفسه هنا بقوة، هل تخسر مصر تركيا في ظل هذه التغيرات الٌإقليمية والدولية؟
أن الخطوة التي إتخذتها مصر لا تعد قطعاً للعلاقات مع تركيا بل يمكن محو آثارها إذا أدت إلى تراجع تركيا عن موقفها الحالي، كما إنه لم يصل التدهور في علاقات البلدين بعد إلى ذروته، وخصوصاً ما تم كان فقط تخفيضاً للعلاقات وليس قطعها، وبالتالي هناك إجراءات لا يزال بإمكان الحكومة المصرية إتخاذها، ولو تدريجياً، إذا إستمر تدهور العلاقات بين البلدين على هذا النحو، وحسب ردود الأفعال التركية على الأحداث فمثلًا يمكن لمصر أن تخفض مستوى التمثيل الدبلوماسي مجدداً إلى مستوى مكتب رعاية المصالح.
كما إن التوتر في العلاقات المصرية مع تركيا مرشح للتصاعد والتأزم على نحو أوضح وأكبر خلال الفترة المقبلة، فالعلاقة باتت طردية بين استقرار مصر وتوتر العلاقات المشتركة مع تركيا، وذلك في ظل ما باتت تدركه القيادة المصرية بشأن الدور السلبي الذي لعبته تركيا على الساحة المصرية المحلية في مواجهة مؤسسة الجيش المصري، وعلى الساحة الخارجية من خلال محاولة نزع الشرعية عما قام به القائد العام للقوات المسلحة المصرية، عبر الترويج دولياً وإقليمياً بأن ما قام به الفريق أول عبد الفتاح السيسي يمثل انقلابا ًعلى رئيس مدني منتخب.
كما أني أرى بان التأثير المحتمل للقرار المصري بطرد السفير لن يكون له تأثير استراتيجي على العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الشعبين، كون وجود مصالح ومنافع متبادلة بين رجال الأعمال في البلدين، وبالتالي فإن السيناريو على أن تتجه كل من مصر وتركيا نحو مسار تراجع لعلاقتهما الإقتصادية مستبعد في ضوء المصالح المتبادلة وما يترتب عليه من خسائر كبيرة وخفض معدلات التجارة والإستثمارات للطرفين، إلا إذا وجد طرف ثالث يتحمل تكلفة تراجع العلاقات، ويكون على إستعداد لتقديم ثمن تلك الفاتورة في الأجل القصير.
وأخيراً أختم مقالتي بالقول لقد آن الأوان أن تستعيد مصر مكانتها ودورها البارز على المستويين الإقليمي والدولي، وتؤكد على أنها لن تسمح لأي طرف بالتدخل في شؤونها الداخلية، وبالتالي إن قرار الخارجية المصرية هو نوع من أنواع الإعتراض والاحتجاج الدبلوماسي من جانب مصر بشأن التعبير عن رفضها وغضبها من موقف تركيا في الآونة الأخيرة وهو لا يعني قطعاً قطع كافة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين وإنما يعد إجراء تخفيض التمثيل الدبلوماسي بين البلدين من درجة السفير لدرجة القائم بالأعمال ولا يعني قطع العلاقات الدبلوماسية والإقتصادية والسياسية والتجارية وغيرها، وبالمقابل ما عملته تركيا جاءت كرد فعل على ما تم اتخاذه من جانب الخارجية المصرية.
https://www.facebook.com/you.write.syrianews