قال الراوي ياسادة ياكرام أن أباً في مدينة سورية صغيرة ومتواضعة طلب مهراً لابنته بالدولار، فما كان من العريس إلا أن طلب من الأب تأجيل كتب الكتاب ريثما يقوم حاكم المصرف المركزي بتثبيت سعر الصرف. فقال الأب للعريس بكل ثبات "إذاً ابنتي ليست من نصيبك ".
هنا أب يطلب من شاب تقدم لخطبة ابنته مهراً بالملايين، مقبوضاً وغير مقبوض، وذاك يرغب أن يزن مهر ابنته بالأونصة، ثم لانلبث أن نقرأ إعلاناً عن الزواج عبر التقسيط لذوي الدخل المحدود "ادفع مابوسعك من المهر والباقي بالتقسيط المريح ".
الشاب يتأفف من ثقل المهر ويحاول الالتفاف عليه والفتاة وأهلها يصرون عليه ليكون قيداً يلف عنقه ويمنعه من الانزلاق. يتجاهل الطرفان أن زواجاً حقيقياً يمكن أن يعقد من غير مهر، أو بمهر في الحد الأدنى يكون معقولاً ومقبولاً، كما يمكن أن يقوم على استبدال المهر المادي بمهر معنوي لاتكبله القيود ولاتحد منه العادات والتقاليد.
وكتب التاريخ مليئة بالمواعظ والدعوات الى البساطة والتواضع وعدم البذخ والإسراف والمباهاة، لكنها بقيت مدفونة بين دفات الكتب، أو محفوظة في ذاكرة مقفلة.
يُنظر الى المهر، أو الصداق، كتقليد من تقاليد الزواج في مختلف ثقافات الشعوب والقبائل منذ القدم، وعطاء للمرأة تكفله الشرائع والأعراف. قد يكون مبلغاً من المال أو هدية أو أَي ممتلكات أخرى يقدمها عادة الشباب للفتيات وأهلها من أجل إتمام عقد الزواج، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه ومنذ القدم كان للقاعدة استثناء.
لجأت بعض المجتمعات إلى المهر كنوع من الضمان المادي للمرأة، التي ظلت عبر مراحل تاريخية مختلفة خارج سوق العمل والإنتاج الريعي، وكانت غير مؤهلة ولاقادرة على إعالة نفسها في حال غياب المعيل، وبالتالي كان المهر شكلاً من أشكال التأمين البدائي لها في تلك المراحل على اختلافها وتبدل تقاليدها ومفاهيمها ونظرتها تجاه المرأة.
وهو بذلك يختلف من مكان لمكان ومن زمان لزمان، ومن شعب لآخر حسب تقاليده وعاداته، وبالتالي ليس من الصواب اعتباره حقاً من حقوق المرأة ولا بدلاً مالياً لها لما في المفهومين من انتقاص من مكانتها ومنزلتها كإنسان، وكشريكة للرجل لاتقوم بدونها الحياة الزرجية .
كان الآباء في المجتمع الأوروبي القديم يعطون بناتهم مبلغاً كبيراً من المال في يوم عرسهن كمهر لتصبح المرأة ملكاً لزوجها، وكانوا يرون فيه باعثاً للرجال على الزواج. وعند الهنود كانت العادة تقضي بأن تدفع الفتاة وأهلها مهراً للشاب، وقد يخصص الأب مهراً كبيراً لإيجاد زوج لابنته. فيما اعتبرت بعض القبائل الإفريقية أَن المهر ما هو إلا سعر للعروس يدفعه الرجل للأب كتعويض عن ابنته.
وعند العرب، وما قبل الإسلام، كان المهر تاريخياً يمثل ثمن شراء المرأة بغرض النكاح، وكانوا يعتبرون المهر ملكية خاصة لولي العروس. وكانت المرأة عند القبائل العربية إما تشترى بمهر، أو تُسبى أو تختطف، فهي كانت ضمن متاع الرجل أو ملكيته، وفي أحوال أخرى كانت تقايض امرأة بأمرأة !.
وفي الشرائع نرى تبايناً في التعامل مع المهر. فعند اليهود يعتبر المهر ركناً من أركان الزواج، لايثبت بدونه. وتشترط الشريعة اليهودِية دفع المهر من العريس لعروسه لإتمام الزواج، ويحرم دخول الرجل على المرأة قبل قبضها مااتفق عليه. كما كانت العائلة اليهودِية تحدد جزءاً من تركة الأب ليدفع كمهر، وكان للزوج حق التصرف به كمالك له، بينما لم يكن للزوجة أَي حق في التصرف.
أما في الشريعة المسيحية لايعد المهر من أركان الزواج. فكما يجوز أن يكون الزواج بمهر يجوز أن يكون بدونه. وظل المسيحيون يتبعون نفس التقاليد اليهودية الى أن طالبت السلطتان الدينية والمدنية باتفاق حول الملكية كشرط في الزواج. غير أن العائلات التي لديها بنات استمرت بدفع المهر للزوج كهدية زواج تحت مسمى الإيجار وليس الملكية، حيث أَن الزوجة لم تفقد حقوق الملكية فحسب، بل قد ينكر الزوج حصوله على أية هدية منها.
وعندما جاء الإسلام أبقى على المهر، وجعله أحد الشروط لإتمام الزواج.. وينظر الاسلام إليه على أنه هدية من الزوج إلى زوجته، تستلمه المرأة عند زواجها، وهو اعتراف من الزوج باستقلالية زوجته، وليس من الرجولة والشهامة أن يمد يده عليه. والرجل ملزم بأن يدفعه للمرأة، ما لم تتنازل عنه رغبة منها. وهو ليس ثمناً لها، ولا مقابلاً عن مدة بقائها على عصمته، بل ملك خالص تتصرف فيه كيفما تشاء، حتى في بعض حالات الطلاق، ولا يحق لزوجها أو أهلها أن يطالبوها به أو يستمتعوا به أو بجزء منه، مالم يكن بمحض إرادتها.
لم يحدد الاسلام حداً أدنى أو أقصى لقيمة المهر، غير أن هناك مايشير الى وجوب أَن يكون ذا قيمة حتى وإن كانت في الحدود الدنيا. وما قول الرسول(ص) "والتمسوا خاتماً من حديد " و "خيرهن أيسرهن صداق " إلا دليلاً صريحأ على وجوب المهر للفتاة، سواء كان قليلاً أو كثيراً.
والمهر المعقول في نظر الشريعة الاسلامية هو ذلك الذي يتناسب مع المكانة الاجتماعية والمادية لوالدي العروس، كما جاء في القرآن الكريم "على الموسع قدره وعلى المقتر قدره " (سورة البقرة).
لكن ومع مرور قرون عديدة تغيرت النظرة الى المهر، حيث خرج عن مفهومه الاجتماعي التاريخي ودخل الى غرف التعامل التجاري وسوق المزادات، وصار يدل على أن الرجل قادر على استمالة المرأة عن طريق المال، ولكن السعر الأعلى ليس دائماً للمواصفات الأفضل، بل للصفات الرائجة ومتطلبات العصر. وبالتالي فقد الزواج في بعض حالاته معنى العلاقة التكاملية العادلة بين رجل وامرأة عاقلين تقوم على الحب والارادة والوعي وحرية الاختيار والرغبة المشتركة في العيش والانجاب، وتحول إلى شكل من أشكال المقايضات والمساومات التي يغيب عنها السماسرة، وأخذ المهر صيغة الشرط الجزائي الذي يمنع الرجل من التفكير بالنكوص أو الرد والاستبدال.
فرغم التطور الاجتماعي والاقتصادي المطرد وحصول المرأة على بعض حقوقها واستقلاليتها ومطالبها في المساواة مع الرجل، فلا زلنا في بعض زوايا المجتمع أمام صورة معيبة تعيدنا بشكل أو بآخر الى حقبة جاهلية كانت تعرض فيها المرأة مثل أي بضاعة أمام الراغبين، ويفوز بها من يدفع أكثر. ولازال مهر المرأة عندما يطلبها الرجل للزواج يعتبر سعراً لها في بورصة الشروط والأسهم، وذلك بنظر كثير من الرجال والأهل على حد سواء، والمرأة ليست راضية بذلك فحسب، بداعي أن الكلمة الأخيرة ليست لها، بل وتضع "النقاط على الشروط. "
ورغم التطور الثقافي والعلمي للمرأة والرجل على حد سواء لازال مفهوم المهر يخفي في تلافيفه شكلاً من أشكال المبايعة، وينطوي على مفهوم سلبي، فيستلب المرأة إنسانيتها ويحولها إلى سلعة لها ثمن جراء خدمات ستقدمها لعلاقة مستقبلية، يرتفع وينخفض حسب الظروف الاجتماعية المتغيرة والامكانات المادية المتبدلة، ولازالت الفتاة خاضعة للعرض والطلب، بفارق أنك حر في شراء السلعة أو العزوف عنها والبحث في أسواق أخرى، غير أن الأمر عندما يتعلق بالعروس فهناك الكثير من الأمور التي تجبرك على دفع الثمن راضياً أو مكرهاً، لعل أولها الحب، وأهمها العادات والتقاليد.
وكلما حققت الفتاة مقاييس الجودة من جمال وصغر السن وثروات جسدية أولية، ومعايير الحسب والنسب، وهل هي بكر أم ثيب، مطلقة أم أرملة، كلما صار ثمنها أعلى.. حتى درجة تعليم الفتاة العصرية وثقافتها أصبحت رافعة لقيمتها المادية عوضاً عن أن تلعب دوراً ايجابياً في رفع قيمتها الإنسانية. وكذلك يفعل فارق السن الكبير، حيث يرتفع المهر طرداً مع ارتفاع عمر الرجل الراغب الزواج من فتاة صغيرة في السن، أو من القاصرات، من أجل استمالة أبويها للموافقة في ظل صمتها وضعف ارادتها.
كما يرتبط مقدار المهر بالمكانة الاجتماعية لأسر العروسين، والوسط الاجتماعي العام. وهذه العوامل مجتمعة دفعت الى تحرير سعر المرأة في مجتمع يتجه نحو الاستهلاك، بدلاً من تحريرها من قيود طالما احتجت المرأة نفسها ضدها.
والأمر لايتوقف عند تحديد مقدم المهر ومؤخره، بل هناك بعض الآباء، وبالرغم من انتشار الوعي والثقافة والتعليم بين معظم شرائح المجتمع، يعتبرون أن من حقهم الاستفادة من مردود ابنتهم لقاء تنشئتهم لها ومكافأة لهم على تعليمها، وحصولها على فرصة عمل، وأحياناً دون أن يكون لهم فيه حاجة، وكأنها دجاجة انتظروا بيضها طويلاً، وعلى الفتاة أن تضحي قليلاً أو كثيراً، وتصمت طويلاً أمام استحقاق أهلها الذين تعبوا على تربيتها الصالحة، وعلى الخاطب أن يقبل ويرضخ مكرهاً ويدفع مهراً مغرياً يعوض عليهم أكلاف تربيتهم لها وانفاقهم عليها.
وهذا الأمر يختلف من مجتمع لآخر، ويتباين من وسط لآخر داخل نفس المجتمع. ففي سورية مثلاً، التي تعتبر متقدمة على صعيد حصول المرأة على حقوقها، وخاصة في الأرياف، ينتظر الأهل الموسم السياحي، أو العطلة الصيفية، لتزويج بناتهم لسوريين مهاجرين، أو لسياح عرب خمس نجوم بمهر تحدده مدى مقدرة الأب التفاوضية في المساومة على الرقم، الذي سينعش أفراد الأسرة اقتصادياً، في صفقة تجارية رابحة جداً لاتختلف عن بيع عقار في مركز المدينة بعشرات الملايين لكي يتمكن كل فرد من أفراد الأسرة من امتلاك عقاره الخاص على أطراف المدينة أو حتى في الريف، لكن المعكوس فيها أن الفتاة ستنتقل من الريف الى المدينة أو الى خارج حدود الوطن كله. ومن هناك يهلّ الخير، حيث تفتح لإخوتها باب الفرج.
اليوم ومع حصول المرأة على جزء من حقوقها وبلوغها مراتب علمية وثقافية عالية، ونزولها إلى سوق العمل واستقلاليتها المادية والاجتماعية في بعض الأحيان، فإن مطالبتها بالمهر يعتبر مساهمة منها في تكريس المفهوم السلعي للمرأة، وهي التي تعلم جيداً أن المهر المرتفع قد يشكل عائقاً بوجه كثير من حالات الزواج، ويساهم في ارتفاع نسبة العنوسة، وأخص بالذكر بين المتعلمات، لكنه بنفس الوقت لن يشكل أي عائق مادي أو معنوي، ولانفسي ولاأخلاقي، في بعض حالات الطلاق، مهما امتد عقد الزواج.
إن سعي المرأة الى نيل حريتها والمطالبة بحقوقها والمساواة بالرجل لن يكون دون ثمن، وقد يكون التخلي عن مطالبتها بالمهر بمفهومه المادي، الذي لازال كثيرون ينظرون إليه كثمن لها، هو أبخس الأثمان، وسيساهم بترسيخ إنسانيتها الى جانب الرجل ويسمو بها على مفاهيم المقايضة والإبدال والإحلال. ومقابل هذا على المرأة والرجل على حد سواء أن يعملا على تكريس مفهوم المهر المعنوي، القائم على الأخلاق الكريمة والتربية السليمة والسمعة الطيبة وتحمل المسؤولية وحفظ كرامة الأسرة في إطار العلاقة التكاملية والمصير المشترك، وغير ذلك من القيم والصفات التي لايختلف عليها الطرفان. وعلى المرأة الواعية المتعلمة والمثقفة أن تصّر على حقها في حرية اختيار شريك حياتها على أساس المحبة والتفاهم والاحترام والثقة المتبادلة، وليس المبالغة في اختيار المبالغ والهدايا، كما ينبغي عليها أن تعي أن المهر المادي الغالي لايمثل غلاوتها على قلب الرجل على أي حال، وأن المهر المعنوي لايعتبر تبخيساً لها ولاانتقاصاً لقيمتها في كل الأحوال، وأن قيمة "خاتم من حديد " المعنوية تعتبر كفالة كافية لضمان زواج دائم.
ولطالما نردد في يومياتنا أن الأخلاق هي التي ترفع قدر الإنسان وليست الأموال، وأن المهر العالي لن يعلي من شأن أصحابه في نظر الآخرين، ولن يؤسس لزواج ناجح، بل يجعله أسير الأرقام والشروط اذا مافقد الحب والاحترام..
وخير الختام، ماقاله النبي محمد عليه الصلاة والسلام " من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، وألا تفعلوه تكن فتنه في الأرض وفساد عريض ".
https://www.facebook.com/you.write.syrianews
أمرنا عجيب..نقلد الغرب ومايسمى العالم المتقدم في كل شيء حتى في فنون الحب والرومانسية ومشتقاتها.. لكننا في الزواج نقلد أباءنا وأجدادنا ونتمسك بأشياء لو قاموا لغيروها بأنفسهم!!!
ياريتني ماتجوزت قبل مااقرأ هاالمقالة..المصاري مو كل شي
أنا معك بأن المهر بمعناه الحالي يساهم بتسليع المرأة، وهو جزء من عاداتنا البالية عندما يكون مرتفعاً. وأقترح أن يقوم الرجال بتأسيس جمعية "لا للمهر المرتفع".