syria.jpg
مساهمات القراء
قصص قصيرة
رحلة الذلّ الى لبنان...بقلم : آرا سوفاليان

 تعود بي الذكرى الى اواخر الستينات من القرن الماضي والى دار للسينما هي الزهراء وتقع في منطقة الصالحية في دمشق...في هذه السينما حضرنا أنا وأبي وأمي وإخوتي فيلم سفر برلك للسيدة فيروز ومن خلفها الأخوين رحباني حيث غنت في هذا الفيلم أجمل أغانيها (ضحك اللوز، يا أهل الدار،عنبية، علّموني حبك، دوّارة عل دوّارة)...


وكنت طفلاً وفي المرحلة الابتدائية ومع ذلك فهمت أن الفيلم يتحدث عن الحرب العالمية الأولى وعن المجاعة الكبرى التي لحقت ببلاد الشام...وبلاد الشام هي سوريا ولبنان وفلسطين والأردن وكانت وحدة جغرافية واحدة، قبل ان يمزقها اتفاق سايكس بيكو وهو اتفاق بين حفنة من اللصوص قرروا تقاسم ما ليس لهم، قرروا نهب ارث الرجل المريض (السلطنة العثمانية...قدر العرب المميت) فتمزقت بلاد الشام شر تمزيق، وزرعوا بعملهم هذا بذرة التفرقة والكراهية التي لا تنتهي.
 


فهمت أن الجوع يفتك باللبنانيين، وأن السوريين ليسوا أفضل حالاً، خاصة وأن جمال باشا السفاح ذهب بمعظم شباب سوريا الى حرب الترعة ولم يأخذ معه الماء ولا الطعام فمات معظم شباب سوريا في هذه الحرب من الجوع والعطش وليس من القتال، ولكن في لبنان جبال وفي سوريا سهول والقمح يزرع في سوريا، واتفق بعض الوجهاء من اللبنايين وذهبوا الى الشام يريدون المعونة من اخوتهم السوريين وعادوا الى لبنان على أمل ان يصل المدد قريباً خاصة وأن الموت من جوع سفر برلك كان يحصد اللبنانيين...وطالت مدة الانتظار.
 

 


وحدثت لعبة فنية في التصوير تتلخص برفع عدسة الكاميرا الى الأعلى بإتجاه السماء ثم تنزيلها ببطئ شديد لتصل الى مقدمة قافلة الجمال التي تحمل أكياس الحنطة وفي المقدمة الفنان الشعبي رفيق سبيعي "أبو صيّاح" يتقدم ركب معونة الحنطة الى الإخوة اللبنانيين.
وتجتاح المكان عاصفة من المشاعر، تتلوها عاصفة من التصفيق، ورأيت الدموع في عينا أمي ولم أستغرب فهي من مواليد زحلة عام 1932 ولكن ماذا بالنسبة للبقية والسينما ممتلئة الى آخرها...لقد كانوا جميعاً من السوريين.
 

 


ـ في الحرب الأهلية اللبناية كان لي اربع عمّات يعيشون في لبنان مع أزواجهم وأولادهم، وكان لوالدي خالة لديها ابنتين متزوجتين، اضطروا جميعاً للمجئ الى بيت أخيهم (والدي) وكانوا يأتون ويعودون وبالتناوب لدرجة أنهم أصبحوا جزء من حياتنا اليومية وكانت ولا زالت محبتنا لهم باقية الى اليوم.

ـ ولم تتحسن الظروف في لبنان واستمرت الحرب الأهلية وامتدت لسنين طويلة وجاء الاجتياح الاسرائيلي وجاءت حرب الجنوب، وحرب الضاحية وووو...وباب العبور الى سوريا مشرع في الذهاب وفي الاياب.
 


ـ ودارت الأيام وكسروا الجرّة والحق معهم 100% فهناك من السوريين من عاث فساداً في لبنان و بطريقة مروعة، ولكن ما دخل الشعب السوري كله بما حدث ولماذا نضع الجميع في بوتقة واحدة؟ وحدث لسوريا ما حدث، واستطاع السوريون رغم محنتهم تشكيل فائض في ميزان المدفوعات اللبناني، حيث تتم معاملة السوريين كسيّاح ومن الدرجة السياحية الممتازة ويتم اتحافهم بفواتير يعجز عن دفعها أهل الخليج الذين يمموا صوب ماليزيا واندونيسيا والفيليبين وتركيا لأن تركيا هي جنة الله على الأرض وهو الاسم الذي أطلقه الارمن على بلادهم قبل ان تقع في يد الأتراك ويضيع استقلاهم ويباد القسم الأعظم من شعبهم في مرحلة لاحقة

 

 

وهناك من أهل الخليج من يستحسن تذوق الحلويات التركية كالباخلافا (البقلاوة) والكونافا (الكنافة) وبوغاجاه (بقج القشطة والفستق الحلبي)، والذهاب لزيارة قصر ضولما باختشا (حديقة الكوسا) ومشاهدة من يختفي خلف شجر الكوسا...اما مطار بيروت الدولي وطائراته فحدثّ ولا حرج فلقد جرّبه كل السوريين، والبعض وأنا منهم، لمرات عديدة وبأفدح الأثمان، ففي لبنان الـ هاي سيزن موسم له بداية وليست له نهاية أبداً.
 


ـ الأحد الماضي وفي بيروت حيث مينا الحبايب...ذهبت فتاة أرمنية مع صديقاتها اللبنانيات الى البلاج، وهذا الاجراء يتكرر كل اسبوع ولصيفيات متعددة ومنذ سنين بعيدة.
 


في نفس المكان المعتاد جلست الفتاة وصديقاتها وتم تجهيز الافطار والمثلجات والمشروبات، وباشر الجميع بتناول الترويئة، وجلس الى يمينهم اربع شبان تتراوح اعمارهم ما بين الـ 15 والـ 20 وكانوا غاية في اللطف ولم ينظروا بـإتجاه الفتيات ولا نظروا الى أحد ...كانوا بحالهم.

وجاء دركي من حرس الشاطئ ومعه من معه من أترابه واتجه الى الشباب الجالسين بمفردهم وكانوا يتناولون بعض السندويتشات التي تم اعدادها على عجل ويتناوبون على لتر كولا وفي يد كل منهم كأس بلاستكي وحيد الاستعمال ودار الحوار الآتي:

ـ انتم سوريون أليس كذلك؟

ـ نعم نحن سوريون

ـ اللعنة وما الذي جاء بكم الى هنا؟

ـ لم نفعل شيء، ولم نتحدث مع أحد ولم نزعج أحد، نحن نتناول طعامنا فحسب

ـ ايها الكلاب عندما يحدثكم ضابط من الشرطة يجب أن تقفوا

ـ يا سيدي نأسف لذلك ونعتذر.

ـ خذوا معكم هذه الخروق البالية فالشاطئ لا تنقصه قذارة، وابتعدوا من هنا، اخرجو الى ما بعد الأسلاك الشائكة فبقاؤكم هنا لا يناسبنا، وإن عدتم فسيتم سجنكم...عودوا من حيث أتيتم، لعن الله تلك الساعة.

وفي نظرة ذلّ وإنكسار انحنى الشباب السوريون والتقطوا حاجياتهم من الأرض وذهبوا في مهانة وهم صاغرون.

اقترب الدركي ومن معه من الفتاة الأرمنية وصديقاتها، وغمز بكلتا عيناه يريد معرفة رأيهم بما فعله وهو منتشي بالبطولة ومنتفخ ويشعر بأنه فعل ما لم يفعله العبسي.

قالت له الفتاة الأرمنية: عفارم عليك يا بطل ... رفعت راسنا...فأجاب: هؤلاء كلاب ولا ينفع معهم غير ذلك...قالت: تنعتهم بالكلاب وهم أفضل منك بكثير...قال: انتي معهم أم مع لبنان

قالت: مع لبنان بالتأكيد ومعهم ولست معك ولست مع من ينتحل صفة ضابط وهو دركي ولست مع من يسيء الى بلده ويستعمل أقذع الألفاظ في مواجهة اناس لم يسيؤوا لأحد وهم مجرّد ضيوف وفضلهم وفضل أهاليهم سابق !!! والأهم من هذا وذاك انني سورية ومسقط رأسي دمشق ولحم كتفي من هناك ...

 

قال: انا فعلت ذلك لأحميك انت وصديقاتك منهم، قالت: ما شاء الله ... من الذي طلبك وطلب حمايتك ...هؤلاء لم يفعلوا شيئاً ولم ينظروا بإتجاهنا بالمطلق ولم يتحدثوا معنا لأن البلاء الذي فيهم يكفيهم...

 

قال: هؤلاء كلاب يمتهنون النشل وسرقة الحقائب النسائية ونسائهم كالسرطان يفترشون الأرصفة في الشوارع يبيعون علب الكلينيكس، ويبيعون ليلاً أشياء أخرى...

 

قالت: لعنة الله عليك أليست لديك أخوات بنات..

 

.قال: مقرف أن تدّعي بأنك سورية وتنزلي بمستواكي الى مستواهم...

 

قالت: انا سورية أيها الوضيع، أنا سورية أيها الكلب الأجرب، اتحدث باللهجة اللبنانية لأني أعيش في لبنان منذ فترة بعيدة، منذ أن نقل أبي مصنعه الى هنا، وقبل الحرب بكثير، أنا سورية يا ناكر الجميل، تحتاج انت والذين هم من امثالك الى ألف سلّم للصعود الى مستوى السوريين.

وتحول المشهد الى مشهد في مسرحية من مسرحيات اللا معقول واجتمع الناس ووصلت شتائم الدركي الى صخرة الروشة التي كادت أن تنقلب من قذاعة شتائمه.

وحدثت لعبة فنية في التصوير تتلخص برفع عدسة الكاميرا الى الأعلى بإتجاه السماء ثم تنزيلها ببطئ شديد لتصل الى مقدمة قافلة الجمال التي تحمل أكياس الحنطة وفي المقدمة الفنان الشعبي رفيق سبيعي "أبو صيّاح" يتقدم ركب معونة الحنطة الى الإخوة اللبنانيين.

وتجتاح المكان عاصفة من المشاعر، تتلوها عاصفة من التصفيق، ورأيت الدموع في عينا أمي ولم أستغرب فهي من مواليد زحلة عام 1932 ولكن ماذا بالنسبة للبقية والسينما ممتلئة الى آخرها...لقد كانوا جميعاً من السوريين.

آرا سوفاليان

كاتب انساني وباحث في الشأن الأرمني

26/05/2015

 

 

https://www.facebook.com/you.write.syrianews

2015-07-02
التعليقات
ابراهيم الديري
2015-07-05 09:46:10
الفرس من الفارس
بس تتحول لبنان من مزرعةعصابات بينها هدنة مفتوحة لدولة حقيقة وقتها رح يتعلموا كيف يتعاملوا مع الناس بطريقة حضارية

سوريا
Mazen
2015-07-03 20:56:26
bravo
I was touched by the story,God bless you,and all people who think and behave like you.

الولايات المتحدة
نذير ابو الخير
2015-07-03 19:32:35
رحلة الذل الى لبنان
فعلآ للأسف الشديد ان أمثال هذا الدركي كثيره ، فعندما يلبس احدهم البدلة العسكرية يظن نفسه عنتر ، ولكن وصلنا الى ما نحن عليه بسبب هذا الدركي وامثاله، لا أتمنى له ولشعبنا اللبناني إلا كل خير، ولكن ما حصل في سفر برلك يمكن ان يعاد، وربما يدفع الثمن هو او أولاده شكرآ لكاتب المقال

إسبانيا