دمـــاء على شــجرة الميلاد . . !
أرواحٌ تنبضُ و تتنقَّل بحجم ثقل الصاعقة . .
لقد ارتوى المكان بأنفــاسٍ تتصاعد و تهبط آبـــيةً التـــوقف عن إصدار ذاك الصوت الغـامض المتحشرج . .
صــمتٌ صارخ يـفردُ جناحيه ويطـــوفُ ببطء في أركــان المنــزل . .
لا شيء . . . ســوى الصــمت يــداعبه بعضٌ من حفــنة الأرواح البشــرية ،
ترتسم على ملامحهم دهشة جاثمة تطبق عليهم تكاد تزهق أرواحهم وسط مسرح الجريمة المفزع . .
الملفت هنا هو ذاك الرجــلٌ البــالغٌ في العمرِ و هو يــتمايل في مشيــته ، مخدرا ، مصدوما بما جرى. .
كانت نســمات الهــواء المتطفلة من النافذة ذات الزجاج المخترق
بالرصاص تــراقصه بخفة يمــيناً تارة ويســاراً تـارةً أخرى . .
بجانبيه كان هناك شــرطيــان يســاعدانه علـى النهوض مــن أرضه التي شعرَ بأنها تميد تحته،
وكـأنه قد غفــا عليها مغشيا لسنين بــتثاقل . .
بيـنما في الطــرف الآخر مـن المنــزل العتيق كان هنــالك بعضاً من رجال الإسـعاف،
ذات وجوه شــاحبة تكسوهم بدلاتهم المنمقة وتلــك الابتســامة الــقاتمة المرتسمة بزيف ،
و التــي يُــمكن أن تكــون جرّاء تأثرهم بالأمــوات والمجروحين والمصابين
في الكــوارث المرعبة التي تصادفهم يوميا . .
اقــترب أحـدٌ من هؤلاء المسعفين إلــى شـرطيّ يــنفثُ سيــجارته البنية اللون بالــقرب من عــتبة بـاب المنــزل ، والثــلجُ يــلطمُ وجهه الملـفح بعلامات الكـهولة والتقدم في السـنّ . .
لــم ينبس الشـرطي ببـنت شـفة ، بــل كان موشّـحا بوشـاح الانتـظار والشــوق لما سيــقوله المســعف المــرتبك . .
قالها و يا ليته ما تفوها بها . . !
" لقــد فــارقت الحيــاة !. . جســدها الهــزيل لم يــتحمل عدد الرصاصات
التي اخترقت رأسها و صدرها مباشرة ". . !
زفــرَ الشـرطي آخر نفـسٍ من سيـجارته ببـطءٍ شـديد ، بـعد أن داسَ على عقـبتها بــقدمه واتّخذ طريــقه داخــل المنزل من جديد . .
وقــفّ الشـرطيّ مــقابل الرجــل المشـوَّش محملقا صوب عينيه بتـسمّر دون أن يـُبدي أي حــركة . . كأنه يريد أن يأخذ منه حق الدماء البريئة المعلمة في جميع أركان المنزل . .
مـرّت دقــائقٌ مـعدودات عـلى هــذا الوضــع المتكدّر ، وبـعدها كســرَ الرجل حـاجز الســكوت هــذا
ماداً يــديه نــحو الشــرطي وهو منكوس الرأس مغرورقَ العيـنين بـطفراتٍ من الــدموع الــنادمة . .
أردفَ الشــرطي قــائلاً بــصوتٍ مخنـوق : لـو الأمـر بيدي لـما أســرتُ يـديك القذرتين . .
بـل كنتُ ســأكبّل عقــلكَ المــجنون وأرميه طـعاماً لكلاب هذه المديــنة . . !
هــزَّ الرجــلُ رأســه بكــبرياءٍ مــستمد من صخــب الحيــاة ، وراح يـــناظر جدران الغــرفة الداميــة
وشــجرةً مــزينة بالأضواء والنـجوم ، تــطوفُ عليــها لــطخات الدمــاء الحـمراء البريئة الــتي لا زال بعضها يــقطّر باســتمرار على أرضية كانت شاهدة على مجريات سيـلانـها. .
اختفــت الصــورة المخــيفة هذه ، ورأى الـرجل نفســـه جالساً إلــى جــانب هذه الشـــجرة الأنيــقة . .
يــحتسي الخــمر ويــعدُّ كؤوس النبيذ . . حتــى أمست معــدته تـطفقُ بجل المســكرات الموجودة. .
كان يــتناولُ وقتها لحما دسما فاحت منه رائــحة ثقيلة عمت أرجاء غرفة الجــلوس بــنهم . .
ثم يــعالج بعدها الدســم بالمزيد من كؤوس النبيذ المتواصلة . .
و كانت هناك فــتاة في الثامنة من عــمرها ، تــوافقُ بيـن زيــنة الشــجرة
وهي حتى قــاصرةٌ عن الوصول إلى منتصفها . .
أزالــت هذه الــفتاة ربــطة شــعرها الأســود الـطويل ، ثــم التفتت إلى هذا الرجــل قــائلةً :
لـقد انتــهيتُ يــا أبي . . ما رأيك ؟
انــظر إلى فســتاني هــذا، لقــد اشــترته لي والدتــي قـبل أن تســافر منذ فتــرة . .
تـجرّع الوالد المــزيد من النبيذ ثــم ضــحكَ قــائلاً : وهل تعلمين أيــن هي والدتــك يـا سـارة ؟ . .
أجـابته ســارة بســذاجة طــفلة كـالمعتاد : أخبــرتني خالــتي بــأن جــزءاً منها ســافر إلى مــكانٍ جميــل
والجــزء الثــاني مدفــون أســفل التــراب بــانتظار مجيء الجـزء الأول لــتأتي إلينا بعد نهاية الســفر .
تـوقّفت ابتســامة الوالد الســاخرة عن الارتسام، وراح يــصفنُ في وجه فــتاته الصـــغيرة . . فكلماتها وقعت كالصاعقة على مسمعه . .
تذكر زوجته و ما تركته من فراغ ينهش كيانه و يدمي فؤاده . .
لم يتحمل بعدها عنه و حرمان طفلته الصغيرة ، فحياتهما لا طعم لها منذ أن فارقتهما . .
أعقب تأمله بعصبية شديدة لما يقاسياه بتساؤل :
هل يتأت له طيف زوجته من جديد ليمحو تلك الأحزان الموجعة حد الموت . .؟
في وسط هذا الجو المعكر و المليء بحمم ملتهبة طفحها جوفه . .
دنــت الــفتاة أكثــر منه وقـالت : إنــه أول عيــد منذ ســفرها يا أبي . . مــا رأيــكَ أن نــأخذ دفــتر الأناشيــد ونذهــب إلى جزئها المدفون ونـرنّم لــها بــفرح ؟ لقــد حفــظتُ الكــثير من الأغانــي من آنســتي في المدرســة . .
اكتفى الوالــد بـرسمِ علامات الــرفض والغضب على وجهه . . وهــو يـبتلع المــزيد والمــزيد من النبيذ،
بيــنما ســارة لم تكتفِ ، بــل راحت تردّد طــلبها بإلحاح بريء و بدون يأس . .
__ أرجوكَ
__ انهض
__ ســنتسلى كثــيراً
__ توقف عن الشرب فمنذ ســفر والدتــي فجأة و من دون أن تودعنا حتى و أنت غارق في حزنك. .
تزاحمت تلك المشاعر المتضاربة حينها و لم يستطع السيطرة على مشاعره أكثر . .
فــلم يــكن منه و هو في قمة السكر ســوى أنه رمى بالكــأس وطــرحَ طفلته أرضــاً بكل قواه الغاضبة . .
لكي يتمــزّق فستانها الوردي بـقوة ، و شريطها اللامع يندثــر تحت الطـاولة برشاقة. .
بيــنما هي نهــضت غيــر مكتـرثة بـما حصـــل. . ذارفةً دمعتين ساخنتين . .
ضــرب الوالد جبيــنه بــكفّه ، وابنته أمــامه تنتــظر جــواباً لهذا الفــعل الغاضب . .
إلا أنه لم يســتطع الصــمود أكثــر أمــام حــرب " الخواطر المكســورة " هذه ، لقــد انسحب وأعلن الهزيمة . .
و استلَّ بعدها مسـدساً مــن جيبه و وجَّهه نحــو وجهه دون اكتــراث لابنته المــركونة إلــى جـانبه بـصمت . . فــركضت ســارة نــحوه عالـمةً بشيء بشـِع سيــحصل ما لم توقفه . . وهجمت على يــده فــأُطلقت
كــل الرصاصات على رأسها وصدرها بسرعة و بدون ألم . . !
مــرّ المشــهد بـثوانٍ . . وكـأن الزمن أبى أن يــُعجل بما حــوته ثوانيه . .
والــدٌ شــاحَ نــظره نــحو الــعدم . . وفــتاةٌ تبــقّر جسدها وأصبح ثقــوباً رســمت " اللاشكل " عليها والدمـاء تسيــل حزينة على فســتانها الوردي وعلى الحوائط والشــجرة . .
كان صــمتٌ حــاكَ وثــاق الأمــل الضــائع ،
أُضــاف إليه مشــاعر قــوية طغت على هذا المــكان في منتصف اللــيل . . !
كــلَّ هذا حــدث فـي وقت قصير ، وكـأنه شــريط ســينمائي تراءى لــ الرجــل الذي اســترجع حاضره
جنــباً إلى رجال الشــرطة الــقابعين معه في مســرح " ليلة العيــد الدموية هذه "
قــال الشـرطي بسخرية متعصبة بــعد أن كُســر الصمت مجددا : ألــن تتــحرك أيــها الــوالد الــرائع ؟! .
وبيــنما كان الرجلُ يــهمُّ بالحــراك " بعد طول عناء " . .
اختــرق طيــفُ ســارة جدار الغــرفة وحاذت والدها ، فـداعبت يــده الداميــة وقــالت بنبرتها الملائكية:
لا تــقلق يا أبي . .
ســأنظّف الشــجرة من " الصلصة الحمراء " كــي أكــون بــنظرك فــتاةٌ بــالغة ، لا تتــأخر في العــودة
فــأنا وأمي ســنكون بــانتظارك . . مــهما طال الوقــتُ . . . سيــكون لــنا ملــتقى . .
تــمــت
ملاحظة : القصة قد كُتبت من قبـلي وتـمّ نشرها في أحد المنتديات سابقاً عن طريقي . .