هناك كثير من الأمور التي لا أستطيع فهمها في هذا العالم، لذلك لا أحاول فهمها، لا أدري إذا كانت هذه الأمور مفهومة لباقي الناس للناس العاديين، أم أنهم فقط يدّعون فهمها، على الأقل أنا صريح مع نفسي و مع من حولي و أقر بأني لا أفهم هذه الأمور
أمي تدرك هذا و لا يضايقها الأمر، بينما أبي يدّعي اللامبالاة لكني أشعر أنه في أعماقه غير راض عني، غير راض عما يسمونه قدراتي العقلية المتواضعة، أكيد هذا الأمر يسحقه، أكيد كان يأمل أن يكون ابنه الوحيد متفوق عقليا أو حتى عادي عقليا و ليس مثلي، أرى أن القدر قد عوضه عني في اختي فهي حادة الذكاء متفوقة في دراستها و محبوبة من الجميع.
من هذه الأمور العديدة التي لا أفهمها العلاقة بين حب الناس للمرء و ذكاءه، ألا يمكن للشخص أن يكون محبوبا لمجرد أنه شخص طيب بغض النظر عن مستوى ذكاءه؟ لا أطمع في أن أجد جوابا لهذا السؤال فأنا كما ذكرت من قبل لا أفهم كثير من أمور هذه الحياة.
بالطبع حالي أفضل من حال العديد من أصحاب القدرات العقلية المحدودة الآخرين، فعندي دائما أمي بحبها لي اللا محدود رغم حالتي، أغلب من عرفتهم من أمثالي خلال دراستي لم يتمتعوا بحب و فهم أم مثل أمي، في مدرستي الثانوية كان هناك فصل مخصص لأمثالي مما يحتاجون لرعاية خاصة أو من أصحاب القدرات العقلية المتحدية.
أفضل هذه التسميات لفصلنا "رعاية خاصة"، "قدرات عقلية متحدية" فهذا أفضل بكثير مما يردده بعض الطلاب الآخرين عن فصلنا، فصل المتخلفين أو فصل المعتوهين، لا يقولوها أمامنا صراحة لكنهم يرددونها بينهم و تراها مرسومة في نظراتهم لنا، لكني بطبيعتي أسامحهم دائما، أتذكر عندما حاولت المـَدْرَسـَة ـ كخطوة نحو إدماجنا في الحياة العادية ـ
أن تضع في نفس فصلنا الدراسي طلبة عاديين معنا، أغلب أهالي هؤلاء الطلبة العاديين اعترضوا، العديد منهم حضروا لمقابلة ناظر المدرسة كي يطلبوا منه إلغاء الفكرة أو إذا نفذت ألا تنفذ على أبنائهم، لا أدري ماذا كان سبب اعتراضهم، لكن هذا أيضا واحدا من الأشياء العديدة التي لا أفهمها.
عندما أنهيت دراستي الثانوية كنت أستطيع القراءة بطريقة معقولة و إن كنت لا أفهم كل ما أقرأ، أيضا كنت أستطيع الكتابة بصعوبة، بعد عدة أشهر من البحث عن وظيفة كانت أمي هي من قام بالعبء الأكبر في هذا البحث، عثرنا على وظيفة مناسبة لي، و مناسبة هنا تعني لا تحتاج لكثير من الذكاء، كانت أيامي الأولي في هذه الوظيفة من أصعب ما يمكن فزملائي في العمل ذو مؤهلات دراسية متواضعة و مستوى مادي أيضا متواضع و بالتالي كانت معاملاتهم لي سخيفة مليئة بالسخرية من قدراتي الذهنية المحدودة كأنهم يعوضون نقصهم بالنيل مني
أقصى اللحظات على نفسي كانت عندما يتعرف علي إنسان لأول مرة و يدرك أني غير طبيعي، أراقب رد فعله، أتوقعه ان يسخر مني، إذا كان رحيما مؤدبا يكتفي بنظرة مستهزئة ساخرة، بينما البعض الآخر يعلق تعليقات في منتهى السخافة تصدر منهم كأنها حقيقة من حقائق الحياة القاسية
لا أدري في الواقع كيف يعرفون في التو أني غير طبيعي، أهي ملامحي توحي بالنقص الذي أعاني منه أم هي طريقتي في الكلام؟ اجتهدت في عملي لتعويض نقص قدراتي الذهنية لكن هذا لم يشفع لي فبعد حوالي سنة من بداية الوظيفة استغنت الشركة عني دون إبداء أسباب معقولة، ها أنا الآن أبحث عن وظيفة أخرى أو بمعنى أصح ها هي أمي تبحث لي عن وظيفة أخرى، بصراحة أدعو الله ألا تجد هذه الوظيفة المناسبة فأنا لست على استعداد للبداية من جديد و من جديد أقدم قدراتي الذهنية المحدودة لزملاء عمل جدد كأني صاحب عاهة يعرف الناس بعاهته.
عندما تأخر عثوري على عمل اقترحت أمي أن أقوم بعمل تطوعي، اتـَصـَلـَت بأحد ملاجئ العناية بمن لا مأوى لهم و أخذتني معها و قابلنا الشخص المسئول هناك و الذي رحب بتطوعي للعمل معهم، شرح لي أن العمل يتضمن تقديم الطعام في مطعم الملجأ للنزلاء، استقبال الجدد منهم و تعريفهم بالمكان و بقواعده ثم بعض أعمال الكمبيوتر البسيطة
أخبرني الرجل أن عملي التطوعي في ملجأهم سيساعدني في حياتي الشخصية، لم أفهم ما يعني كما لا أفهم كثير من الأشياء، أخذني لجولة في المكان و شجعني على التحدث لبعض النزلاء، في التو لاحظت النظرة الساخرة في عيون من تحدثت معهم، حتى المتشردين الصعاليك يشعرون بتفوقهم و تميزهم علي، أنا الذي من المفروض أن أتطوع لمساعدتهم.
عندما عدنا للمنزل أخبرت أمي أن تنسى فكرة التطوع هذه، لم أخبرها بالسبب الحقيقي لعزوفي، فقط قلت لها اني لا أستسيغ الفكرة، أمي كعادتها لم تضغط علي، إنما قالت لي أن أفكر ثانية في الموضوع و إذا شعرت أن تطوعي سيساعد هؤلاء المحتاجين أن أقدم عليه.
قررت أن أحدث صديقي آدم هاتفيا و أخبره عن مغامرتي في الملجأ، آدم هو الشخص الوحيد الذي قبل صداقتي، رغم أنه شخص عادي يذهب للجامعة و مستوى ذكاءه عالي إلا أنه قبل صداقتي، هو إنسان جميل في نفس عمري تقريبا، رغم اختلاف مستوى ذكائنا إلا أن لنا ميول مشتركة، فنحن نلعب معا ألعاب الـﭭـيديو و نحب مشاهدة أفلام الأكشن و نتحدث في مختلف المواضيع لفترات طويلة، زارني في منزلي عدة مرات، أمي رحبت به جدا و سرت بصداقتي له
أنا أيضا زرته في منزله عدة مرات، آخر مرة زرته قابلت والده، كان لقائي الأول به، تبادلت معه حديثا قصيرا، سألني عن اهتماماتي و كيف أقضي وقت فراغي، تعبيرات وجه الأب أثناء حديثه معي كانت غريبة ابتسامته كانت توحي بالدهشة لا أدري لماذا، عندما طلبت آدم و حدثته عن زيارتي للملجأ، أبدى اهتماما مؤدبا بحديثي، طلبت منه أن يأتي لزيارتي فأخبرني بأنه لا يشعر برغبة في الخروج، عندما عرضت عليه أن أذهب أنا لزيارته، تردد بعض الشيء ثم أخبرني أنه مشغول بأشياء أخرى
لاحظت أن صديقي آدم قد تغير، هناك شيء من الحرج في صوته، تبدو لي أعذاره لعدم لقائي مصطنعة، قد لا أكون في منتهى الذكاء لكن يمكنني أن افهم أو أن أشعر أن آدم لا يرغب في لقائي، لا أدري لماذا و لا أدري إذا كان سلوكه هذا له علاقة بحديثي الودي مع أبيه، هل قيمني الأب و فشلت في هذا التقييم،
هل أخبر آدم أن صداقته معي لن تفيده و قد تضر مظهره أمام أصدقاءه الآخرين، ترى ما الأوصاف التي استخدمها الأب في حديثه عني؟ فاشل؟ بطيء الفهم؟ متخلف؟ معتوه؟ و هل هذه المحادثة الهاتفية هي نهاية صداقتي بآدم؟ أنهيت المحادثة بعد أن قلت لآدم اني أفهم ظروفه.
بعدها أخبرت أمي أني سأذهب في الغد لأداء العمل التطوعي بالملجأ
https://www.facebook.com/you.write.syrianews
مقالاتك جميلة اكثر ما اعجبني فيها الهدوء الذي تعيش فيه