syria.jpg
مساهمات القراء
قصص قصيرة
فتاة في الذاكرة ... بقلم : نجيب أبو الفخر

قصة حقيقية جدا ..


كانت براءة تشقّ غبار خريفها السابع عشر ، - فمثلها لا يُحتسب عمرها بالربيع - حين راودتها فكرة أن تبحث عن عمل شريف لتسد حاجتها وتساعد جدتها التي تحتضنها مع شقيقها المجنون فعلا بعد وفاة والديهما ...
و لأن أشقاءها الأكبر سنّا .. كلٌّ منهم منشغل بأسرته .. ولا يتذكرونها الا على المناسبات المتباعدة مع مساعدة رمزية لا تمكنها من شراء طعام ٍ ليوم ..
قررت جدّيا .. البحث عن عمل .


صديقتها التي أغوتها بعالم العمل المبكّر ، كانت تتباهى أمامها بالتغييرات العظيمة التي تحدث في حياتها . إذ أصبح بإمكانها شراء ( قلم حمرة ) أو ( شريط كاسيت ) أو حتى أن تتبردخ بصحن شاورما عربي مع قريناتها في المدينة .. مرة في كل شهر ..
هي ذاتها أقنعتها بأن العمل الذي يوفر لها 2500 ليرة سورية في الشهر ) كفيل بأن يحررها بالرغم من أنه لن يتبقى لها منه أكثر من ألف ليرة بعد خصم أجور النقل اليومية من وإلى المدينة .. .. وفي النهاية ... العمل شرف .
- لكنّ أخي الأكبر راتبه 15000 ليرة ..
- أخوكي موظف لكن لا يمكننا أن نجد عملا إلا ( مؤقتا ) وعند طبيب أو محامي أو مكتب تجاري أو خدمي .. وهؤلاء جميعهم أبخل خلق الله ... بياخذوا أعلى الأجور .. ولو يطلع بإيدهن ما يعطونا راتب .. ما رح يقصروا .. بعدين هذا ( سعر السوق ) بالنسبة لشغل البنات ..


بعد أيام .. مرت عليها صديقتها العاملة !! وأبلغتها أنها تحدثت بشأنها إلى صاحب شركة من قريتهم الكبيرة يملك مكتبا في المدينة .. وأنه وافق على تشغيلها براتب 2600 ليرة ... ,, فرحت براءة كثيرا .. وطلبت من صديقتها أن تساعدها على إقناع جدتها بالسماح لها بالعمل ... فدخلتا معا إلى العجوز وما هي إلا بضعة مناغشات وتدللات إلا والعجوز توافقهن الرأي بكامل حنانها ...


كانت قد أعدت نفسها كعروس استعدادا ليوم العمل الشريف الأول ، ومع أن خشيتها من أن تُرفض كانت لا تقل ريبة عن قلق العروس .. إلا أنها كانت تدعو الله أن لا يخذلها .. وكانت تتابع في التدقيق بكل تفاصيل إطلالتها . وثقتها .. وكلامها .. وصوتها .. وحتى أنها كانت تراجع شكل خطها على الورق .. وكأن امتحانات الكون كلها استحقت في ذلك اليوم .. ..


في ذلك الصباح الدامي مرت صديقتها عليها وخرجتا معا .. إلى ساحة البلدة حيث كان ( ربّ ) العمل الجديد بانتظارهما .... بسيارته ..
سرعان ما انطلقت السيارة تجاه المدينة ، بينما براءه تراقب الطريق ببراءة في حين دأبت صديقتها بالتهويل عليها في التعليقات ... كسيدة أعمال جديدة ..


توقفت السيارة في القرية التالية وفاجأتها صديقتها بأنها ستنزل هنا وتكمل مع زميلاتها في العمل .. .. تلعثمت وهي تحاول فهم ما يجري .. كانت تريد أن تقول لصديقتها كيف تتركيني وحدي مع شخص لا أعرفه ؟؟ لكن صديقتها أسرعت بإغلاق الباب وانطلقت السيارة .. منسابة عبر الطريق الذي قد لا ينتهي ..


الشاب صاحب العمل .. حاول كسر حاجز الصمت أكثر من مرة عبر التودد لها بالأسئلة والتعليقات على صديقتها .. فكانت اما أن ترد باختصارٍ يفضح خوفها ... أو تكتفي بابتسامة ٍ تشي بالريبة لتي تجتاحها ..
قبل المدينة بخمسة عشرة كيلو مترا .. وبين تلتين متقابلتين .. تقع وحدات المداجن التابعة للدولة .. مسوّرة وكأنها وحدة عسكرية .. ممتدة في العمق بعيدا عن الطريق العام .. وكأنها تمخر عباب الغياب ...
وهو ينعطف في الطريق الزراعي بمحاذاة المداجن .. كان يعتذر لها .. :
( بدنا ناخذ شغلة صغيرة من جوا ورح نكمل ... )
هي لا تعرف أين يؤدي هذا الطريق


لكن قلبها المرتجف هلعا .. أوعز لها بأن في الأمر ضياعا ً ..
رجته أن لا تدخل معه .. فأجابها لا تخافي .. دقائق ومنرجع ...
توسلته بأن تنتظره على الطريق العام ... فسخر منها .. : معقول لا توجد ثقة بيننا من أولها ...
تضرعت له بأن يتوقف وانها لم تعد تريد العمل .. فأجابها وهو يركن السيارة خلف السور الممتد إلى الشارع البعيد : مو على كيفك . ..!!
لم تسعفها طفولتها بأن تدرك ما حدث .. وكيف حدث ..


كيف بدأ وكيف انتهى .. كل ما تتذكره هو أن صراخها قد انفلت منها وهي تراه يفتح الباب من ناحيتها .. ويسحبها من داخل السيارة بيديه القويتين .. ويثبتها على جانب السيارة وهو يلهث مثل ضبع ٍ تمكّن من فريسته .. وحدها عيناه القذرتان كانت تحكيان قصة قابيل .. بمنتهى الرعب ..


لم تنفع كلماته التي تدعوها بأن تهدأ .. فلا جدوى من الصراخ أبدا .. لأنهم في بريّة مقفرة .. بل استشاطت خوفا وغضبا وحاولت التملص منه بينما هو ممسك بها بيد ويحاول رمي شرشف تناوله من السيارة .. أرضا .. ليتفرغ لها بعدها بكلتا يديه .. فينزع عنها ثيابها ... ويتمدد بكامل عهره مدنسا جسدها الذي نذرته لفارس الأحلام الأوحد ..
في ذاكرتها كانت تتلاطم لحظات تحضيرها ليوم العمل الشريف الأول ..


فستانها الذي كوته بعناية قد تعفّر بالتراب ... أحمر شفاهها قد تلطخ بأنفاس ٍ ملوثة خانقة .. كحلها .. انساب مع دموع تتضرع إلى ربّ يَــعــِدُ بالخلاصِ عند منتهى الضيق ... .. وحتى عطرها ... حملته السماء لتنثره في ذكرياتِ براءة ٍ ارتحلت رغما عن كل نواميس الكون
بكامل زهوته .. وَلجَ عفّتها .. وبينما الألم والقرف والكراهية يتقاذفون أحاسيسها .. كانت عيناه تزدادان شرهاً للمزيد من الإفتراس ..
موجع كان صوتها ... مؤلمٌ كان نشيجها ... مأساويٌّ ... أصبح نحيبها ..


حاول إقناعها وهو يلملم ثيابه بأن الأمر سيبقى سرا صغيرا بينهما ... وأن القصة بغاية البساطة .. .. ولا يجب أن تحمّلها أكثر من اللازم ..
لكنها وهي تلفلف جسدها بثيابها التي لملمتها على عجل .. لم تكن تدرك كيف يمكن أن ترد عليه .. وهي التي تشتهي في هذه اللحظة أن تقطعه وقد اغتال زهوتها وعفّتها التي تربّت على وجوب صونها ..
في محاولة لتغيير مزاجها .. انقلب كالحمل الوديع .. بدأ يداعبها ويربت على كتفها وهو يتغزل بها ويشجعها على تجاوز ما مرت به .. وأنه فعل ذلك لأنه شعر بأن طريقهما معا طويل .. وأن كل ما فعله هو لحرق المراحل ...
لكنها لم تكن تنصت إلا إلى عويل روحها ... لأن كل الكون الذي عجز عن غوثها .. بات أخرسا ...


وبعد أن استقرت في رأسها الصغير ملامح أفكار ٍ شجاعة .. ارتدث ثيابها بسرعة .. وهي تحاول إخفاء جسدها عنه ... في تعبير واضح منها .. بأن ماحدث .. لن يبيحها له .. ولن يجعل جسدها مستباحا له في أي وقت آخر ...
لكن رأسه البليد أوحى له بأنها تتصنع الدلال والغنج فقط ، فسمح لنفسه بقليل من العبارات الشهوانية التي ترضي كبته الجامح توحشا :: بتعرفي إنو طعمة نهدك عالقة في روحي ... مممم ما أطيبك !!! ... بعدين إنتي أنعم من رفيقتك !!!
نحرها بالجملة الأخيرة ..
أفقدها عذريتها مرتين ...!!


شاخت روحها مع اكتشافها أن رفيقتها ... كانت تشاركه التخطيط لما حدث ..
تصدعت أمنياتها حتى تكسرت نهائيا طوال طريق عودتها وحيدة من القرية التالية ... حيث فارقته ..

بعد أن وصلت القرية ... هرعت دون تضييع أي وقت .. إلى منزل المختار .. دخلت عنده ( كدخيلة ) لأنها ( تسمع ) أن المخاتير يكونون على قدر أكبر من الحرص والمسؤولية الأخلاقية .. وطلبت منه أن يجمع وجهاء القرية ويرسل في طلب جدتها ... فهي تريد أن تتكلم
لقد صدّقت هذه البراءة .. ما يُحكى في القصص الشعبية المنافقة من عدالة ونخوة ومروءة .. من شهامة وعزة نفس وإنصاف ... وراهنت عليهم معا أن يكونوا في رؤوس كل وجهاء القرية معا ... وجدّتها الطيبة أيضا ...


وبعد أن حدث ما ارادت .. انتصبت الصبية براءة ... ذات الألف خريف من العمر ، في وسط مضافة المختار .. وروت كل ما حدث معها بالتفصيل الممل ..
كانت شجاعتها تكتم دموعها ... وجرأتها توحي لها بأنها تتكلم باسم كل نساء الأرض .. فلم تكن تريد التراجع أو التذلل .. أو التردد .. كانت تريد الإنتصار .. والثأر ... وأيضا كانت تسعى إلى العدالة والإنصاف ...
يفاجئها صوت من زاوية عَفِنة .:: الأستاذ فلان محترم .. وما بيعمل هالشي .. !!


صوت آخر يردف : يرحم أهَلك .. إذا بدِّك تتبلي الزلمي .. في ألف طريقة .. بس لازم تخافي من الله بالأول !!!
صوت ثالث يطلق قذارته على جدران المضافة ... الزلمي إيدو للخير .. وما بيعمل هالعمل .. عمي احكيلنا مع اي ولد غلطاني ونحنا منساعدك .. !!
براءة .. الآن ذات العشرة آلاف خريف .. سقطت أرضا ..
ولم تصحو إلا على صوت رجال الشرطة من مخفر البلدة وقد حضروا ..


لقد علمت فيما بعد أن جدتها التي كانت تبكي بصمت ِ من يستمع إلى قصته للمرة الألف ... انفجرت بالرجال المجتمعين بعد أن سقطت الفتاة أرضا .. وحمّلتهم مسؤولية ما يحدث لها .. وقالت لهم : نحنا ما عنا شي نخسروا غير شرفنا .. وإذا شرفنا راح ما رح نسكت لحدا .. لا على اللي روّحه .. ولا عاللي سكت عنه ..
فاختار الوجهاء التنصل من المسؤولية بتحويل الأمر إلى الشرطة ..

تم توقيف الشاب سبعة أيام فقط .. ريثما أنجز وجهاء البلدة تفاصيل المصالحة بين إخوة براءة الكبار ... وبين وكيله .. :


- عيب نحنا ولاد بلد وما بيصير ننشر غسيلنا لبرا ...
يقول آخر ... إختكن يا أخي بيجوز طالعة مع رفيق إلها .. ولد من جيلها ,, و خايفة تحكي عنه ..
- أخي البنت ممسوسة .. شو بيمنع تكون بيجيها تخيلات مثل خيها المجنون .. واتعلقت بهالزلمي وبدها ياه بأي ثمن ..؟؟


- يا شباب إنتو الوحيدين العاقلين بهالعيلة . ومالكن مصلحة تكبر القصة .. الزلمي دافع مليون ونص ليرة .. بتاخذو اختكن وبتسحب اقوالها وبتقول انو هيي اللي روحت حالها وهيي عبتلعب .. باي طريقة .. يعني حبسة هالزلمي شو بتفيدكن ؟؟
مربط الفرس : ... مليون ونص ليرة ...


ومع ان صديقتها اعترفت بأن الجاني كان يداوم على ممارسة الجنس معها تحت التهديد بانه قد سجل لها واقعتين أو ثلاث ... إلا أن المليون ونص ليرة .. بالإضافة إلى أتعاب الوجهاء والشرطة وكل من له علاقة بطمس الملف ... كانت كفيلة بخروجه من السجن .. مع بقاء صديقتها بجرم دعارة القاصرات .. في سجن الأحداث ..

تم بوس اللحى والشوارب في مضافة كبير القرية ..
وتبادل الحاضرون القصص وتندروا بالطرائف .. وتناولوا الغداء معا على ( شرف ) الصلحة
في حين كانت براءة هي الذبيحة .. وشرفها مغمس بكل لقمة استساغتها الأفواه التي تخفيها اللحى العفنة ....
تقاسم الإخوة المليون ونصف ليرة .. فانشغلوا حتى عن السؤال عن جدتهم وأختهم ... لكن ألسنة الناس لم تكن ترحم براءة .. في حضورهم


وبمناسبة وبدون مناسبة كان يُفتح موضوع براءة ..
ويتسابق الآخرون بطرح آرائهم أمام إخوتها .. على الورق ..
- أخي لو فرضنا اللي حكته صح ... مو كلنا شباب ومنعرف .. ما بيسترجي يلمسها لو ماهيي معطيتوا ضو أخضر ..
ضو أخضر .. هي ذريعة كل وحوش اللحم الأبيض في عالمنا ...


- أنا بدي مصلحتكن .. هيي ما رح توقّف عنده .. لازم تحطولها حد وإلا كل يوم بتجيبلكن مصيبة !!!
- إي وعبتعلي صوتك عليي يا أخو ال !!!! لو فيك شرف كنت ضبيت إختك الفلتانة ... تقول زوجة أحدهم ... .

الكون الذي حمل خريفا أخيرا .. فاجئها بإخوتها يزورونها معا .. يتوددون إليها ويطلبون منها السماح .. وأمام جدتهم الطيبة اعترفوا بأن معظم الخطأ يقع على عاتقهم .. فهم قد أهملوها ونسوها تماما ... وأنهم لم يكونوا ليستذكروها كل عام مرة أو اثنتين ... وأنه من الطبيعي أن يطمع الناس بها لأنهم يشعرون بأنها وحدها .. وكتعبير عن عودة المياه إلى مجاريها .. قاموا بدعوة براءة إلى مشاركتهم رحلة عائلية إلى البرية ... سيحتفلون هناك كعائلة ( على حساب المال المقبوض من شرفها ) ...
لكن غريزتها التي كانت تنذرها بالخطر من كل ذكور الأرض .. منعتها من الموافقة .. وبعناد


استعانوا بطيبة الجدة .. فقبلت معهم بشرط أن تصطحب شقيقها المجنون معها لكي تشعر بالأمان معه .. نعم .. وحده شقيقها المجنون من كان يحمل لها شعورا بالأمان ... فهو لم يقبض ثمن شرفها ولم يساوم عليه ولم يقبّل شوارب أحد .. كما أن أحدا لا يهتم لتقبيل شواربه ..

في المنطقة التي افترشوا فيها معدات الرحلة ... كانت ثمة حفرة عميقة .. الى جانبها كومة كبيرة من الحجارة ... كانت براءة تختلس النظر إلى تلك الحفرة .. وتتوجس منها ..
زوجة شقيقها الأكبر التي اقتنصت نظراتها ..
أخبرتها : عمنحفر خزان للأرض ... بتعرفي كل الزرع بلا مي ما عبينتج .. قومي لحتى فرجيكي عليها ..
براءة تمنعت عن الوقوف .. وازدادت خشيتها من تلك الحفرة


عاجَلتها بنفس الطلب زوجة شقيقها الثاني .. واقتربت كلتاهما منها وامسكتا بيديها ليساعدانها على النهوض .. وسرن معا باتجاه الحفرة .. بينما تبعهما بخفة أشقاؤها الثلاثة الباقين ..
عند حافة تلك الحفرة .. خاطبها شقيقها الأكبر .. :
هذا مو خزان مي .. هذا خزان ذل .. وقلة شرف .. هذا خزان عار ..
شقيقها الثاني أردف بسرعة .. العار اللي جبتيلنا ياه .. ما بيندفن غير هون ..
اللي مثلك ما عاد لازم يتنفس يا كلبة


وبينما كانت تهوي إلى عمق الحفرة ..لمحت شقيقها المجنون يجري باتجاههم وهو يصرخ استنوني ... انطروني ( انتظروني ) كلماته هذه حملت لها بعضا من الامل .. ولم تعد تسمع كل ما قالوه من سباب وشتائم وكلمات نابية ..
في البداية حاولت النهوض في قعر الحفرة .. لكن تساقط الحجارة عليها من الجميع كان يضطرها لحماية رأسها ومن ثم التقوقع في قعر الحفرة لتحمل على جسدها ذو المائة ألف خريف كل كومة الحجارة التي رأتها على السطح .
كانت ذاكرتها معلقة بأملها الوحيد ..في شقيقها المجنون .. مع انها رأته يسابقهم في رمي الحجارة ، !! وردم الحفرة فوقها ... !!


- الحمد لله ( كانت أول عبارة تبادلها وائدوا براءة وبرائتها .. )
- خلصنا منها ومن عارها .. ومثل مَا اتفقنا اللي بيسأل بعتناها لعند قرايبنا على لبنان
غادر الجميع وهم يتبادلون عبارات التهنئة بالخلاص منها ... ومن عارها ...

تلك الليلة التي سطع فيها ضوء القمر ليحرس روح براءة التي تنازع تحت كومة الحجارة الثقيلة .. كان شقيقها المجنون يلعب في ساحة القرية بعد منتصف الليل حين صادف مروره بجانب المخفر ..
كان عناصر الشرطة يلعبون الورق .. فعاجله أول من لمحه منهم بالطلب .:


- لك تاع تاع حكيلنا كيف اختك ضحكت عالزلمي يا أخو ال!!!!
انفجر عناصر الشرطة بالضحك على عبارة زميلهم اللاذعة
فقال آخر ساخرا .. لا روح عالبيت شوفلنا مين عبي!!! إختك هلق ... إياك .. لا تتركهن لحالهن .. وإذا اتكشفوا غطيهن أحسن ما يبردوا !!
فزادوا ضحكا .. وعيونهم معلقة بما لدى بعضهم من أوراق .. علهم يختسلون النظر خلال تلوي موجة الضحك ...


المجنون بكامل ثقته .. صعقهم بجوابه
- لا .. الحمد الله .. ذبحناها .. ارتحنا منها ومن عارها
( مكررا ما سمعه من عبارات تلفظ بها أشقاؤه وزوجاتهم أمامه بعد دفنها ..


صمت الجميع ونظروا إليه ..
إلا أن أحدهم عاجله بعبارة ساخرة :
- لو عندكن شرف ذبحتوها من زمان .. إنتو ما فيكن تذبحوا جاجة !!
أقسم المجنون : وتحداهم أن يذهبوا معه وهو يخبرهم القصة ...
بعد تردد بينهم ... قرروا الذهاب ...

فوق حفرة العار طلبوا النجدة ... وطلبوا الفزعة .. وطلبوا الإسعاف أيضا ..
براءة .. خرجت من الحفرة وهي تتنفس الأمل ..
ابتسمت وهي تلمح شقيقها المجنون ...
وبغض النظر عن حيثيات حضوره ... إلا أنه في النهاية لم يخذلها !!! لقد كان محلّ أملها فعلا ..!!


خرجت براءة ذات المليون خريف .. بعد يوم طويل تحت الحجارة في قعر حفرة عاتمة .. ثقيلة .. إلا أنها كانت أكثر رحمة من أشقائها .. ولم تكن بنفس الوقت .. أكثر عزما من عنادها في الحياة ...


براءه في عربة الإسعاف ... تسترق النظر إلى ظلال بعض الأنوار في الطريق الطويل إلى المشفى ... وحدها من تعرف بمنتهى اليقين أن تحت كل ضوء قد تكمن حكاية مكبوتة تشبه حكايتها .. وأن آلاف المآاسي حدثت في عتمة هذا الطريق الطويل .. دون أن يتحدث أحد عنها ...


براءة التي استحضرت كل عذابات حكايتها عندما وصلوا منطقة المداجن .. أجهشت بالبكاء الشديد لأول مرة منذ خروجها حية من الحفرة .. سمعت صوت المسعف يقول ..: الحمد الله بما أنها بكت فهذا يعني أنها طبيعية على الأرجح ..


من حقه أن يقول ذلك .. فالساعات الطويلة التي قضتها وهي تحاسب براءتها تحت ثقل الحجارة كانت كفيلة بأن تُجن ... إن لم تمت .... كيف أجرمت بحق نفسها وقررت أن تشكو ما حدث معها ؟؟؟ كيف جنّت لتسوّل لتفكيرها أن يقودها لطلب العدالة من أصحاب الشرف القابع في حكايات الماضي ؟؟ كيف لم تكتم ما حدث معها ؟؟

 

كيف فوتت على روحها الصغيرة فرصة أن تستمتع بباقي حياتها بارتداء ثوب الشرف وقت تريد .. وممارسة العهر وقت يريد سيد عملها ؟؟؟ كيف سمحت لهم أن يبيعوا ويشتروا جميعا بها وبكرامتها ؟؟؟ كيف تناهشها الجميع عقابا لأنها خرجت عن صمت المُتّفَقِ على أن يبقى مسكوتا عنه في هذا المجتمع القذر ؟؟؟ كيف لم تفهم لعبة التظاهر بالشرف والتظاهر بالعفة والتظاهر بالطهر ؟؟ كيف لم تفهم الانخراط في لعبة ( كلنا شرفاء ) والساقط الوحيد هو من ينكشف ؟؟ كيف وكيف وكيف وكيف ؟؟؟ أسئلة كثيرة ... لم يحتمل جسد براءة النازف .. عنف تداولها ... وقبل أن وصلت المستشفى ..
كانت قد أسلمت الروح على مدخل المدينة التي لطالما حلمت بأن تجد فيها
عملا ... شريفا ...


رحلت براءة وروحها المعلقة على أبواب المحلات التجارية ، ومكاتب المحامين ، وعيادات الأطباء ، ومكاتب المهندسين .. لم تزل تبحث عن عمل شريف
رحلت براءة .. وروحها تنصت لصرخات قريناتها في العتمة والنور ... تحاول أن تصرخ بهم أن لاتصمتوا ... لا تستكينوا .. ها أنا حرة طليقة .. لكن روحها ذبيحة لا صوت لها ...


- رحلت براءة وروحها تحمل المزيد من الجراح .. كلما اخترقت جدران بيوت أناس اشتاقتهم لتجد أنهم يدأبون على تفسير روايتها بالمزيد من الظلم والإفتراء ...

- -سافرت روح براءة إلى السماء .. لتقابل الله وتحاسبه .. كيف أنه خذلها رغم وعده بالفرج عند الضيق .. أول مرة وثاني مرة وثالث مرة ..


كانت روحها مسرعة لحساب الإله الذي أخلف وعده معها .. فلم يعد يهمها إن صدق وعده مع الكون كله .. ولا ينصفها إن جعل من قصتها عبرة للآخرين ... ولا يخفف من ألمها أن أمهل الجناة ولن يهملهم .. فقد اجترعت وحدها كل الألم ....
لم تهمل روح براءة أن تراقب نهاية قصتها على الأرض .. حتى يكون حسابها للإله كاملا ... وتفوّت عليه كل الذرائع ..
بعد أن قرأت روحها تقرير الطبيب الشرعي بأن وفاتها ناجمة عن نزيف داخلي حاد بسبب تعرضها لرضوض وكسور داخلية عنيفة .......ووووو إلخ ..


ذهبت إلى السجن لتزور أشقاءها وزوجاتهم الذين تم اعتقالهم ( بدايةً ) على ذمة التحقيق ... راقبتهم وهم يحكون قصتهم لباقي السجناء ... الذين بعد أن تسربت إليهم القصة الحقيقية من خارج السجن .. انهالوا عليهم ضربا مبرحا وعنيفا ...
السجناء الذين يعتبرهم أصحاب اللحى والشوارب ( ساقطون اجتماعيا ) لم يهن عليهم ما حدث لبراءة فحاولوا الثأر لها دون سابق معرفة بها .. حاولوا الثأر للكرامة ربما لأن معظمهم كان من أصحاب الحظوظ العاثرة ... من الذين دخلوا السجن في سبيل الكرامة .. لكن روح براءة كانت بكل طيبة وتسامح تصرخ بأعلى طاقتها : دعوهم .. أنا بخير ... اتركوهم .... ها أنا أحلّق .. سامحوهم .. فبسببهم أصبحت حرة .. وصار بوسعي أن أطير ......!!!


شاخت روح براءة ذات المليار خريف بعد أن حضرت روحها جلسة محاكمة شقيقها المجنون الذي تم تحميله تهمة قتلها العمد ومن ثم الحكم عليه مع وقف التنفيذ بسبب جنونه الذي يعتبر مانع عقاب أو مانع مسؤولية مع ملاحظة ضرورة وضعه في مصح عقلي تحت حراسة ورقابة مشددة لما أظهره من سلوك عنيف ...


هَرِمَت روح براءة ... وهي تشاهد إطلاق سراح الجميع واقتياد شقيقها الذي كان أملا ... إلى مصح عقلي ...
كانت قد قررت الصعود لمحاسبة الإله .. لكنها هنا .. قررت أن ذاك الإله .. لا يستحق المحاسبة ....
روح براءة إلى اليوم هائمة بصوت ٍ مخنوق تنتظر الربيع وتبحث عن عملٍ ٍ شريف .


تمت
17 | 6 | 2014

 

https://www.facebook.com/you.write.syrianews

2014-06-28
التعليقات