مررت به يجلس على صخرة عالية تشرف على فضاء فسيح فناداني قائلا : تعال واجلس إلى جواري .
فقلت له : أنا مشغول , فأصحابي ينتظرونني من أجل لعبة طرنيب .
فرد وهو يبتسم : نِعْمَ الأصحاب !! , ونِعْمَ الصاحب الصدوق الذي يواظب على ما يورث المهالك .
استحييت منه وأتيت إليه وجلست إلى جواره علّي أخفف قليلاً من وطأة لسانه , واستمع إلى ما أراد , وأكمل طريقي في سلام حتى لا أنغّص علي يومي , فالأصحاب في انتظاري و أنا في أحرّ الشوق إلى لقائهم , فبادرته بالكلام : لماذا أراك بين الحين والآخر تجلس وحدك على هذه الصخرة وتشرف على هذا الوادي ؟ .
فقال لي وهو يبتسم : قيل أن لقمان الحكيم كان يطيل الجلوس وحده ، فكان يمر به مولاه فيقول : يا لقمان ، إنك تديم الجلوس وحدك , فلو جلست مع الناس كان آنس لك , فيقول لقمان : إن طول الوحدة أفهم للفكر، وطول الفكر دليل على طريق الجنة .
وحبي للجلوس في هذا الموضع أنه موضع وقوف النسور فالنسور تحب الوقوف في الذُّرى وما تراه النسور في الذُّرى لا تراه الجرذان المتوارية تحت الأرض .
وليكن لك يا صديقي سمو النسور مترفعاً به عن الترهات, وليكن لك بصرها الثاقب , ولكِنْ ذلك البصر الذي ينظر بنور الحق , فأحدّ بصرك و تفكّر فيما قد خلقه الله وصوّره , واسمع وصيتي وهي وصية لقمان لابنه : ( أحكم السفينت فإن البحر عميق، وخفف الحمل فإن العقبة كؤود، وأكثر من الزاد فإن السفر بعيد، وأخلص العمل فإن الناقد بصير ) .
أعجبني هذا الكلام , ولم أكن قد جالست هذا الرجل في الماضي كثيراً , فالتصقتُ بالصخرة إلى جانبه, ولم يعد يجول في خاطري انتظار أصحابي لي , ثم أنشد أبياتاً من الشعر :
تـأمل في نبـات الأرض وانظر إلى آثـار ما صنع المليـكُ
عيونٌ من لجينٍ شـــاخصاتٌ بأحداقٍ هي الذهب السـّبيكُ
على قُضُبِ الزّبرجد شــاهداتٌ بأن الله ليس له شـــريكُ
ثم أردف :
عندما كنت صبياً صغيراً ألمّت بي نزلة برد في الشتاء القارص , فقدّمت لي والدتي كوباً من عصير البرتقال , وأخبرتني بأن في هذا العصير شفائي إن شاء الله , فكان كذلك , فتفكّرتُ في هذا الأمر على براءتي في ذلك السنّ فوجدت كم كان الله بي رحيماً , وكم كنتُ ضعيفاً و محتاجاً إليه , فقد جعل الله شفائي من مرض يحدث في الشتاء بثمرة موسمها في الشتاء .
فقلت : الله الله ما أجمل هذا الكلام , يبدو أن معرفة الله لا تكون إلا بالتفكر فيما خلقه الله وما أسبله علينا من نعم .
قال : إن معرفة الله يا صديقي تبدأ من هنا , بإعمال العقل مع القلب الحواس , فلن ترى نعم الله حواليك إلا بإِعمال ما تفضّل الله به عليك , فلن ترى ملكه إلا بأدواته التي سخرها لك , ثم دمعت عيناه وقال : ولكن هيهات هيهات أين ذلك الإنسان الذي أعمل سمعه وبصره وفؤاده في ملك الله بما يرضي الله , وقد علمتَ أن الله تعالى قال : ( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤولاًُ )[الإسراء:36], ثم أنشد :
فوا عجبا كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجـــاحدُ
وللــه في كل تحريكـة وتسكينـة أبداً شــــاهدُ
وفي كـل شـيء لـه آية تـدل على أنـه واحـــدُ
ثم قال : هذا ما كان من شأني , فأخبرني ما كان من شأنك , وقد رأيتك في عُجالة من أمرك .
فدمعت عيني وقلت له : والله قد كنت في شوق إلى لقاء أصحابي , فلما سمعتك تغيّر قلبي والتهبت جوارحي فانصحني يرحمك الله .
قال : عليك بمصاحبة الأخيار، ومصافاة الأبرار، والبعد عن قرناء السوء ومخالطة الأشرار ، لأن الإنسان بطبعه متأثّر بصفيه وجليسه ، ومكتسبٌ من أخلاق قرينه وأنيسه ، والمرءُ إنما توزن أخلاقه وتُعرف شمائله بإخوانه وأصفيائه ،
كما قال صلى الله عليه وسلم : ( إنما مثلُ الجليسِ الصالح والجليسِ السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحاملُ المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخُ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة ) .
وقد قال سيدنا علي كرم الله وجهه :
تَغَيّرَتْ المَـــوَدّةُ و الإخاءُ و قَلّ الصّدقُ و انقَطَعَ الرّجاءُ
وأسْلَمَني الزّمانُ إلى صَديقٍ كثيرِ الغَدرِ ليس لهُ رعاءُ
أخِلاّءٌ إذا اسْتَغْنَيْتَ عَنْهُمْ و أعداءٌ إذا نَزَلَ البلاءُ
يُديمونَ المَوَدّةَ ما رأَوني و يبقى الود ما بَقِيَ اللّقاءُ
فإن غُيّبتُ عن أحدٍ قلاني و عاقَبني بما فيهِ اكتِفاءُ
و كُلّ مَوَدّةٍ للهِ تصفو و لا يصفو معَ الفِسْقِ الإخاءُ
و كلّ جِراحَةٍ فلها دواءٌ و خُلقُ السّوءِ ليس لهُ دواءُ
فقلت له : لدي تساؤل استحيي من ذكره أمامك .
قال : وما هو ؟.
قلت : يتهمك الناس بالجنون فيقولون عنك بأنك رجل مجنون .
قال : أو ما سمعت مجنون ليلى حينما قال :
أحبكِ يا ليلى محبَّة عاشقٍ عليه جميع المصعباتِ تهونُ
أحبكِ حباً لو تحبين مثلَهُ أصابكِ من وجدٍ عليَّ جنونُ
الذي أخبرك قد صدقك , فأنا مجنون ولكن !! مجنون في حب الله .
ما شاء الله يا د.أحمد الله يزيدك دائما تتحفنا بالممتع والمفيد وتوصل لنا المعلومة بأجمل طريقة عرض وقد بت أنتظر وأتحرى دائما المزيد من عندك تحياتي لك ولأسرتك الكريمة