سأتناول هذا الموضوع من خلال النقاط التالية :

1-ما حصل ضد كادر مجلة (شارلي ايبدو) في باريس يوم 7/1 /2015 ، أي قبل الانتهاء من أعياد الميلاد ورأس السنة الميلادية ، هو عمل إجرامي إرهابي مرفوض بكل المعاني والمعايير (كما أي عمل إرهابي آخر في أي مكان على الأرض السورية، أو العراقية ،أو النيجيرية أو غيرها) بغض النظر عن آرائنا بسياسات الحكومة الفرنسية ومواقف الرئيس الفرنسي الخاطئة ، والذي أراهُ أهزل رئيس في تاريخ فرنسا

 وأستغربُ كيف أن هذا الشعب العظيم لم يعد يُنجِب قادة عظاما يليقون بمكانة فرنسا وتاريخها ، فأنتجوا وراء بعض فرانسوا أولاند وقبله نيكولا ساركوزي ، في انتخابات تُوحِي أن فرنسا باتت تعاني من العقم السياسي، وإلا لا يُعقل أن يتعاقب على الإليزيه رئيسين لا يصلحان إلا مادّة للرسوم الكاريكاتورية المضحكة وسياساتهم ومواقفهم وتصرفاتهم وحركاتهم وتصريحاتهم أقرب إلى الفكاهة منها إلى الجدية .. فلا كاريزما ولا هيبة حتى في شخصيتهم وشكلهم ، ولا مقدرة على شدّ المشاهدين والتأثير بهم !! .. فهل يُعقل أن هذين كانا وجه (السحّارة) لدى الساسة الفرنسيون ؟؟.

2- العمل الإرهابي الذي ذهب ضحيته إثني عشر شخصا من العاملين بتلك المجلّة وما رافق ذلك من ردود فعل غاضبة ومُستنكِرة ليس فقط داخل فرنسا ،وإنما في كل أوروبا والولايات المتحدة وكندا ، وكل العالم الغربي ، إنما هذا قد يقضي على آخر المشاعر الإيجابية المتبقية لدى نسبة ضئيلة في العالم الغربي عن الإسلام ..!!..

 شعوب العالم الغربي عموما لا تُميِّز بين الإسلام وبين سلوكيات المسلمين ، وفي أذهانهم ما يقوم به المسلمون (حتى المتطرفون والإرهابيون) باسم الإسلام ، إنما يُجسِّد (بالنسبة لهم) حقيقة الإسلام كدينٍ انتشر بحد السيف والقتل والعنف ، وذلك حسبما تربُّوا في بيوتهم ومجتمعاتهم ومؤسساتهم التربوية وحتى الدينية ... والكنيسة في الغرب ما زالت لا تعترف بالإسلام كدين سماوي ولا يعترفون بالرسول محمد(ص) بأنه رسولٌ ، كما هو السيد المسيح .. وينظرون للمسلم نظرة دونية جدا تنحدر لمستوى نظرتهم (للحيوان) !!..

هذا ليس تدليسا على الغرب وليس استنتاجا أو تحليلا وإنما كلاما كنتُ أسمعه من مواطنين غربيين حينما كانوا يتحدّثون بصراحة وبلا مجاملات أو ممالئة !!.. وإن كان الساسة الغربيون وانطلاقا من مواقع المسئولية والمصالح يحرصون (مجاملة) على التفريق بين الإسلام وبين ممارسات بعض المسلمين الإرهابية ، ويقولون أن هؤلاء لا علاقة لهم بالإسلام ، فإنما هذا لا يُعبِّر عن قناعاتهم الحقيقية ، والتي لا تختلف عن القناعات المنتشرة في مجتمعاتهم عن الإسلام والمسلمين ... ولكنهم كمسؤولين وقيادات لا يمكنهم القول غير ذلك وإلا فإنهم يقودون بلدانهم إلى حالة الحرب الحقيقية المُعلنة مع العالم الإسلامي إن تحدّثوا بغير ذلك .. ولذا هم يتعاملون "سياسة" لأنهم حريصون أيضا على مصالح بلدانهم في العالم الإسلامي وعدم تهديد هذه المصالح ..
 

3- من طرفهم فإن المسلمين ، لاسيما المقيمين في الغرب ، ينأون بأنفسهم دوما عن كل أعمال العنف والإرهاب التي تُنفَّذُ باسم الإسلام، ولكنهم لا يقومون بما تجب الإقامة به لمحاصرة أصحاب (العقول) المتطرفة ونبذهم والإخبار عنهم مباشرة للجهات المعنية ، لاسيما أنهم (المسلمون) أصبحوا مواطنين في تلك الدول بعد أن هربوا من ظروف الحياة في أوطانهم الأصلية لمائة سبب وسبب ، ووجدوا في هذا العالم الغربي العَلماني الحر ملاذهم وضالّتهم وتوفّرت لهم فرص العيش والكسب والاحترام والحرية ، وكل هذا افتقدوه في أوطانهم الأصلية ، بل أن بعضهم يحلم بأن تتأسلم القارة الأوروبية بعد عدّة عقود بسبب التكاثر بين المسلمين وقلّة الولادات لدى أهل العالم الغربي ...

4- أحدهم يقول في افتتاحيةٍ له في صحيفته الالكترونية صباح 10/1 أنه يعيش في الغرب منذ أربعين عاما ولم يكن إرهابيا ، فلماذا عليه دوما أن يكون في موقع الدفاع عن نفسه لِكونِه مسلما؟؟ ثم يتساءل : وهل اعتذرَ شعب فرنسا عن تدخلها في ليبيا ؟؟ .. ولكنّه ينسى أنّه في كل مقالاته حينما يتعرض لأحداث المنطقة وللعنف فإنه لا يستخدم كلمة إرهاب في وصفهِ لداعش ، بل لا يقول إلا (الدولة الإسلامية) ، وحينما يذكر (ابن لادن) لا يقول إلا الشيخ (ابن لادن) ويتبعها (بالترحم عليه) ، ولذا فإنّ قولَه أنه لم يمارس الإرهاب مباشرة فربما صحيح

 ولكن حينما تكون عواطفه هو وأمثالهِ مع (رموز) هذا الإرهاب والتطرّف ، فماذا يمكن القول عنه ؟؟. أليسَ من واجبه وواجب كل النُخَب المسلمة في الغرب تسخير أقلامها لفضح التطرف والإرهاب وتوعية المسلمين في الغرب ، وغير الغرب، ضد ثقافة التطرف والإرهاب ؟؟ نعم هذه مسئوليتهم وإن أهملوها عن قصد أو عن حسن نيّة ، فهم مسئولون أمام الضمير والواجب والدين ... وقبل أن نطلب من الفرنسيين وغيرهم الاعتذار عن ضرب ليبيا فلنحاسب الجامعة العربية والبلدان العربية والأنظمة العربية التي مهّدت للغرب ولمجلس الأمن الدولي ، ووفّرت له الغطاء وأرسلت طائراتها أيضا لمشاركته في ضرب ليبيا ، وطالبتهُ بضرب سورية أيضا !!..

5- هناك حقيقة لا يمكننا نكرانها ، وهي أن بين المسلمين ، وخاصّة المتطرفين والإرهابيين والمتعصبين ، حقدٌ على ما وصل له الغرب من حضارةٍ ونهضة وتقدُّمٍ سبق العالم الإسلامي بألف عام ، وبدل أن يسعى أولئك للارتقاء ببلدانهم إلى مستوى الغرب والإفادة من كل تجارب هذا الغرب ، وفي مقدمتها التجارب السياسية والعَلمانية ، والدساتير ، والجامعات والمدارس ، وطرق وأساليب ومناهج التربية ، وغيرها الكثير الكثير ، فإنهم بدلا من ذلك يريدون أن يعيدوا هذا الغرب ألف سنة إلى الخلف ، كما يسعون لإعادة العالم الإسلامي ألف سنة إلى الخلف أيضا ، على الرغم من كل تخلفه وجهله الحالي ، فهذا المستوى من التخلف لا يناسب رؤيتهم وعقولهم الظلامية ...وهم يريدون المزيد والمزيد ...

6- المظاهرات التي خرجت، وستخرج في العالم الغربي ، تعاطفا مع فرنسا إنما تعكس مدى الغضب الذي بات يجتاح هذا الغرب ، والخشية أن ترفع هذه المظاهرات شعارات معادية للإسلام بالمُطلق ، وعدم التمييز بين الإسلام وبين الإرهاب الذي يقوم به البعض باسم الإسلام .. وأعترِفُ هنا أنه ليس من السهل إقناع المواطن الغربي بهذا التمييز ، انطلاقا من معرفتي وخبرتي ونقاشاتي لدى العديدين من الشباب والشابّات الغربيين في البُلدان التي خدمتُ في بعثات بلادي الدبلوماسية بها ، كما بودابست وأثينا وجنيف وبروكسل ، وقبلها نيويورك !!.. فقد تجد من يرتاح لك على الصعيد الشخصي ولكن بشكل عام لا يرتاح للمسلمين ويضعهم جميعا في مستوى واحدا من حيث النظرة !!

بل ليس من السهل أن تقنعهم بأبسط الأمور وهي أنه ليس كل امرأة أو فتاة مسلمة تضع على رأسها الغطاء !!. بل كيف سيقتنعون بذلك إن كان سفيرٌ لبلدٍ عربي عَلماني يقول لأصدقائه في بلدٍ أوروبي : لا تقيموا علاقة صداقة مع هذا الشخص ، فهو مسلم وهؤلاء يُغطّون وجوه نسائهم وبناتهم ولا يسمحون لأحدٍ أن يراها !!( وإن كنتَ شاطرا استطِعْ بعدها أن تقنعهم أن هذا السفير كذّاب وتافه ومُنحَط ، وهو ليس سوى شخص متعصّب وحاقد وطائفي)!!. ليس هذا لوحدهِ ، بل بكل أسف أقول أن هناك من أبناء مجتمعاتنا من يُعزّزون هذه النظرة السلبية السيئة لدى الغربيين عن المسلمين حينما يسافرون إلى بلدان الغرب ويدرسون بجامعاته !!

وهذا الكلام أقولهُ عن تجربة وخبرة وليس كلاما ارتجاليا ... بل هناك من درَسوا بجامعات الغرب وعادوا ليقولوا أنهم يشعرون بالانتماء لفرنسا وبريطانيا ، أو غيرها ، أكثر من انتمائهم لبُلدانهم، التي أوفدتهُم وخسرت عليهم من أموال شعوبها حتى تحصّلوا على الشهادات !!..فإن كنا نحن أوّلا لسنا أوفياء لأوطاننا ، ولسنا صادقين مع أنفسنا ، ونسيء لسمعة بعضنا ، ولا يحبُّ أحدنا الآخر إلا بالمجاملات والكذب والنفاق ،فهل من حقِّنا أن نعتب بعدها على هذا الغرب ؟؟..

7- حينما تحدّث الرئيس الأمريكي السابق (جورج بوش) الصغير ، أو الابن ، عن (حرب صليبية جديدة) بعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 ، ثم تراجعَ بحجّة أنّها كانت زلّة لسان ، فهو عبّر عن حقيقة مايدور بذهنه ، وبأذهان كل هذا الغرب ، وهو أنهم ما زالوا في مواجهةٍ مع الإسلام ،ولكن كما أشرتُ سابقا فليس بمقدور القادة أن يُفصِحوا عن ذلك علنا ، ويُخشى أن تتعزز هذه الثقافة اليوم بعد أحداث فرنسا ، وتترسّخ أكثر بأذهان المجتمعات الغربية ، فهم بذلك يخدمون تماما التطرُّف بالإسلام ، ويخدمون الإرهاب والإرهابيون ، لأن هؤلاء هم من يريدون جر هذا الغرب إلى هكذا ثقافة كي يقدّموا أنفسهم وكأنهم هم من يتصدى (للصليبيين) الجدد دفاعا عن الإسلام !!.. ولذا يجب أن ترتفع كل الأصوات لإدانة ما حصل من إرهاب في فرنسا بموازاة التبرؤ من الجماعات الإرهابية والمتطرفة والتأكيد أن هذه ليست من الإسلام وإنما جماعات مرفوضة وخارجة عنه ، كما أية جماعات ومافيات وعصابات ظهرت في التاريخ الأوروبي ..

8- رغم قناعتي بأن البُلدان الغربية تستثمر بالإرهاب (وهذا الاستثمار خطير جدا وغير مضمون النتائج) إلا أنني لا أرى في عملية شارلي ايبدو ملامح ارتداد الإرهاب على فرنسا بعد(على الأقل حتى الوقت الراهن) لأن دوافعها واضحة ومُعلنة وهي الانتقام من الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول محمد(ص) التي نشرتها المجلة بالماضي . حتى هناك أنباء أفادت أن إطلاق النار كان بالتحديد على الأشخاص المعنيين بالانتقام منهم ولم يكن عشوائيا ... ولذا من المُبكِر القول أن الإرهاب بات يرتدُّ على داعميه (ولكن هذا سيحصل في وقتٍ ما) ، بل أن المخابرات الفرنسية هي من تُرسِل الإرهابيون ، أو على الأقل تتغاضى عنهم بالتنسيق مع المخابرات التركية التي تُسهِّل لهم الدخول للأراضي السورية ... ولذا فالإرهابيون يشعرون بأنهم مدينون اليوم لتلك البُلدان ....

9- يتوجّب على هذا الغرب أن يتوقف عن النفاق في تعامله مع الإرهاب وأن يتوقف عن الاستثمار بالإرهاب ، فحيث يخدم مصالحهُ يجب دعمه ، وحيث لا يخدم مصالحهُ تجب محاربته !! . كان من الممكن أن يذهب سعيد كواشي للقتال في جمهورية مالي ، وأخيه شريف للقتال في سورية ، فحينها يصبح الأول إرهابيا والثاني (مناضلا) لدى الساسة الغربيون !! هذا استثمار رخيص في الإرهاب من اجل خدمة المصالح ، ولكن تبيّن اليوم أن هذا الاستثمار هو كما التجارة ، لا يكون مربحٌ دوما ، بل قد تترتب عليه خسائر كبيرة غير محسوبة ، كما حصل في فرنسا !!..

10- المتطرفون في الغرب سيزيدون تطرُّفا وسيعتبرون أنفسهم في مواجهةٍ مع الإسلام ، وهذا سيلتقي مع طروحات المتطرفين والإرهابيين أنهم في مواجهة مع الغرب (الصليبي) ... وواجب كل القوى العَلمانية والليبرالية والمعتدلة والمُعادية للتطرف في الجهتين ( جهة الغرب المسيحي وجهة الإسلام) تفويت الفرصة على المتطرفين من الطرفين وحصر الأمور في بوتقتها الطبيعية وأن هؤلاء المتطرفين لا يمثلون أديانهم ولا مجتمعاتهم ويجب أن تتضافر كل الجهود الدولية في وجههم !!... فلا الغرب يمكنه الاستغناء عن بلاد العرب والمسلمين ، ولا هؤلاء قادرون عن الاستغناء عن الغرب ، ونحن في عالمٍ متداخل ومتشابك ومترابط وكلهُّ يتأثر ببعض ، وحتى مفهوم الأمن بات في جزءٍ منه مفهوما عالميا يمسُّ كل بلدان العالم .. لاسيّما لجهة التصدّي للإرهاب الذي يهدِّدُ أمن العالم كله .. والتصدّي للأوبئة والأمراض وكوارث الطبيعة .. فهذه لا تعرف حدودا بين الدول ...

11- كما ينظرُ العرب والمسلمون لتاريخ الغرب أنه استعماري ، فإن هذا الغرب ينظر لتاريخ المسلمين الذين استولوا ثمانمائة عام على الأندلس ، ولتاريخ العثمانيين واجتياحهم لأوروبا ، على أنه استعمارٌ أيضا .. وإن كان يطيبُ لنا كمسلمين أن نصف التوسع والتمدّد الإسلامي على أنه (فتوحات) وذات رسالة إنسانية هدفها نشر الإسلام ، فإن هذا الغرب بالمقابل ينظر إلى احتلاله لكل بلدان العالم الثالث أنه كان رسالة حضارية لتوعية هذه الشعوب ومساعدتها في التقدم والعلم والبناء ... ومن هنا فإن الجدل حول هذه الأمور لا طائلة منها ، والماضي قد مضى وعلى الجميع التفكير بالمستقبل لِضمان حياةٍ أفضل لكل البشرية ..

12- أصبح الجهد مضاعفا جدا أمام مؤسسات العالم الإسلامي الدينية ، وقادة هذا العالم الإسلامي ومشايخه ، ومنظمة التعاون الإسلامي ( التي لا صوت ولا حسّ لها) وأعضائها السبع والخمسون ،بالتصدي للتطرف والتعصب والوقوف بقوة وحزمٍ ضد كل أشكال التحريض على العنف والحقد والكراهية ،سواء كان بين المسلمين أو ضد أبناء أي دينٍ آخرٍ ... فثقافة الحقد والكراهية لا تبني مجتمعات وإنما تحطِّم ما هو مبنيٌ مسبَقاً ....

13- وما أود الإشارة إليه أخيرا هو كيف تمكنّت تلك الفتاة الفرنسية (حياة بو مدين) المطلوبة للأمن الفرنسي ، من دخول تركيا والعبور منها إلى سورية وبمعرفة الشرطة التركية ؟؟ ألا يعني أن حكومة أردوغان ما زالت تخدع العالم بإدانتها للإرهاب بينما هي ما زالت طريق عبور كل الإرهابيين إلى سورية ؟!. هل سيخبط القادة الأوروبيون هذه المرّة بأياديهم على الطاولة ويقولون لأردوغان ولكافة الحكومات التي تدعم الإرهاب : كفى يعني كفى !!... أمْ ما زال لديهم مُتّسعا للاستثمار بالإرهاب والتظاهر بمكافحته أمام شعوبهم بينما بالحقيقة هو بالنسبة لهم تجارة واستثمار ؟؟ سنرى لاحقا ....


https://www.facebook.com/you.write.syrianews