من المحال أن يقاس البعد بالمسافات، فهناك أناس يرحلون إلى العالم الآخر ولا ندري كم يبعدون عنا، نزورهم فقط عند قبورهم، وهم يزوروننا فقط في الأحلام. محال أن يقاس .. محال أن يفعل مع أولئك الذين رحلوا في لحظة اختارهم فيه القدر ليبتعدوا..
أنا قلت هذا واقتنعت به، لكن الذكريات لم تكن تفعل، كلما ذكرها أحد أمامي سقطت الدموع من عيني مجبرة، كان الجميع يعتقدون بأن كلماتهم تواسيني، وأن تربيتهم على كتفي يعيد إلي توازني، لكن مع الأسف لم يكن أي من هذا ينفع معي..
الدموع مالحة إلى حد بعيد،.. كنت تائهة جداً وخاصة أنها لم تترك لي أي وصية أعيش على أثرها، طالبتني بأن أعيش كأنها نسيت بأنها من كنت أعيش لأجله..
كتبت لها مئات القصائد، ولطالما وقفت على الأطلال وصرخت باسمها، كنت أراها كل نجمة تلمع في السماء، كل موجة تجري في عرض البحر، كانت بالنسبة لي الشمس التي تصعد في الصباح، والقمر الذي يلمع في المساء.. كانت بالنسبة لي كل شيء مع أنها لم تترك خلفها أي شيء..
تركت وسادة عليها بقعة سوداء من أثر كحلها، وزجاجة عطر كانت شبه فارغة، وخزانة مليئة بالملابس، ورواية لم تنتهي من قراءتها بعد، والكثير الكثير من الذكريات، تركت خلفها اسم سيبقى العالم يذكره حتى آخر يوم في التاريخ، لأنها امرأة استحقت أن يكرمها التاريخ..
أمي لم تعد هنا، لم أعد أستطيع لمسها أو محادثتها، ومع هذا فهي لم تبرح مكانها في عيني يوماً، لأنها كانت بالنسبة لي العالم، ربما لم أجد الوقت المناسب لإطلاعها على هذا السر، ربما جئت متأخرة لتوديعها، لكن رغم كل هذا أشعر بأنها ما تزال موجودة .. بأن وجودي مرتبط بوجودها..
أختبر أقسى ألم في حياتي.. ألم رحيل من كانت تضيء حياتي، من كانت تسكن الحنان في قلبي وتضفي على حياتي الأمان، رحلت رغم توسلاتي إليها بأن تبقى، حاولت أن تستمر لكنها وفي اللحظة الأخيرة التي تخلى فيها الجميع عنها تخلت عن حياتها، أرسلت روحها بكل سلام إلى سماء السلام والرحمة، أرسلتها مستسلمة للوداع، لمحت في ملامحها الشاحبة آلاف التساؤلات، لمحت في ابتسامتها التي ودعتني بها في حلمي الأخير سعادة الارتياح..
هي صعدت إلى السماء، أسلمت روحها إلى بارئها، لكنني ما أزال أعيش هنا على أثر وجودها، على كلماتها الرقيقة، على نصائحها، على نكهات وجبات طعامها، أرتدي ملابسها، وأتعطر بعطرها، أنهيت الرواية وأخبرتها بالنهاية، كانت عيني تستفيض دمعاً على النهاية وعلى البعد في آن واحد، اشتقت إليها كثيراً.. ولو كان الاشتياق هنا لا يحسب بالمسافات ولا الساعات..
اتساءل دوماً كيف وصلنا إلى هنا، كيف فرقنا الزمن وتبعثرنا، كيف أصبحنا نلاحق الذكريات لنعيش داخلها ولو للحظات، كيف نعيش بين آلاف الناس ومع هذا نشعر بالوحدة، نشعر بالألم، نشعر بأن الدموع تحاصرنا من كل صوب..
إليك يا أمي أرسل هذه الكلمات التي أتت على سجيتها، التي خطوتها بلحظة كنت أريد فيها أن أكتب عن قصة غريبين نسجها خيالي، لكنني الآن أنا الغريبة، أنا من يجدر أن يكتب عن قصة حزنها، أن يرتوي الناس من دموعها، اشتقت إليك كثيراً.. وأعرف بأنك تشعرين كما كنت دوماً بهذا الاشتياق..
رغم كل هذا يا والدتي العزيزة، رغم كل ما تحمله هذه السطور من مآساة، إلا أن هذا القلب الذي رويتيه يوماً بالحب والعطف والحنان والأمان لن يسود يوماً أو يفقد بريق الأمل الذي كنت تلمعينه حتى آخر يوم لك على وجه هذه المعمورة..
وداعاً يا أغلى إنسانة في حياتي، وداعاً رغم أن هذا الوداع ينتهي بلا لقاء.. ينتهي بلقاء لا نعلم متى يكون، في أي حلم يوجد، في أي سبيل في أي بعد في أي وجود..
أحبك..
وتنتهي الدموع
تتوقف على الأحداب تموت..
وأرسل قبلي الأخيرة عبر الأثير..
أرسلها للمرة الأولى والأخيرة..
أحبك ..
وتنتهي القصيدة
تتوقف على السطور تمحى
وأرسل تحياتي الأولى والأخيرة..
وتبقين المرأة الوحيدة..
المقربة الحنونة العطوفة..
الأم الأولى والأخيرة..
الحياة التي توقفت رغم الاستمرار
المياه التي شحت رغم البحار
السماء التي شحبت رغم الأقمار
الجبال التي اختفت رغم الارتفاع..
أحبك.. أحبك .. أحبك
إهاء إلى والدتي رحمها الله وأسكنها فسيح جناته..
https://www.facebook.com/you.write.syrianews
كلماتك رائعة ومؤثرة لا اعرف ان اشكرك عليها او اواسيك بها لكن مع كل موجة حزن ياتي بريق الامل حتما اتمنى لك التوفيق