syria.jpg
مساهمات القراء
قصص قصيرة
رحلة مروان إلى الموت (2).. . بقلم : محمد نجدة شهيد

ظفر مروان بحياة جديدة ليس لها قيمة إلا المزيد من العذاب بعد أن أفلت بجلده من الحساب والعقاب إلى حين ، ولكنه أصبح طريداً بعيداً عن المخزن وعن المدير العام نفسه . اعتقد أن خروجه سالماً إلى بيروت فكرة مغرية ، يخرج طريداً ضعيفاً وخائفاً ويعود قوياً وقادراً للانتقام من جديد . وأخذ يستعد متوهماً لاستثمار ما جمعه من المال الحرام في مشاريع تجارية في أوروبا ستعيده بخفي حنين إلى الازقة من حيث أتى .


أصبح بيت الشيطان خاوياً تفوح منه خليط من روائح الرطوبة ونفايات الموظفين وبقايا رائحة مروان الكريهة ، ويخيم عليه السكون والعتمة ، صمت موحش غريب ، لا يُسمع فيه إلا دبيب الفئران . كان المدير العام يعتقد أن مروان لم يكن يستحق المصير الذي آل إليه . وأنه لم يسرق إلا لأنه كان جائعاً ، فلم يُصب مروان بالتخمة إلا في الأيام الأخيرة في المخزن وفي فرعه في بلاد العم سام على الرغم من كونه كان يشعر دائماً بالغربة في ذلك البلد الذي لم يتمكن أن يتعلم لغة أهله .

 


 كان يعيش في ترف لا مثيل له على حساب نفقات المخزن وفروعه الخارجية . لم ينس مروان تاريخه الطويل مع الجوع وشظف العيش إلا في تلك الأيام . ربما كان اللص مروان في نظر البعض ، ممن لم ينالوا كامل قسطهم من ظلمه وحماقاته ، يستحق الشفقة والعفو لأنه سرق بسبب الجوع لولا أن يديه ملوثتان بدم الأطهار .

 


الراعي دياب الفحل

 

 لقيه في الطريق بعض الرعاة الذين يتدرعون الليل لتهريب قطعان الأغنام عبر دروب ومسالك جبلية غرب المدينة تتفتح وتتشابك كالفخ لا يعلمها كل الناس . كانوا ينتظرون حتى يصبح الظلام دامساً . اعتقدوا أنه مجرد مهرب مثلهم ينوء بحمل بضاعته في كيس منتفخ على كتفيه مع أوزاره . كان مروان يحمل في الكيس حصته من المسروقات لم يقبل بنك سورية ولبنان الكبير إيداعها بعد أن اشتم منها رائحة الفساد .
 


وفجأة تناهى إلى سمعه من بعيد أصوات ممتدة لأجراس قطيع من الأغنام بعثت فيه شعوراً بالحيرة فبكى . كانت الشمس مشرقة أحس بدفئها تبعث في داخله احساساً متأخراً بالحياة . فأخذ يغني أغاني الموتى التي يحفظها منذ الصغر. كان الراعي دياب الفحل شاب في مقتبل العمر حسن البنيان مفعم بالحياة والقوة تركت الشمس الحارقة على محياه لوناُ أسمر بلون الزمن . ولا ريب أن له نصيباً من أسمه . يخرج كل يوم مع هدأة الفجر على دابته يقود غنمه للرعي حيث يجد الماء والعشب .
 


توقف مروان أمامه زائغ العينين تفوح منه رائحة الطرقات ، وسأله بدون أن يبادر إلى السلام : تعرف أين طريق بيروت ؟ أصبحت بيروت بالنسبة لمروان حلماً شاحباً بعد طرده بطريقة مهينة من المخزن . تأمله الراعي دياب ملياً ، وسأله هل هو ضائع ، وقال له يعابثه ، بعد أن اقتنع بعلامات البلاهة فوق وجهه ، أنت كبيرهم . إنما تُعرف عنجر وكل الأماكن بك . وأي الطرق سرت إليها تحمل بيروتاً حيث تحل . أحس مروان بزهو لم يشعر بمثله قط من قبل .
 


مد دياب يده إلى مروان ببعض التمر الجاف الذي يقتات عليه . أي عذوبة في تلك الحركة لجائع سابق أعتاد وأهله أن يباتوا وبطونهم خاوية ، يتكففون الناس في أيديهم لا يملكون إلا ذل السؤال . يسعون بين أزقة البلدة يتلمسون بقايا أطباق الطعام حتى أصبح مروان عظامه بارزة من شدة سنوات الجوع . تناول مروان إحداها ثم لوى وجهه بطريقة ساذجة ليُظهر مدى طيب مذاقها . تركت الأيام في داخله منذ الصغر جوعاً لا يشبع . وتذكر على الفور كيف كان يجمع أمامه كل الفتات التي يتركها الضيوف على الموائد الرسمية في المخزن ويأكلها بشراهة وحنق . كان مروان جائعاً ، وسيظل جائعاً ، انتهت أيام الحرمان ولم يغادر جسده وخز آلام الجوع .


قال له أنت في وادي عنجر . وأشار بعصاه إلى بعيد . امضي للغرب . كان الطريق إلى بيروت يمتد عبر دروب ملتوية وبيد موحشة مغطاة بالأحجار ونباتات يابسة . لو أنك سرت يوم وليلة فسوف تصل إلى بيروت . كان مروان ينظر إليه بثبات وهو يشير بعصاه بعد أن استيقظت فيه مشاعر الخضوع والخنوع القابعة في أعمق أعماقه .


لم يكن مروان مرضي الأخلاق محمود الشيم ، أو كريم النفس . كان أشر صنوف لصوص بساتين الرازي . فظاً غليظ القلب ، لم تسعى وراءه امرأة يوماً ، مصاب بتشوه أخلاقي وسلوكي تنعكس بوضوح في مثل هذه الحالات في رفات جفنيه وحركات عينيه شبه الزرقاوتين المليئتين بالحيرة ، وفي قسمات وجهه الكئيب الذي لا يعرف نضرة النعيم .


طلب مروان من دياب أن يمكث معه أياماً حتى يصلح شأنه كانا خلالها يتقاسمان التمر الجاف وما تيسر من طعام كان يعده دياب على نار هادئة من أعشاب ونباتات حلوة المذاق تعلم كيف يجمعها من عطار أرمني عجوز يأتي إلى الوادي مع تغير الفصول لجمع اعشاب ونباتات برية تزدهر وتموت بسرعة لصنع خلطات سرية كمنشطات ولصناعة أنواع خاصة من العطور. وكانت تأتي إلى دياب من يوم لآخر فتاة في مقتبل العمر من القرية تعمل في منزل صاحب القطيع تحمل على رأسها صرة زوادة فيها أطعمة مقلية وأرغفة مرقوقة على الصاج مدهونة لبنة غنم .

سعى إلى حتفه بيديه

كانت سعدى تقوم بفتح صرة الزوادة وتجلس بوجهها الأسمر المليء بوهج الرغبة أمام دياب وهو يأكل بهدوء ويقدم بعضاً منها إلى مروان بعد ما رأى تلك النظرة الجائعة في عينيه . كان دياب يرافق سعدى عند مغادرتها حتى مغارة قريبة ليختلي بها . كان يهرب من أغنامه الى جسدها الذي يدب فيه دفء الحياة ، وكان مروان يقترب في كل مرة من المغارة ويختلس النظر إلى دياب وهو يجذبها الى صدرة ويحتضنها ويقبلها كأنه يحاول أن ينقل إليها بعضاً من روحه . كان يراها شبه عارية تتضوع بين ذراعيه ، يسمع صوت ضحكاتهما وتأوهاتهما . كان يلامسها في أحيان في خشونة . أصبح دياب يثير في داخل مروان الرهبة والرغبة معاً .
 


امضيا على هذه الحالة أياماً ليكتشف اثنائها دياب أن ما يحمله مروان في الكيس ليس بضائع مهربة ، كما اعتقد في البدء ، بل ليرات ذهبية ونقود أجنبية خضراء رآها من قبل في أيدي المهربين الذين يتدرعون بالظلام ويهرّبون في الليلة الواحدة أكثر من مائة رأس من الأغنام .
 


داعبت دياب نسائم الحرية والتخلص من مهنة الرعي التي تعطيه عملاً يومياً شاقاً لا يكاد يفي إلا بالقوت الضروري . كان لا يملك إلا عصى الرعي الغليظة . يعاني بصمت من تتابع الأيام والليالي دون جدوى حتى تشابكت صورته مع الأغنام . يمضي نهاره وهو يرعى العشب ويُعد شراك الصيد المناسبة . فقال لمروان أتدري؟ هناك بئر بعيده إذا شرب منها اثنان لا يفترقان . أغراه بينابيع باردة على الطريق واقترح عليه أن يغوصان سوياُ في الفجر متى وصلا إلى إحداها . وافق مروان على الفور بعد أن رأى في ذلك فرصة مناسبة ليأخذ نصيبه من دياب مثل سعدى .


ذهبا يبحثان عن بئر المحبة وسط الشعاب والوديان الجرداء بعد أن أخذا زوادة للطريق أرغفة شعير وتمر جاف وماء . كانت الدروب المقفرة تمتد أمامهما حتى أحسا بترابها في عروقهما . تقصد دياب أن يُطيل الطريق لكي يرهق مروان ليسهل عليه سلبه أو قتله إلى أن وصلا إلى بطن واد منعزل . كانت هناك بقايا من نيران الرعيان جذوات لم تخمد بعد ، ورف طائر فوقهما في هذه المنطقة المنعزلة الجرداء . يبدو أنه قد ضل الطريق إلى عشه .


سقط مروان لاهثاً تحت شجرة بلا ظل . مجرد فروع يابسة تمتد في السماء كأنها اذرع فزعة ، ينتزع أنفاسه الثقيلة بصعوبة . كان صامتاً وروحه متعبه وحلقه جاف . رأى بعض الذئاب عند حافة الأفق البعيد . وُخيل إليه كأن ملاك الموت يربض هناك وهو متدثر في عباءة سوداء يتربص به . وسرعان ما استسلم إلى إغفاءات النوم من شدة الاجهاد والجوع بعد أن توسد كيس النقود ، وأخذ يحلم ببئر المحبة وهو يغفو على حافته بجانب دياب .


لكنه أخذ يسير داخل حلم غريب اشبه بالكابوس . حلم بجثة المدير العام تهبط من الطابق العلوي للمخزن على أيدي نفس الموظفين الذين طردوه بدعوى أنه مات من التخمة . أخيراً جرؤ الموت عليه . ثم حلم بدياب يقتله بيديه ، يملأ راحة كفه برماد بقايا نيران الرعيان وينثره بشكل مفاجئ في عينيه الغائرتين في رأسه الأجوف فلم يعد يرى غير الظلام الدامس . وينقض عليه بعدها بمدية كبيرة يحتفظ بها لذبح الأغنام التي تصيبها الذئاب ، ويتركه فريسة للضواري والطيور الجارحة تنهش فيه .

لما تكبر مروان أذله رب الورى

ظل مروان يصرخ في الحلم حتى استيقظ على نداءات دياب وهو يشير إلى غيمة رمادية ممطرة . أسرع يا مروان أسرع قبل أن تهلكنا . أصبحت البئر قريبة خلف هذه التلال . تطلع مروان أمامه فرأى التلال المحيطة كالحيوانات المفترسة الرابضة . تنهد بعمق وهما يتهيأن لكي يمضيان . لم يتركه دياب يلتقط انفاسه ويسترجع تفاصيل الحلم ليتبين كل الوجوه . لم ينعم مروان بليلة أو غفوة واحدة خالية من الكوابيس الدموية . تتحول الأحلام إلى أشباح قاتمة فيشعر بالكراهية نحو نفسه ونحو الجميع . لم تكن هذه الأحلام في حقيقتها سوى بعض أعراض الاضطرابات الجنسية المشوهة لدى مروان .
 


سارا حتى وصلا مياه نبع بارد . كان ماء النبع أزرق كوجه السماء . أخذا يغوصان معاً وأمضيا على هذه الحالة ساعات . كانت مياه النبع تتقزز من ملمس جسد مروان الخشن وهو يسمع دمدماته تدعوه للغرق انتقاماً لضحاياه ... ثم تابعا طريقهما ، وأخذ دياب من جديد يدور ويلف بمروان حول التلال ليرهقه صعوداً ونزولاً قدر ما يستطيع ليسهل عليه سلبه أو قتله كأن هذه الرحلة لن تنتهي أبداً إلى أن وصلا إلى مكان مقفر في بطن الوادي تضع فيه الطيور بيضها . مكان لم يمر به بشر من قبل . ولو كان البشر يعرفونه ما وضعت الطيور بيضها على الأرض .
 


اقترح دياب أن يتوقفا قليلاً خاصة وأن بئر المحبة أصبحت على مرمى حجر. كانت هناك مغارة موحشة قريبة أراد دياب أن يقتله فيها . تمدد مروان من جديد وتوسد كالمعتاد كيس النقود . كان للريح نذيرالموت . وما أن علا شخيره الذي يشبه خوارعشرات الأبقار ، وأخذت أوداجه تنتفخ مثل ضفادع البحيرات الآسنة حتى قام دياب بسحب كيس النقود برفق وبوضع رقة كبيرة تحت رأسه ، وتركه في هذا المكان المقفر ليواجه مصيره بمفرده . ترك لمروان الخلاء الموحش الواسع والجنون . كان يريد أن يتركه في العراء للضواري للتخلص من كل أثر له . لم تطوع له نفسه أن يبوء بإثم قتله . حمل دياب الكيس وألقى نظرة أخيرة على مروان ثم هز كتفيه ومضى .
 


وفي هدأة الفجر هزته الريح الباردة فاستيقظ . فلم يجد دياب ولا ما كان يتوسده . التقط انفاسه بصعوبة وهو ينتفض من شدة الاهانة التي قد بلغت مداها . كم طعنة تقود للموت وكم طعنة بعدها لا يحس بالألم ؟ أصبح قلبه مثقلاً بالمخاوف التي تاكل الروح حتى أوشك أن يبول على نفسه . وأخذ يتساءل في حرقة : كيف تدهور به الحال إلى هذا الحد ؟
 


أخذ مروان يصرخ ويعوي في صوت عال لعل هناك من يستطيع انقاذه ! كان أضعف ما يكون في تلك اللحظة من أي وقت مضى . إلتف أخيراً حول نفسه ككلب ضال وغرق في صمت عميق .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

 

https://www.facebook.com/you.write.syrianews

 

2015-12-10
التعليقات