هدأ أزيز الرياح على شفاه ذاك الشباك المهشم بمخالب الزمن … فأسدلت تلك الستائر البالية أهدابها برفق على وجنة الجدران الباردة … ناثرة غبار الأيام على ضفاف الحقيقة الغافية في الأركان المظلمة … أثاث قديم يحمل عبق الأصالة يتوضع ها هنا و هناك يعكس عبثية الحياة … و أوراق صفراء تتراقص بلطف على طاولة خشبية تناجي مداد الأحلام المهاجر قبل أن يتمكن اليأس من تشتيت معانيها المحتضنة في أحشاءها و تبتلعها الرمال المتحركة إلى جوف النسيان …
كل شيء هنا مسكون بالصمت و الغبار حتى رفوف الانتظار باتت ثكلى تتكئ على ماضيها ريثما تمتد تلك اليد التي ما انفكت تزرع رباها بالحنين المعتق المشوب بسواد كحل العيون …
عدت الأيام مسرعة طاوية التاريخ بين غضون مفاجأت القدر الخطرة … إلى أن حملت نسائم الخريف المتهادية عند نهاية حدود البصر … وقع خطى بطيئة لم تألفها زوايا تلك الغرفة منذ سنين … ما زالت الخطى تعدو مترنحة مؤججة _ من وقعها _ ضجيجاً أشبه بالحفيف حدا بأوراق الخريف اليابسة أن تزحف هائمة على وجهها و تتكوثر حول خمائل الحقيقة المنحنية مرحبة بالقريب الغريب …
ساد الصمت من جديد محولاً المكان إلى مسرح يعج بالنظرات المتشابكة المحدقة بالحدث الآتي … تتأمل بكل شغف اعتلاء بطل المسرحية تلك الخشبة بكل ما يكنه من كبرياء منهياً بحركة إيمائية حالة الذهول التي انتابت الشاهدين و انتهاء آخر فصل من فصول المجهول و إسدال الستائر ……
باتت الخطى قريبة و قريبة جداً حتى تجمدت عند أعتاب الحرية … جالت النظرات بحرص تتأمل التاريخ القابع تحت ظلال الخوف … تحيي الشرفات الشامخة و الأمسيات التي كللت ذاكرة اليوم … تعتذر … تتعرج على الأبواب و الجدران الكئيبة باحثة عن كلمات رصفت ذات يوم هنا أو هناك بأنامل عاشقة باتت وقوداً لذكريات محببة ستنعش ذاكرته الهرمة و توقظ آماله الغافية على سرير الأحلام من سباتها الطويل … و قبل أن يلج إلى ذاته ألقى نظرة حنان ممهورة بالشوق الأسير إلى تلك الشجرة المتوحدة هناك … شجرة السرو التي تشمخ متحدية عوامل الزمن و الهجران … التي ضحت رغم الخيانات لتحمي ما طرز على لحائها من ذكريات … و دموع … و لمسات … حتى أمست تنتظر تلك اللحظة التي ستروي فيها بلسان الحكمة ما دار تحت ظلالها من أحاديث و ما تلاشى من همسات دافئة … تلك المخلصة التي وفت بوعودها و ما زالت تنتظر ذراعين تضمها بعد أن باتت الوعود المعقودة تحت أغصانها رماداً تناثر عند أول نسمة عابرة …
أشاح بوجهه إلى الجهة المقابلة خجلاً … حزيناً … و دمعة محرومة انسابت على الخدود الباردة شوهت للحظة معالم المكان … سالبة البصيرة بعد الخيال …
( ما زالت أحلامنا رهينة الظروف المتنافرة … و ما زلنا محكومين بالآمال الأسيرة … حتى دب الشيب في غضون الروح … فبتنا نلملم كل حين شظايا اللحظات النادرة علنا نصل الحاضر بالماضي فتزحف الأيام طابعة التاريخ على وجنة المستقبل … جدلية حاكها الزمن على حساب أعمارنا … و حملتها نسائم الخريف إلى أعماق التذكار ستمسي فيما بعد قصة قصيرة تتلى بين عصفورين شاردين في بضع دقائق)…
كانت الأفكار المشوهة تزاحم ذكرياته الهرمة على أبواب التفكير جاعلة من ضربات القلب المتسارعة لحناً خالداً سيزرع على جانبيه ما تبقى في صندوق الحنين المعتق من ذكريات غراء ما زالت تنبض في أركان ذاك المكان …
سار ببطء حول بناء الأمس الجميل شارداً نوعاً ما حتى وقع نظره من جديد على تلك الشجرة الشامخة كالقدر المحتوم … فأدرك حينها أن لا مفر من الحقائق الممتدة على جانبي الواقع … أن زمن التحدي الأسطوري ولى على أجنحة أحلام اليقظة و أضغاث الأحلام … تابع بحرص شديد حتى استقر أمام الماضي السحيق … كانت النقوش المختلفة التآريخ تنزف الحنين المعتق من كل جراحها … ناثرة أنينها بين حنايا الأغصان فيمتد بين أوراقها حفيف أشبه بتلك الهمسات التي لم و لن تنس ذاكرته المغبرة صداها …
كانت أنامله المرتجفة تتحسس التاريخ … النبضات الهادئة … الوجنات الباردة … الشعر الليلكي المبلل بأشعة القمر …اللحظات النادرة على كف القدر … و عيناه تبحران بين أهداب الجمال المتهادي الأمواج … تغوص في تفاصيل الفتنة و الشفاه القرمزية … دمعة جديدة كسرت طوق الصمت المطبق انهمرت طاوية الأمس تحت أهداب الضجيج … ضاربة ناقوس الحقيقة في سماء الخيال المجنح … فاهتزت الصورة أمامه مشوهة ما تبقى في جيوب الذاكرة من صور مهترئة لتاريخ راسخ في كل ركن ها هنا إلا في الحقيقة المرة … ما زال يعانق النظرات الهائمة تحت الظلال مطبقاً أهدابه على معالم سحرها الفتان كالجمان … كي لا يسحق الزمن آخر ذكرى رصفت ذات ليلة على لحاء تلك الشجرة الشريدة …
طال الوقت ساحباً ستار شمس الأصيل إلى انحدار فاتحاً المجال مرة أخرى لباقة من الذكريات في تلك اللحظات المسائية حين تتشابك الأصابع مع الجدائل المنسدلة لترسم بظلها الباهت وجهاً آخر للحياة ……
نهض متثاقلاً … كسكير خانه الزمن حتى استقر عند أعتاب الحرية و نظراته ترسم على الباب المهترئ موعداً آخر مع الأحزان … لقاء جديداً مع ذاته المركونة هناك تحت الغبار … ولج ببطء ملتحفاً الدموع ليعانق خوالجه … أحزانه … ذكرياته … ماضيه … آلامه … لحظات سعادته … طفولته … كل شيء كما هو … حتى الغبار آثر الرحيل ليحجب جور الزمن عن تلك الأحلام المبعثرة على ضفاف الأقدار المتلاطمة
جال بين الجدران يلملم معتذراً أشلاء الحب و الحنين راسماً ابتسامة خجولة على شفاه قلما حركتها بسمة عابرة … حتى اتكأ على تلك الطاولة الهرمة كما ذاكرته يتأمل أوراقه الصفراء بعد أن شوه الزمن بعضاً من معانيها فباتت لوحة مجسمة تعكس بكل مصداقية ما وصل إليه حاله … الآن سيجلس كما الأمس وحيداً يكتب بأنامل من نور معان لمن جردته الحياة من بعض إنسانيته … و يتركها في مهب الريح عل أوجاعه المرصوفة كلما جن بها الخطوب تطرق أبواب المحبين و الأوفياء ليعيدوا النظر بأحلامهم قبل انطلاق قطار الزمن بالاتجاه المعاكس سالباً الحقائق مضمونها المقدس …
الآن بعد رحلة على شواطئ الأقدار المتنافرة سيدون ما تبقى في ذاته من صدقيه رموزاً لن تفهم إشارات خريطتها إلا لمن ترجم معنى الآه … و سحقت الحياة مجاديف التصميم في قاربه المتفرد وسط العباب …
الآن يعيد الزمن نفسه مرة أخرى على حساب أعمارنا لندفع مرة أخرى ضريبة صدقنا مرغمين … باسمين …
الآن نبدأ من جديد تسطير تاريخ جديد لحلم جديد قبل أن يغمض المساء عينيه على الأمس القريب نهائياً حين تنطلق أبواق الفرح احتفاء بتلك الأميرة التي رصفت ذات يوم كل شيء هنا …
الآن ينتظر وحيداً … و وحيداً إضاءة السماء هناك … أمام عينيه و من دونه … احتفاء بعروس أحلامه إلى حضن آخر … بعد أن كتب على الجبين أن نزرع الأرض الجرداء بكل ما نملك من حنين ليحصد غيرنا بكل بساطة أحلامنا البريئة … سترقص آلهة الدموع على شفا جراحه على أنغام الأنين …ستسير مكللة بالخيبات على بساط أحمر كدمه القاني المهدور قرباناً لموائد السحرة …
قد عاد وحيداً وسط الاستغراب بيد تشبك الهواء و أخرى حقيبة الأحزان …
الآن سيروي للجدران و الخمائل المتمايلة قصة الهجران بعد أن غررت به الأيام …
ستختم الرواية بعد قليل … بعد عدة ساعات … ويزف كل منهما إلى قدره … في اتجاهين متنافرين … دون موعد آخر … دون دموع … دون التفات …
يعطيك العافية ... تحياااتي ..
السيد سري حاتم كحيل...استمعت جداً بقراءة القصة..هكذا هي الحياة يا سيدي،تقبل مروري لأول مرة على صفحاتك...تحياتي لك والله الموفق.