(لا أريدُ سوىٰ أنْ أحلمْ)
خيرا".. (اللهم اجعله خيرا")، رأيت في منامي.. "يا سادة يا كرام" الكثير من الحكايا الجميلة والحوادث الرائعة والقصص المشوقة، رأيت في حلمي أنني أقود مركبتي الهجينة متجولاً في شوارع مدينتي متنقلاً مبهور الأنفاس من جسر إلى جسر ومن نفق إلى آخر تحيط بي الحدائق الغناء والنوافير من كل جانب.
وخلال تجوالي الطويل لم يحدث أن اصطدمت عيناي بإشارة ضوئية واحدة.. ولم تشاهدان شرطياً واحداً سوى بضعة منهم كانوا في طريقهم إلى منازلهم بعد انتهاء يوم عملهم(المكتبي خلف الكمبيوتر)، ورأيت فيما يرى النائم يا سادتي أن نفقا" عتيدا" قد شيد خلال سبعة أيام على مدخل مدينتي الزرقاء، ورأيت بعين الخيال العديد من المركبات تمر خلاله ذهاباً وإياباً وعلامات الفرح والبِشر تعلو وجوه جميع السائقين دون استثناء بعد أن كان لزاماً عليهم قبلاً الالتفاف حول المدينة من أجل الدخول إليها كما كان يحدث مع السفن القادمة لآسيا حين كانت تضطر للوصول لرأس الرجاء الصالح قبل حفر قناة السويس!!
ثم رأيت طالباً من طلاب المرحلة الأساسية بإحدى المدارس يخفي يده التي تحمل لفافة تبغ خلف ظهره حتى لتكاد تحرق أصابعه خوفاً وهلعاً لمجرد أنه صادف أحد معلميه في الشارع، فينظر المعلم إلى الطالب بإكبار وإجلال تقديراً لموقفه الرائع، حتى لم يبق سوى أن يهرول إليه ليلثم يده المخبأة شاكراً ممتناً..
ثم رأيت فيما يراه النائم نوابنا الموقرين بعد نجاحهم في الانتخابات النيابية الأخيرة يمرون على ناخبيهم يسلمون عليهم شاكرين معترفين بفضلهم وممتنين لجهدهم الذي أوصلهم لمقاعدهم خدمة لناخبيهم وللوطن (لا لأنفسهم).. يقدمون الهدايا لبعضهم والأموال لبعضهم الآخر المحتاج ولا ينسون أن يعطوهم أرقام هواتفهم النقالة تحسباً لأي طارئ قد يدفعهم للاتصال بهم.
ثم رأيت شرطياً بدورية شرطة على إحدى الطرق الخارجية يشير بإشارة قف لإحدى المركبات، تتوقف المركبة يميناً ويفتح الباب فيبادر الشرطي من فوره لمساعدته على فك حزام الأمان ويساعده على النزول ثم يتعانقان بحرارة، حتى ظننت للوهلة الأولى أن بينهما نوعاً من القرابة أو الصداقة القديمة، ويفحص الشرطي أوراق كل من السيارة والسائق، ثم يمضي السائق مودعاً أعضاء الدورية بابتسامة صادقة، ولا ينسى أن يقدم لكل منهم ساندويتشاً وكوباً من الشاي من السخان الموجود في صندوق مركبته تقديراً لجهدهم في الحفاظ على الوطن وسلامته هو وأولاده.
دخلت بعدها إلى أحد المولات لأفاجأ بأن دنيا الأسعار قد قلبت رأساً على عقب.. فعلبة السردين بقرشين ونصف وكيلو السكر بعشرة قروش والأرز بعشرين وكيلو الزيت بربع دينار ولحم الضأن بستين قرشاً والملح باليود يوزع مجاناً (فوق البيعة)، بعدها عرجت على قسم الخضروات والفواكه لأبتاع بضعة كيلوات من التفاح والبرتقال والليمون وخلافه، فينعقد لساني من شدة دهشتي حين وجدت أن الفواكه تباع (بالشوال) لا بالكيلو من شدة انخفاض سعرها حيث شوال التفاح بدينار والبرتقال بنصف دينار والكاكا والكيوي تقدم هدايا عند باب الخروج.
أما الخضار فحدث ولا حرج فالفاصولياء بخمسة قروش واللوبياء بأربعة والبازيلاء بستة وكيلو البصل بقرشين والثوم مثله و البطاطا بسعر الفجل الذي تباع الثلاثة كيلوات منه (بشلن)!! أسمع جلبة والتفت لأجد الناس قد تحلقوا حول شاشة عملاقة قرب مدخل المول تشجع المنتخب الأردني يلعب في نهائيات كأس العالم 2014 (التي تقام مناصفة في بغداد ودمشق بعد اعتذار ألمانيا لأسباب تمويلية)، وشاهدت بأم عيني المغمضة البرازيل تلهث خلف التعادل في مباراتها مع منتخبنا دون جدوى بعد أن قاتل التلي والخزعلي قتال الأبطال واستبسل ميلاد في الدفاع عن المرمى في الشوط الثاني، بعد أن أنهى منتخبنا الشوط الأول متقدماً بأربعة أهداف سجلها كل من نجومنا راتب الداود وسهل غزاوي وخالد عوض وإبراهيم سعدية على التوالي.
بعدها رأيت الجيوش الأمريكية تنسحب من العراق وتقدم أمريكا اعتذاراً علنياً للأمة العربية والشعب العراقي عامة وللبغداديين خاصة، ولا تنسى قبل انسحابها أن تعيد نَصب تمثال الرئيس الراحل صّدام حُسين على مدخل بغداد دليلاً على شعورها بالندم.. ثم تتعهد الولايات المتحدة (الأمريكانية) على لسان رئيسها محمد علي كلاي بدفع تعويضات عادلة لكل من تضرر جراء احتلالها للعراق حتى لو كلفها ذلك الاستدانة من إيران وكوريا وبكينين.
ثم رأيت أثناء مروري في وسط السوق التجاري إعلاناً بحجم الحائط يتوسل فيه مدراء البنوك التجارية المواطنين مراجعتها للحصول على قروض ميسرة دون كفيل تدفع على ثمانين عاماً مع التزام المواطن برد 60% فقط من أصل القرض..
ثم رأيتني أفتح صنبور الماء لأجد المياه تتدفق بغزارة عبر الأنابيب طوال الأسبوع، لأتوجه بعدها إلى مدينة الشرق في الزرقاء لأجد مجموعة من البائعين المتجولين يرتدون ملابس زاهية تسر الناظرين وقفازات بيضاء ناصعة.. يبيعون (كوز) الذرة بقرشين وكيس الترمس أو الفول بقرش ويقدمون لكل مشترٍ خريطة للزرقاء وعلم الأردن هدية، عرجت بعدها على محل حلويات لأشتري ثلاثة كيلوات من الكنافة النابلسية ويلحق بي المحاسب بعد خروجي إلى وسط الشارع لاهثاً ليعيد إلي (بريزة) كنت قد نسيتها بقية الدينار الذي أعطيته إياه على اعتبار أن كيلو الكنافة بثلاثين قرشاً فقط.
أخذ مني التعب كل مأخذ فتوجهت بمركبتي المهجنة الدلوعة إلى المتنزه القومي المقام قريباً من دوار السخنة على طريق جرش لأجد أن أرجوحة بحبال غليظة وسرير مريح قد علقت تحت مجموعة كبيرة من الأشجار ومجموعة من موظفي بلدية الزرقاء يمسكون بأيديهم اليمنى دلال القهوة المرة يقدمونها لمواطني المدينة وزائريها من المحافظات الأخرى، ومجموعة أخرى منهم توزع المياه المعدنية مجانا" على العطشى وأشاهد أحد المواطنين يهم بغسل يديه فيسقط منه الإبريق الذي يحمله فيهرع إليه موظف منهم معاتباً إياه على عدم الاستعانة به قائلاً: يا سيدي المواطن.. هذا عملنا ولا نخجل منه، ما عليك سوى أن تطلب ما تحتاج ونحن سنلبيه لك في الحال، ثم نادى على زميل له ليمسك بالإبريق وأمسك بيدي المواطن طالباً من زميله أن يصب له الماء، وقام بغسل يدي المواطن وتنشيفهما بمنشفة بيضاء كان يحملها معه.. نظرت إلى الأراجيح بشغف حيث لم تكن منتشرة في أيامنا بهذا الشكل ولم نكن نراها سوى في الأعياد، وداعبني الشوق لها فما كان مني سوى أن امتطيت إحداها لأغفو والنسيم العليل يداعب وجهي كما تداعب الأم الرؤوم وليدها الرضيع بحنان.. لأحس بعد لحظات بيد ناعمة تغطيني برفق بغطاء حريري خوفاً من أن أصاب بالبرد -لا قدر الله- فأغمضت عيني بعدما قررت أن أطلب إحضار غدائي لأتناوله وأنا في الأرجوحة عندما أصحو من نومي.. وغفوت!!
ثم رأيت فيما يراه النائم السيد رئيس التحرير وقد وضع مقالتي الأسبوعية في الصفحة الأخيرة الملونة بجانب مقالته معتذراً وواعداً إياي بتخصيص الصفحة كاملة لي في العدد القادم تقديراً منه وحباً، وإيثاراً منه للآخرين (ممثلين بي) حتى على نفسه.
هُنا.. وهُنا فقط.. كتب المولى عز وجل علي أن أصحو من غفوتي (خيرا" اللهم اجعله خيرا") لأجد وجهي قد اصطدم بمقود المركبة وذراعي الأيسر محشوراً ما بين الكرسي الذي أجلس عليه والباب، وسمعت صوت مركبتي (تقرقر) و (تبربر) ثم (تتكتك) قبل أن تتوقف في وسط الشارع منزوعة الروح بعد أن (تدحدلت) في حفرة عميقة وسط الشارع لم أتنبه لها في خضم أحلامي الرائعة التي لم أجد وقتا للاستمتاع بها سوى أثناء قيادتي في أحد الشوارع المملوءة بالحفر.
تركت سائق (الونش) الذي اتصلت به يقوم بربط مركبتي تمهيداً لنقلها إلى ورشة الميكانيكي، ورقيب السير الفضولي واقفاً يحكُّ ذقنه مفكراً باحثاً عن مخالفةٍ ربما أكون قمت بها تستحق التوثيق، وجمهرةٌ من الأولاد وقفوا يتفرجون على (جعلكتي) وعلى (دهوكة) سيارتي، تركت هؤلاء جميعاً وتوسدت ذراعي اليمنى (السليمة) على الرصيف وأغمضت عينيّ من جديد.. أرجوكم.. دعوني أُكمل حلمي!!
(يتبـــــــــــــــــــــــع)....
* أيمن علي الدولات-كاتب - الزرقاء الاردن