عندي قريب ـ أطال الله في عمره ـ رمز يقتدى به في سلوكه في سيرة عمره لما وهبه الله من صفات مميزة ونادرة هذه الأيام ، فهو رجل عصامي أمين وصادق ، يعتمد على ذاته في تحقيق أهدافه .
وبعد فترة لا بأس بها وبعد أن بلغ سن التقاعد زرته بداعي التواصل وان كان التواصل قليلا هذه الأيام حتى بين الأقارب ! فوجدته يعيش في جو من الرضا والسعادة الحقيقية ليس بسبب غناه بل بسبب قناعاته وتمسكه الدائم بالأمل ومحبة المقربين والأصدقاء له .
جلسنا نحتسي القهوة ونتحدث عن تجربته في الحياة والتي أعرف بعضا منها لكن الكثير منها هو ما أحببت أن اطلع عليه للاستفادة من خبرته .
قال لي : أنت تعلم أنني ابن عائلة محترمة في قريتي وقد ورث أبي عن أبيه وأجداده الغنى والمكانة الاجتماعية لكن زمنا غادرا عصف بالعائلة فتردت أمورها المالية ولكنها بقيت علما من الناحية الاجتماعية . ومنذ نعومة أظفاري كنت أعتمد على نفسي مقدرا ظروف والدي الصعبة وحدث أن قدمت الى دمشق في ستينات القرن الماضي وكنت في المرحلة الابتدائية وقد استقبلني أحد أقربائي في البداية لكنني استقليت عنه بعد وقت قصير فعشت لوحدي في غرفة صغيرة .
تعرفت الى أناس فعملت عندهم وقت الحاجة وطيلة فصل الصيف لأصرف على نفسي ايام الدراسة . كنت متفوقا في مراحل دراستي الابتدائية والاعدادية والثانوية ونجحت بتفوق في البكالوريا واخترت دراسة الهندسة وصرت مهندسا .
ولأنني لا أملك المال رضيت بالوظيفة بعد أدائي لخدمة العلم وبعد أن باشرت عملي بنحو أسبوعين طلبني مديري الى مكتبه وقال لي : أريد أن أسألك سؤالا وأرجو ألا تتضايق مني . أنت من أين ؟ فقلت له : أنا مواطن عربي سوري .
فقال : أنا سألتك لأنك تأتي الى عملك قبل كل العاملين وتغادر آخرهم ولا تغادر الا بمهمة رسمية، لا تشرب القهوة ولا الشاي وليس لك أحاديث جانبية , أكلفك بدراسة مشروع فتنجزه بسرعة واتقان فقلت ـ عدم المؤاخذة ـ انك "ضرب أجنبي" ، فقلت له : لا فأنا ابن هذا البلد .
فكلفني برئاسة دائرة ومن وقتها وأنا اما رئيس دائرة او رئيس قسم أو معاون مدير أو مدير حتى نهاية خدمتي وبلوغي سن التقاعد . قلت له : ألم تلجأ الى الواسطة ذات يوم فقال لي وقد أقسم اليمين : لم استخدمها ولا أحب ذلك عمري .
فقلت له : افلم تتعرض لمشاكل اذن ؟ قال لي : هذا امر طبيعي وخاصة اذا كنت نزيها في عملك فقد يتضر ر الكثيرون ممن يعشقون اغتنام الفرص حتى لو كانت على حساب المصلحة العامة . أنا يا عزيزي لم اخالف القانون ولو مرة في حياتي وقد عرض علي الكثير من المغريات ولو انتهزت الفرص الكثيرة التي عرضت علي لكنت اليوم واحدا من الذين يشار اليهم بالبنان في الغنى وسعة المال ولكن ذلك كان بالنسبة الي أشبه بالمستحيل فقناعتي أن ليرة بالحلال تغني عن ألف بالحرام ولو بعد حين .
ذات مرة طلبني صاحب مكتب هندسي كان استاذي في الجامعة يوما وقد حصل على عقد لانجاز دراسة لصالح الادارة التي اعمل لديها فذهبت الى مكتبه واطلعت على ما انجزه وكانت لي ملاحظات كثيرة وبعد ان شربنا القهوة ودعته خارجا وشاكرا وبينما كنت اغادر المكتب ناولني ظرفا تبين ان فيه مبلغ من المال ويبدو انه كان كبيرا نظرت اليه باستغراب وقلت له : كنت اتوقع ذلك من كل الناس الا منك استاذي . انت استاذي ومحل احترامي ومكانتك مقدسة عندي .
الم تسمع بقول الشاعر : قم للمعلم وفه التبيجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا ؟ فأخذ الظرف من يدي واعتذر مني وقال : والله لم اقصد سوى أنني أحبك وما قصدت من ذلك الا هدية محبة لا اكثر ! وذات مرة كلفوني برئاسة لجنة لتوزيع البيوت على مستحقيها وحتى لا اقع بالخطأ حصلت على قرار من ادارتي أن تتوزع البيوت بالقرعة حتى لا تتدخل الوسائط والمحسوبيات وذلك من خلال لجنة رسمية .
ذات يوم جاءني أحدهم بخصوص منزل مستحق لأخيه وطلب مني انتقاء ما يناسبه فاعتذرت منه بكل ادب لكنه اصرواحسست من بعض كلماته انه يتوعد ولما رفضت اصراره اخرج ظرفا فيه مال كثير والقاه في درج مكتبي . اخرجت الظرف من الدرج والقيته له وقلت له: هذا المكتب ليس مكتبي فهو للناس وخدمة مصالحهم ولكنني ولأول مرة اقولها لمواطن : يسعدني ان تغادر . فخرج منزعجا ! وبعد حوالي ربع ساعة اتصل زميل لي قائلا: هل تعلم ماذا فعلت مع فلان ؟ ألا تعلم انه " يشيل وزير "؟ فقلت له : انا موظف بموجب قانون العاملين وراتبي وتعويضاتي احصل عليها بموجب قوانين ومراسيم صادرة ولا فرق عندي ان كنت في دمشق او اي مكان من بلدي ...
بعد حوالي نصف ساعة اتصل رئيسي بي قائلا بحدة : ما الذي تفعله في الدائرة ؟ تعال الي بسرعة وكانت لهجته حادة . فظننت ان من قصدني صار عنده فأخذت الوثائق الصادرة وذهبت الى مكتبه ولما دخلت وجدت الرجل عنده ، فخاطبني رئيسي بلطف: صاحبنا نريد مساعدته وهو يستحق ذلك ، فقلت له سيدي هذه هي القرارات الصادرة وانا ملتزم بها، فقال لي : اعلم ذلك واعلم انك من خيرة العاملين لدي. فقلت له وقد اخرجت ورقة اعددتها مسبقا وفيها صيغة استثناء : ارجو التكرم بالموافقة لو سمحتم ، ولما قرأها قال : انا لا اوقع ! فقلت له : اذن ، فعليه الالتزام ....وبعد يومين تم نقلي ،ولكن الى دائرة اخرى !!
قصص كثيرة مررت بها وكادت تؤذيني و تودي بي الى ما لا تحمد عقباه ، لكنني كنت اكبر
من كل ما حيك لي بسبب نزاهتي واستقامتي في عملي ، واخطر تلك المحاولات ما قام بها
مهندس فرزوه الى دائرتي وعليه اكثر من تقرير رقابي ! ذات مرة قال لي : معلم ، لماذا
لا تستفيد وتفيدنا ؟ انت اليوم هنا اما بكرة فلا تعلم اين تكون ! فقلت له وكيف ؟
قال لي : هذا شأني ، المهم ابق بعيدا وسيصلك نصيبك ..قلت له : والله العظيم ، لو
عرفت يوما انك فعلت مثل هذا لقطعت يدك ..وخرج غاضبا . بعد فترة طلبتني عدة فروع امن
وحققت معي وتبين انه وواحد آخر قد رفعوا بي تقريرا فيه بعد سياسي لكن عناصر الأمن
عندما توسعوا في التحقيق معي لم يجدوا الا مواطنا يعشق بلده ويقدس قيادتها وجيشها
وشعبها الصـــادق الوفي .
قلت له : بيناتنا ..الم تتوسط لأحد لتحقيق شيء ما ؟ قال لي : قصدني العشرات من
ابناء قريتي ومعارفي وتواصلت لهم مع زملائي وتم تلبية طلبات اغلبهم بدافع المحبة
والاحترام ولولا انهم يملكون الشروط اللازمة لما تيسرت امورهم اما انا فلم اقبل
حتى كلمة شكر من اي منهم. قلت له حياك الله وأكثر من امثالك . كيف تقضي وقتك وتعيش
حياتك ؟ ارجو ان تنصحني فاستفيد من خبرتك. قال لي : عندما تقوم بواجبك وضميرك يقظ
في كل خطوة لك وشعارك المصلحة العامة وسلامة وطنك فلا تخش شيئا ، ولا تفكر بالرزق
فانه يأتيك من حيث لا تدري طالما انك تتعامل بنزاهة ومصداقية . ان اهم ما يسرني
اليوم انني انام وضميري مرتاح . ربيت اولادي على الثقة بالنفس واعتماد النزاهة
واحترام الناس شعارا في حياتهم .
صحيح انني اعيش في بيت متواضع لكنه اجمل عندي من
قصور الدنيا ان كانت قد بناها الغش والاحتيال . وصدقني فان مال الدنيا لايغنيك ما
لم يكن حلالا . التزمت بعد تقاعدي بأمور ما كنت استطيعها في عملي بسبب الضغط
الكبيرفي العمل ووضعتها قانونا التزم به ما امكنني .
ـ ان كان لديك بعض المال فلا تخبئه بل استخدمه
لمصلحتك وتمتع به .
ـ توقف عن القلق حتى بشأن أولادك فقد قمت تجاههم بما استطعت ، وعودهم الاعتماد على
الذات .
ـ حافظ على حياة صحية في الأكل والشرب والنوم ، ومارس الرياضة الخفيفة كالمشي وبشكل
يومي .
ـ اشتر الأفضل دائما لك ولشريكة حياتك ، وتوقع ان احدكما قد يفقد الآخر يوما وهذه
ارادة الله.
ـ لا تتوقف طويلا امام الأمور الصغيرة ، ولا تشغل ذاتك بالماضي بل عش حاضرك.
ـ حتى لو تجاوزت سن الستين ، فاغمر شريط عمرك بالمحبة ما استطعت ، وكذلك أقرباءك
وأصدقاءك.
ـ تذكر ان الانسان لا يكبر في العمر مادام يحتفظ بالذكاء والعاطفة الصادقة.
ـ كن فخورا بما لديك .
ـ لا تشغل نفسك بالموضة بل اختر ما يناسبك.
ـ تابع المستجدات من باب حب الاطلاع من خلال التلفاز ووسائل التواصل الاجتماعي ، و
لا تحمل الأمور فوق ما تستحق .
ـ، احترم جيل الشباب وتفهم آراءهم وشاركهم بالمشورة.
ـ ابتعد عن استخدام مصطلح : كنا في ايامنا فأنت ابن اليوم.
ـ تشبت ببعض الذكريات الجميلة وتذكر ان الحياة قصيرة ، ولا تضيع وقتك في امور غير
مجدية .
ـ لا تتخل عن هواياتك وحاول ايجاد هوايات جديدة دائما .
ـ شارك أقرباءك وأصدقاءك مناسباتهم ولا تحبس ذاتك في المنزل .
ـ اغفر لمن يسيء اليك ما استطعت .
ـ اضحك ما استطعت وخاصة كلما طال بك العمر .
ـ لا تأبه لما يقوله الآخرون طالما انك ترضي ضميرك .
ـ اكثر من شرب الماء ما استطعت فهو نافع ، وتذكر قوله عز وجل " وجعلنا من الماء كل
شيء حي " .
ـ قلل من استخدام السيارة ما استطعت وحاول أن تؤمن حاجياتك مشيا على قدميك .
ـ اترك الغضب والزعل ولا تقحم نفسك في أمور مزعجة لأنها تأكل الصحة .
ـ تواضع فان التواضع يقرب الناس اليك ويحببهم بك وهذا كنز لا يعوض .
ـ واخيرا ان اتاك الشيب فلا تحزن ، واعلم ان مرحلة جديدة من الحياة الأفضل قد بدأت
.