أرخى الوجع ذيوله على بلدنا الحبيب وأستوطن الألم في ربوعه و أضحت قصصنا الحزينة و حكاياتنا الأليمة تنساب بين الأزقة و الحارات كما ينساب الماء الرقراق في السواقي , فقد عمَّ البلاء و انتشر الدمار و أصبح الهم كبير و الحمل ثقيل و طريق الخلاص بعيد بعيد .
لقد كانت أم رامي تظن إن هذه الأزمة ورغم قسوتها و رغم صعوبتها و رغم الدمار الذي سببته على الأرض و رغم الجراح التي أدمت القلوب و قرحت العيون ستمر مرور الكرام فلا بد للشمس أن تشرق من جديد مهما طال الليل و اشتد الظلام ولم تكن تدري إن هذا الصباح الجميل ربما يكون صباحها الأخير.
فهذا اليوم منذ ولادته كان مختلفاً فالجو صافي و الهدوء المريب يعم المكان و لا أثر
لصدى أصوات المدافع و الانفجارات التي كنا نصحو و ننام على ضوضائها منذ عدة أيام
فعلى ما يبدو ان أيام الهدنة قد بدأت و ان ساعات الجحيم قد ولت و الحياة يجب ان
تستمر رغم ما أصاب الناس من التعب و ما أضناهم من الخوف و المرض .لذلك قررت إرسال
ابنها الصغير إلى المدرسة بعد غياب طويل طال كل تلك الأيام الماضية .
و منذ الصباح امتزجت القبلات مع بعض كسرات الخبز و قليل من الزيت والزعتر أما كأس
الحليب و شطيرة الجبن فقد اصبحوا من بين احلامنا المؤجلة ,ألبست الطفل الصغير
صدريته الزرقاء و بنطاله الكحلي وانطلقا معاً لتوصله بيدها إلى المدرسة .
كان رامي سعيداً بالذهاب إلى المدرسة فقد اشتاق إلى أصدقائه و حنَّ لمقاعد الدراسة
و ساحات اللعب و بينما هما يسيران على الطريق كانا يرددان معاً ما حفظه من سور
القرآن الكريم القصيرة و كانت الأم مسرورةً بسرعة حفظه و جمال تلاوته وكأن تلك
الآيات الكريمة كانت منقوشةً على ظهر قلبه أو محفوظةً تحت جفونه .
أوصلته إلى باب المدرسة وسرقت منه ما شاءت من القبل و استودعته عند ربه الذي لا
تضيع ودائعه وعادت أدراجها إلى البيت لتدير شؤونه وتقوم بمتطلباته وما كادت تفتح
النوافذ لتهوية البيت حتى سمعت هدير الطائرات وصوت المضادات الأرضية يعكر صفو
الزمان و المكان و هنا سقط ما بيدها و شل تفكيرها و لم تفكر إلا بشيء واحد هو رامي
بعيد عنها في المدرسة و عليها إحضاره.
لم تستطع الانتظار حتى يتوقف اطلاق النار فهنا الدقائق تمر كالسنوات و عقارب الساعة
تتجمد كالمستحاثات و انطلقت نحو المدرسة لإحضار ابنها حالها كحال باقي الأمهات
اللواتي تحولن فجأة إلى لبوات مفترسات همهم الوحيد الدفاع عن أشبالهن من جميع
الشرور والأخطار .
و لكن الحقد الدفين في القلوب و وراء النظارات السود وبين عدسات المناظير كان له
رأي آخر, فثلاثة رصاصات كانت كافية لكبح جماح تلك الأم و منعها من الوصول إلى
برعمها الصغير الذي ينتظرها هناك . أغمضت عينيها وسقطت على الأرض مغشياً عليها وبعد
قليل و من تحت عباءتها السوداء تجمع دمها و سال بضع خطوات باتجاه أبواب المدرسة .
وبعدها تجمعت الغيوم و بكت السماء وهطل المطر .
https://www.facebook.com/you.write.syrianews/?fref=ts