ارتمى على الأرضية العادية فشعر ببرودتها الرهيبة تخترق جسده الضئيل بقسوة . ضم أضلعه إلى بعضها البعض فآلمته الجروح التي أحدثها الضرب المبرح ..
أطلت نظرة الجزع من مقلتيه عندما راح ينقلهما بين الأمتعة القديمة المبعثرة في العلية وراعه مجرد التفكير في أن فأرا قد يظهر إلى النور بعد اختبائه في الزوايا المظلمة .
حينها تذكر قول صديقه في المدرسة :عندما يتملكني الخوف أنصرف إلى ذكرياتي الجميلة .. فشغل الصغير شريط ذكرياته الكئيب عبر سنواته الثماني عله يعثر على لحظة سعيدة استرخى عند قيلولة قصيرة لزمانه الكئيب . ولكن الشريط لم يظهر إلا المشاهد الأليمة التي بدأت عند انفصال أبويه بعد أن تفتحت طفولته الضائعة طيلة أربعة أعوام على أصوات مشاحناتهما وصراخهما المتكرر غير المنقطع وقد أدى هذا إلى الانفصال .
لم يكن كره الوالدين كل للآخر وليد يوم وليلة أو سنة بل كان وليد أعوام طويلة عانتها الأم برفقة شاب طائش أجبرت على الزواج منه إذعانا لتقاليد عائلتها التي اقتضت تزويج أولاد العم وبالطبع فإن فتاة في الرابعة عشرة لا تستطيع الوقوف حجر عثرة في وجه طوفان من العادات ممتد إلى أجيال مضت ولم يكن أمامها سوى الرضوخ .
أما خطيبها الوسيم ذو السبعة عشر عاما فقد سهى عن هذا التقليد في البداية واستغرق في حب رفيقته الجميلة في المدرسة لكن هذا الحب لم يكتب له النجاح لأن الواجب يقتضيه أن يتزوج من ابنة عمه التي أصبحت في سن الزواج فأحس بالحزن والامتعاض لكن لا أحد يعير إحساسه هذا أي اهتمام فهل يستطيع أن ينسى حبه ؟ هل يبقي هذا الحب على هامش الزواج ؟ لم يصل إلى قرار ، بينما انتهى أبواه من الاستعدادات لعقد قرانه لم يكن يمر يوم دون شجار عنيف يتبادلان فيه أقسى كلمات الشتائم يهاجمها بها ظانا أنها قتلت حبه وتغزوه هي بأسلحتها من الاتهامات وقد أدركت – متأخرة – أن كل ما قالته أمها لها بإمكانية حدوث الحب بعد الزواج هو مجرد كلام استخدمته لتقنعها بتجرع الخطأ .
وهكذا مضت الأيام السوداء حتى جاء طفل بعد سنين من الزواج فظنت والدته أنه قد يكون ضمادة للجرح أو جسرا من المودة قيد التدشين ولكنها كانت تتعلق بأحبال الهواء فالطفل كان خطيئة أخرى حملها زوجها مسؤوليتها .
كان شريط الذكريات ما يزال يستعرض حسرات قلب هذا الطفل ولم يخترق السكون الجنائزي في الغرفة الجليدية سوى صوت نحيبه اليائس . لم يكن عقله الغر يفهم بعد ما يعنيه كل القهر الذي تعرض له والداه ولكن امه تمثلت أمامه جالسة في مقعدها الوثير والكتاب بين يديها الكتاب الذي لطالما كان رفيقها في أيام وحدتها القاتلة . ثم تذكر ذلك اليوم الذي قررت فيه أمه استعادة حريتها فخرجت ميممة منزل والديها وعند وصولها وبصوت مشحون بالتصميم أعلنت قرارها النهائي :
سأطلب منه الطلاق !
استعاذت أمها من أبغض الحلال عند الله وجحظت عينا والدها وراح يتهدد ويتوعد بقتلها إن فكرت بهذا ثانية وبدل أن تضعف أمدها كلامه بذخيرة إضافية من الصلابة : إن الجاهل الذي يقضي على ابنته مرة ويرميها في مستنقع الظلم لا يمكن أن يتشجع ويقضي عليها مرة ثانية بقتلها .
أسمعت يا أم حسين ؟ هذه الكلمات الملعونة لم تلبث أنيابها أن تثبت حتى غرزتها فيمن أحسن إليها !
أحسنت إلي ؟بسلبي حريتي ؟ بتجريدي من إنسانيتي وابسط حقوقي في تقرير من سأكمل معه حياتي ؟ بحرماني من المدرسة ؟ والله إنك لو حرمتني من الطعام وتركتني أتعلم لكان بردا وسلاما على قلبي !
" لا تعطني سمكة علمني كيف أصطادها "
تذكر الطفل كيف كانت أمه في حالة يرثى لها ورن صوتها المتهدج في أذنه عندما أمرته أن يتبعها واندفعت خارج الباب .. وتابع شريط ذكرياته يمر أمامه بلا رأفة وهو يشعر ببرودة العلية تتفاقم ..
تذكر اليوم الذي حصلت فيه أمه على الوثيقة الرسمية التي تعلن انفصالها عن زوجها الذي ترك تربية طفلها كما تشاء ليتزوج امرأة أخرى فأخذت طفلها الصغير إلى الغرفة التي استأجرتها بالمال القليل الذي جنته من بيع سوار ذهبي لها . ومن يومها وهي تمشط أديم الطرقات من مؤسسة إلى مؤسسة بحثا عن عمل تؤمن به قوت يومها وأبنها .
وحصلت على واحد من الأعمال القليلة الذي يمكن أن تحصل عليه بشهادة الصف الثامن ومن يومها تذهب باكرا إلى الحضانة لترعى الأطفال .
لكن القدر خبأ لها بعد أقل من ثلاث سنوات مرضا عضالا . وتذكر الطفل الأيام العديدة التي كانت أمه تقضيها متأرجحة بين الموت والحياة وأخيرا خيم طيف الموت المهيب على العائلة واختار الأم رفيقة دربه التالية فخلفت وراءها أبنا صغيرا في السابعة لم يبق له سوى بيت والده يأويه .
وبدأ الطفل يقارن بين أمه وزوجة أبيه ، تذكر أمه التي كانت أحيانا تنام طاوية لكي لا تبقى معدة طفلها خاوية ، الأم التي لطالما احتضنته بحنان عندما تنتابه نوبة من البكاء الأم التي أمضت ليالي طويلة ساهرة عند سريره لتراقب حرارته المرتفعة بعينين زائفتين يحتاجان بقوة للاستسلام للنوم . وعندما تبدأ نجمة النهار بنسج خيوطها في بقعة الأرض تلك كانت تنهض لترتدي ثيابها وتترك ابنها المريض في عهدة جارتها الطيبة لتذهب هي إلى عملها وتذكر كلمات الشكر والاعتذار التي كررتها والدته على جارتها التي ردت دوما : ولو .. الناس لبعضها !
ثم فكر في زوجة أبيه التي لطالما افتعلت أخطاء يرتكبها لتعاقبه بحرمانه من الطعام أو بتوجيه الصفعات واللكمات التي لا تجد آثارها متسعا من الوقت لتزول قبل أن تتبع بغيرها . لم تتركه أمه في هذه المرة الأخيرة التي رحلت فيها بين يدي جارتهم الطيبة بل تحت رحمة هذه المرأة القاسية التي تكن له كرها لم يجد سببا له .
ثم فكر : أين ذهبت أمه ؟ لماذا تركته ؟ أليست مشتاقة لضمه بين ذراعيها بحنان كما كانت تفعل عندما تعود من عملها ؟ ربما لا تستطيع المجيء ولكن ماذا لو ذهب هو إليها ؟ بالتأكيد ستضمه ، سيهرب من هذا المنزل المقيت والوحش الأسطوري الذي تجسد في زوجة أبيه ونهض وتوجه إلى الباب بحذر أدار مقبضه بيديه المرتعشتين ولكنه كان مقفلا بالمفتاح بعثر نظرات مضطربة في أرجاء الغرفة ولم يجد حلا سوى النافذة فتحها فهاجمت سحنته الرياح الباردة مط عنقه ونظر إلى أسفل ، الحديقة تدثرت بلحاف ثلجي رقيق أخرج ساقه وحط بها على الحافة الخارجية كاد ينزلق لكنه نجا .
مشى عبر الحافة إلى الشجرة القريبة تعلق بفروعها وهبطها غصنا غصنا ثم أرتمي على الأرض فجرحت راحته جرحا عميقا أراد أن يبكي لكنه توقف وحدث نفسه : أنني ذاهب إليها الآن سأبكي على صدرها الدافئ عندما اصل وهي ستواسيني وبدأ رحلته جريا كان يعرف الطريق جيدا قطع الشوارع المزدحمة والأزقة الخالية ثم وصل ...
سماء بلا حدود يعكس ظلام صفحتها رهبة المكان ، لاشيء يسمع سوى سكون الموتى الذي أضاف مسحته الباردة على برودة الثلج ، لاشيء يرى سوى أشجار مهيبة دفنت الثلوج أوراقها كل شيء مدفون هاهنا ، كل شيء ثلجي ، ميت .. وشواهد قائمة كتبت عليها أسماء سكان المقبرة كانت الورود الزاهية التي استقرت أمامها لتبعث فيها لمسة من الأمل لولا الحزن الذي ثبته فيها أيدي محضريها .
وهناك مشى الطفل إلى حيث دفنت أمه كان يختم صفحة الثلج بقدميه الصغيرتين وقد أحمرت يداه ووجنتاه واصطكت أسنانه لكن أملا كبيرا كان يحدوه أنه سيجد الدفء الذي سيحضن نفسه . جثا على ركبتيه وناجاها : أمي ، لقد جئت ، جئت إليك !
وأنتظر عله يسمع صوتها ولكنها لم تتكلم فقال :
امي لماذا تختبئين مني ؟ أنا أعلم أنك في الصندوق هنا ، أنا رأيتهم يضعونك فيه ، أتفضلين البقاء في العلبة الشاحبة بدل أن تريني ؟
وتريث لكن صوت أمه لم يأته من حيث أنتظر فعاد إلى محاولاته لأيقاظها وقد تملكه اليأس :
أمي هل آذيتك في شيء ؟ أما عدت تحبيني ؟ أرجوك سامحيني هل غضبت لأنني جرحت يدي ؟ لم أكن أقصد كنت أسعى للوصول إلى هنا ، أنها لا تؤلمني ، لن تؤلمني إن قبلتها من أجلي ... ومد يده إلى الشاهد وهو يظن أنها ستلثمها لكنها لم تفعل وأستشعر برودة الثلج تمزق بشرته وتنخر عظامه الهشة وذكره ذلك باليوم الذي أيقظها فيه نداؤه المستغيث ليلا بقوله إنه يشعر بالبرد فنهضت لتفرش عليه غطاء إضافيا فسارع يناجيها من جديد : أمي أنني بردان غطيني !
وسألت لؤلؤة دافئة على وجنته المتجمدة تبعها مسيل من العبرات ، قال بصوت مرتعش :لماذا لا تجيبيني إنني أحتاجك يا أمي أرجوك لا تتركيني وحدي هنا أخرجي وضميني إليك أو لا تخرجي .. خذيني إليك أجلسيني معك في الصندوق لا أريد أن آكل أو أشرب فقط أريد أن أنام قربك . تلك المرأة غاضبة مني لأنني لست أبنها ولكن لماذا أنت غاضبة؟
أمي.. أمي.. استيقظي ..
وانفجر باكيا بحرقة فقد عرف أنه لا جدوى من مناداتها نظر حوله مذعورا بحث عن أي إنسان ولكنه لم يجد أحدا على مد البصر فتوسل :
أمي أنني خائف لا أستطيع أن أبقى في الظلام وحيدا ، لكنني لن أبرح مكاني فقد يرق قلبك وتخرجين لي سأنام هنا بقربك .
وتمدد على الأرضية المغطاة بالثلج لم يكترث بالبرد كان كل همه أمه المخبأة في الصندوق كان ينحب بقوة في البداية وشيئا فشيئا بدأ صوته يخمد ، وخبا نور عينيه فرأى أمه بكامل زينتها مقبلة نحوه وقد ارتدت فستانا أبيض فضفاضا فألقى برأسه الصغير على صدرها فرحا حزينا وكانت أمه كالعادة تضمه بشدة وتهدئ من روعه . تحركت روحه من جسده ، أنسلت منه ببطء .. ربما لم يكن هذا حلما ، لا أحد يجزم ، ولكن المعروف هو انه بعد يومين حضر ضيف جديد إلى المقبرة ، ضيف في الثامنة ، لم تحضر أمه جنازته فقد كانت في استقباله .
اشكركم جميعا على حسن تعليقكم برتل كلماتي المتواضعة وقصتي هذه وما هي الا جزء صغير من ذكريات شاحبة يحملها عقلي ودفتري تحياتي لكم جميعا فادي الملاح
شكر من القلب أخ فادي لما أبدعته اليوم أبكيتني ألماً وحرقة لأنني أحسست أن ذلك الصغير ذو الثمانية أعوام لم يكن إلا أنا أنا التي رحل عنها أباها منذ نعومة أظفارها فالتصقت بكل ماأوتيت من قوة بأمي التي رحلت هي الأخرى هذا الصيف تاركة في القلب حرقة لاأظن دواها إلا أذهب لها كما ذهب هذا الصغير
ياريت لو كان عندي هيك ام فاضية تطبطب علي بس للاسف امي مشغولة باخبار سيدات المجتمع الفاضلات
سلمت يداك أخ فادي قصتك محزنة ومؤثرة اليوم .. وحقيقة ما أستغربه هو كره بعض زوجات الأب لأبنائه وكيف يقسوا قلبهم على أطفال صغار أو حتى كبار مع كل ماذكر دينيا وأخلاقيا وأدبيا عن معاملة اليتميم وكافله في الجنة .
يعطيك العافية اخي الكاتب مشاركة مؤثرة كثيرا بكيتني فعلا الأم لا يعوضها احد
قد أثرت فيَّ كثيراً يا سيدي الكريم بكلماتك الرقيقة المعبرة, سلمت يداك
حزينة بس رائعة .. مليئة بالمعاني .. الله لايسامح أي حدا بيظلم طفل .. لأنه الطفل لاحول له ولا قوة ..
رائعة اخي فادي
لم تسعفني سنوات القهر التي عانيتها في الغربة وكنت أظن أني قوي، ولكن يوم قرأت القصة رأيت فيها براءة طفلي وحزنت إلى أن حاولت الدموع أن تطهر قلبي، فقبضتها لتفادي نظرات الزملاء.. شكراً أخي فادي الملاح ولا تحرمنا من إبداعك الأدبي المميز.