الدكتور خيام محمد الزعبي-كاتب وباحث أكاديمي سوري
إن السياسة التركية إنتهجت في الفترة الماضية دور الوسيط للتوصل لحل مشاكل المنطقة حيث لعبت هذا الدور بين إسرائيل وسوريا، والعراق وسوريا، وإيران والولايات المتحدة، وأفغانستان وباكستان إضافة إلى التدخل للتوصل لحل الخلافات السنية–الشيعية بلبنان والعراق، وفي الوقت الراهن فقدت تركيا هذه الوضعية جراء موقف حكومتها في السياسة الخارجية تجاه الأحداث الأخيرة التي شهدتها دول بالمنطقة.
نتيجة الثورات العربية وإرهاصاتها تعززت حالة الفراغ السياسي والقيادي في العالم العربي، وكان هذا الفراغ تعبيراً عن الفشل للدول العربية على إختلاف مواقفها ورؤيتها للمنطقة في لعب دور قيادي مؤثر يشد الشعوب العربية، ومن هنا إستفادت تركيا من هذا الفراغ العربي، وتحولت إلى قوة فاعلة ومؤثرة في المنطقة، وجاءت الثورات العربية وما تركته من غياب لدول كبيرة مؤثرة لتؤكد على فاعلية الدور التركي في الإقليم.
أما اليوم فقد إرتسمت في المنطقة العربية صورة قاتمة حول السياسة التركية، التي شكلت مفصلاً هاماً في الإنتقال من التصورات الإيجابية نسبياً الى الصورة السلبية إثر تدخلات أنقرة في ملفات المنطقة، وأصبحت نظرية وزير خارجية تركيا أحمد داود أوغلو "تصفير المشاكل" مع دول الجوار في مهب التحولات التي عصفت بالمنطقة، فعلاقاتها مع دول الجوار الشرق أوسطية مثل سوريا ومصر وإيران والعراق ودول الخليج تحديداً تحتاج إلى إعادة تقييم وصياغة يخرجها من الجمود والفتور في إثر توتر العلاقات فيما بينهم.
وفي السياق نفسه بدأ تدهور الأنموذج التركي في المنطقة عندما راهن رئيس الوزراء التركي أردوغان على نتائج ما يسمى بثورات الربيع العربي في مطلع عام 2011م، إبتداءاً من تونس ثم مصر فاليمن وليبيا وسوريا، فقد وضع جميع مصالح بلاده السياسية والإقتصادية والدبلوماسية، في سلة ذلك الرهان من دون أن ينتظر نتائج هذا السباق، الذي بات واضحاً اليوم أنه يمضي بعيداً عن ساحة الطموحات التركية، وفي كل مرة تحاول فيها تركيا تحسين علاقاتها مع دولة تجد نفسها متورطة في عداوة مع دولة أخرى فالتقارب مثلاً مع سوريا والعراق وإيران قبل تفجر موجة الثورات العربية دفع تركيا إلى التورط في علاقات سلبية مع إسرائيل، وجاء التورط التركي في دعم الثورة في مصر ليربك علاقاتها مع دول عربية خليجية، لكن التحول الجذري في علاقة تركيا مع النظام السوري من الشراكة الإستراتيجية إلى الإنحياز إلى الثورة السورية ودعمها للمعارضة كان له مردوده السلبي على العلاقة التركية مع إيران وحكومة نوري المالكي في بغداد، لكن التطورات المستجدة في الأزمة السورية إبتداءاً من التفاهمات الروسية - الأمريكية حول نزع فتيل أزمة الأسلحة الكيماوية السورية، وتراجع واشنطن عن خيار الضربة العسكرية للنظام السوري، وإمتداداً إلى الصراعات بين فصائل المعارضة الإسلامية وخاصة جبهة النصرة والدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" مع الجيش السوري الحر المدعوم من تركيا، ثم إعلان أكراد سوريا بقيادة "حزب الإتحاد الديمقراطي" الكردي الإدارة الذاتية في منطقة شمال شرقي البلاد، فرضت على حكومة تركيا التوقف لمراجعة التورط والارتباك الذي أخذ يستحكم في إدارة سياستها الخارجية على كافة المستويات.
ومن خلال ما سبق بدأ تراجع الدور التركي يظهر عبر عدة خطوات وأهمها، تراجع تركية عن الحل العسكري وترحيبها بإنعقاد مؤتمر "جنيف-2″ وفق ما صرح به وزير خارجية تركية أحمد داوود أوغلو خلال زيارته الى طهران، بالإضافة الى التطبيع التركي العراقي من خلال الزيارات المتبادلة بين الجانبين، وتراجع أردوغان عن إتهام المالكي وحكومته بالمذهبية، فضلاً عن ترحيب تركية بالإتفاق النووي بين إيران ومجموعة "5+1"، بما يتناقض مع الموقف والغضب السعودي، وإستعداد تركية في المساهمة في مقاومة الإرهاب والقضاء عليه، وهنا لا بد من القول أن بناء جدار عازل على الحدود السورية التركية ، يعطي تفسيراً واحداً هو أن تركيا لا تعتبر المناطق السورية التي يسيطر عليها حلفاؤها من "المعارضة السورية" مناطق آمنة، محذرة من تسلل بعض التكفيرين إلى الداخل التركي بعدما دخلوا عبر أراضيها الى سورية.
وفي نفس السياق نقلت تقارير تركية عن استطلاع للرأي العام أجرته مؤسسة الدراسات الإقتصادية والإجتماعية التركية "تيسيف" إن التصورات الإيجابية حيال سياسة تركيا الإقليمية في أدنى مستوياتها وخاصة في سوريا ومصر، رغم أن 60 % من العينة المستطلعة أشارت الى دور تركيا الإقليمي الواسع، وشهد منسوب الثقة العربية في السياسات التركية نزفاً متواصلاً خلال السنوات الثلاث الأخيرة، إذ هبطت شعبية هذه السياسة من 78 % في العام 2011 الى 69 % في العام 2012 وصولاً الى 59 % في العام 2013م، وفي آب الماضي أدانت الحكومة المصرية، بشدة تصريحات لرئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، طالب فيها بتدخل مجلس الأمن وجامعة الدول العربية في الشأن الداخلي المصري، معتبرة أنه أمر مرفوض تماماً جملة وتفصيلاً، وعمدت القاهرة الى طرد السفير التركي من البلاد، بعد أن أمعنت انقرة في مواقفها بمحاولة تأليب المجتمع الدولي ضد المصالح المصرية، وبينت نتائج الاستطلاع الكراهية المتنامية في مصر وسوريا تجاه السياسة التركية، حيث يحمل 38 % من المصريين تصورات إيجابية حول انقرة فيما ان 62 % يحملون تصورات سلبية، أما في سوريا فلم يكن الوضع أحسن حالاً، إذ ينظر 22 % فقط من العينة السورية بإيجابية تجاه السياسة التركية، ويحمل 78 % تصورات قاتمة حيالها، وبالرغم من ذلك، تحافظ أنقرة على احترامها في الشرق الأوسط، لكن حماسة أردوغان ضد إسرائيل لم تعد تحظى بشعبية جارفة في العالم العربي، وفي المقابل تشعر تركيا بأنها لا تملك أي نفوذ في دمشق.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا بقوة، ما هي السيناريوهات المستقبلية للدور التركي في المنطقة؟
إن سيناريوهات مستقبل الدور التركي محاطة بالعديد
من الصعوبات بسبب حالة عدم الاستقرار والتغيرات المتلاحقة والممتدة التي تشهدها
المنطقة في الوقت الراهن، وهنا يمكن أن نتصور سيناريوهين أساسيين لمستقبل الدور
التركي في المنطقة هما:
السيناريو الاول:
تعزيز الدور التركي مع تراجع القوى
العربية المؤثرة والفاعلة وذلك في إطار توقع زيادة فاعلية للدورين التركي والإيراني
لملء الفراغ الإقليمي الذي نجم عن إنشغال دول المنطقة بقضاياها ومشاكلها الداخلية،
وعدم قدرتها على النهوض بدورها الخارجي على أكمل وجه، وهنا يمكن أن يكون هناك تزايد
في التنسيق التركي - الإيراني، أو التركي – الخليجي، وبالتالي يمكن ان يسهم هذا
التنسيق في تحسين إمكانيات التعاون الاقتصادي بين تركيا وهذه الدول.
السيناريو الثاني: تراجع الدور التركي
سواء علي مستوي الحضور أو الفاعلية والتأثير، وقد ينتج ذلك بسبب أسلوب تعامل تركيا
في الشهور الأخيرة مع الثورات العربية، والإدراك السلبي لدلالات هذه السياسة من قبل
الشعوب العربية، فتذبذب المواقف التركية إزاء الثورات يهدد تركيا بفقدان مصداقيتها
لدى هذه الشعوب كدولة تؤسس سياستها الخارجية علي مبادئ الحرية والعدالة والإنسانية،
بما يؤثر سلباً في السياسة التركية بشكل عام، ويعرض علاقاتها وكل إستراتيجياتها
العميقة للإنكسار والإنطواء على كافة المستويات ، ليس فقط مع سوريا، بل مع المحور
كله من طهران إلي بيروت مرورا ببغداد.
وبالتالي أرى أن نجاح الثورات العربية واكتمالها
قد تؤثر بدورها سلباً في الدور التركي، فعودة الدور المصري والسوري ، في حال
نجاحهما من تجاوز مرحلة عدم الاستقرار والفوضى السياسية الراهنة وتفعيل وجودهما في
الدوائر العربية والدولية للسياسة المصرية والسورية، من شأنه تقليل حالة الفراغ
الإقليمي التي مثلت أحد مصادر بروز الدور التركي خلال السنوات الأخيرة.
من خلال ما تم إبرازه لم تحسب أنقرة حساباً لنتائج هذه السياسة، إلا بعد أن لمست نتائجها وتأثيراتها السلبية على علاقاتها المستقبلية وتبادلها التجاري والإقتصادي مع هذه الدول ، لذلك عملت على إعادة النظر بسياساتها من خلال محاولة إصلاح العلاقات مع دول الجوار، خاصة العراق وايران، وتعديل الموقف من الأزمة السورية والتناغم مع الإتجاهات الدولية الجديدة في المنطقة، التي أسفرت عن الاتفاق النووي مع طهران، والتحضير لمؤتمر جنيف 2 بشأن سوريا، على أن هذه المتغيرات في سياسة أنقرة ستظل رهناً بعوامل عدة من أبرزها الثبات على نهج التعامل الحيادي البناء مع المتغيرات في المنطقة والاسهام في كبح جماح النزعات الطائفية السائدة، والمساعدة في مكافحة الارهاب، وإقامة علاقات طبيعية مع دول الجوار على قاعدة المصالح المشتركة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.
وأخيراً أختم مقالتي بالقول إن تراجع النظرة الإيجابية للسياسة الخارجية التركية في الشرق الأوسط تعود إلى تخلي تركيا عن موقفها السابق المحايد والمتوازن في مواجهة الأحداث في المنطقة وخاصة الأحداث الأخيرة التي تشهدها كل من سوريا والعراق ومصر، وبالمقابل أن تركيا لا تزال الدولة المهمة والمؤثرة في المنطقة وينبغي عليها ألا تفقد هذا التراكم، وأن تتجنب السلوكيات والمواقف التي قد تتسبب في تدهور المزيد من صورتها الإيجابية لدى شعوب المنطقة، كما انه أصبح من الواضح أن تركيا بحاجة إلى وضع سياسة جديدة للتعامل مع الأوضاع الراهنة التي تتطلب إستجابة طارئة وسريعة وفق منظور تصور واضح وليس وفق سياسة تقوم على رد الفعل بدلاً من المبادرة، وهذا ما بدا واضحاً وجلياً من خلال إعادة تركيا صياغة علاقتها بإيران، بعد توصل الولايات المتحدة الأمريكية لإتفاق بشأن برنامجها النووي، الأمر الذي يدل بدء تركيا العمل والإستجابة لخطوات ملموسة لمراجعة سياساتها الخارجية في المنطقة.