syria.jpg
مساهمات القراء
قصص قصيرة
الكفر المسروق .... بقلم : المهندس محمود الأحدب

كان أول ما وضعته (أم سليم) سلة من التين  و (دبية حليب) بشكل متناظر على مؤخرة الحمار الذي بدأ يتململ نحن وطأة  الحمل من خضراوات بستان أبي سليم.


للتو كان أبو سليم قد فرغ من جمع بعض (عرانيس الذرة) وبصعوبة وجد لها مكانا في حملة العامر.

باقتا الملوخية تنبعثان من الحمل باخضرار لافت واحدة على اليمين والثانية على اليسار , كل شيء تمام, غمم أبو سليم تأكد من جاهزية الانطلاق ,ألحت عليه الحجة أم سليم بتناول شيء لكسر (الصفرة) أجاب أبو سليم : خلينا نتيسر إلى البيع يا حجة قد طلعت الشمس والمشوار طويل , ثم إني قد تناولت شيئا من الخبز المغطى بقشدة الحليب وجه الصبح ... خلي بالك من (لكن) الحليب  تأكدي من تغطيته بالمنخل.

وضع إحدى رجليه على (الدّك) المتهدم على حدود البيدر ودفع بجسمه فاستقر على الحمل مودّعا بدعاء الحجة .

 

انطلق أبو سليم بحمله قارئا كل آيات فتح الرزق و التيسير..

اخترق أبو سليم بحمله المدق المتعرج بتلوٍ جميل بين البساتين التي لما يغادرها الندى بعد , ملقيا تحيات الصباح على جيرانه الفلاحين, وخصوصا أم عمر وبناتها اللاتي شرعن بتعشيب (بعض المساكب) قبل (طقة الشمس).

مهرجان التعب والعرق النبيل يتكرر كل صباح في بساتين الكفر الذي يغدي المدينة القريبة جدا منه بكل ما تجود به تلك البساتين من خير .. حتى العصافير صباحا تواكب الفلاحين رابطة نشاط الأرض بفرح السماء.

 

جاوز أبو سليم براحلته حدود الكفر الى أول شارع يحد الكفر شرقا. الوجهة هي حي أبو رمانة و الشعلان وقد يصل إلى الصالحية حسب التيسير.

هناك حيث تعود زبائن أبي سليم على خضرواته الطازجة وباقات الجرزة من بقدونس و نعناع و طرخون وبصل و ناهيك عم سلال التين والمشمش والتوت الهزاز و الشامي.

رغم حرنة مفاجئة من حماره في منتصف طلعة شارع (المهدي بن بركة) كان أبو سليم مسرورا بقرب وصوله إلى أول زبائنه الذي اطل من شرفته على وقع صوت أبي سليم وهو ينادي على بضاعته (مال بلودان يا فاصوليا) علما أن الفاصوليا من انتاج الكفر وأن بلودان تبعد عنه حوالي خمسين كيلو متر

 

شارف أبو سليم على بيع حمله ... كل شيء مضى كالمعتاد ...دبية الحليب للست أم عنايات (المحمية) على الحليب (الساغ).

أما فضالة الحمل من الكوسا الكبيرة و البندورة الطرية (فراحوا بيعة) لأبي حمدو الدرويش المعيل.. وطبعا حسب البرنامج اليومي لابد لأبي سليم المرور على أبي (أحمد المتّوّك) لشرب كأس من الشاي الخمير على الضفة المقابلة لبردى في الحديقة التي ستصبح لاحقاً مكانا لفندق فخم اسمه الميرديان.

 

انتظمت قافلة الباعة من الكفر عائدة على إيقاع جميل رتيب إذ ترتفع حوافر الدواب بتناغم مع اصطفاق كفتي الميزان في كل حمل وكذلك قرقعة (الأواق) كأنه كرنفال للشكر.. لقد بيع الرزق.. وعاد الباعة إلى الأهل دخلوا الكفر توزعوا بين البساتين ..كل الى بستانه, حل أبو سليم وثاق الحمل ووزع الحلوى على الصغار المنتظرين بشغف عودته.. ربط الحمار على (غمر) من الفصة تحت التوتة الكبيرة المخيمة بظلها الوارف على كامل البيدر الممتد باستدارة أمام البيت .

يالله ... احم .. تنحنح أبي سليم داخلا باب الخوخة فعند أم سليم بعض الزائرات من جيرانها. سلّم على الجميع بادرته أم حسن :بإخباره بضرورة حضوره اجتماع أهل الكفر في الجامع لمناقشة التنظيم الجديد.

 

(تنظيم جديد ؟؟) دارت الدار حول أبي سليم ..زاغ نظره أحس بشيء.. قريب من التلاشي.

ساد اجتماع أهل الكفر لغط و جدل.. وتباينت الآراء وتصادمت بين مادح للخطوة مرحّباً بالتنظيم كخطوة حضارية وبين باك على البلد والهوية والخضار والماء ونمط العيش الذ1ي اعتاده منذ سنين تنازعت أبو سليم خواطر عديدة سأل بعفوية, تقرب الى السذاجة : يعني هل راحت البلد ؟..يعني هلأ تبقى البساتين ؟..وين بدنا نروح؟..أرزاقنا ماذا سنعمل؟..إجابات مختلفة أتته كالسهام من هنا و هناك  (حاجة تخلف يا).. ,إلى متى ستقبع خلف الدواب , سنقبض الملايين ريح بالك..

لتأت الأبراج والأبنية وتخلصنا يا رجل ..والأرض لا تأت الأرض بهمها . قال أحد المثقفين موضحا: يا جماعة التنظيم ليس لهذه البلد ..لسنا ضد التنظيم لكن..

 

أجابه ممثل البلدية : الموضوع انتهى والمخطط صدق بعد الإعلان لماذا لم تعترضوا ؟

انسحب أبو سليم متثاقلا من الاجتماع  أحس بشيء يدفعه إلى بيته. من ألان فصاعدا هو ليس من بيت فلان .. هو رقم ..تحول مع أبناء بلده إلى أرقام قالوا له أنه من المقسم :/233/ جاره أبو حسن من المقسم /176/..هكذا تحولوا الى ارقام لم يعد هناك هوية ..لم يعد هناك كفر.. لم يدخل البيت لدى وصوله الى فضّل أن يتكأ على المصطبة على يمين باب الخوخة , نادى أم سليم كي تاتيه بكاس من الشاي ..تمدد ..استرخى ..

أحس بأنه طير خفيف ..بل هو طير خفيف هكذا أحس.

 

أخذ يرفرف فوق البساتين على ضفاف السواقي سمع ثرثرتها شاهد التنور, مر فوق مساكب النعناع بين شتول الباذنجان على (المزّاز) مشى مع مياه (العدان) إلى الحقل غطّ على سطح الساقية حتى لامسها شرب حتى الارتواء أطبق عينيه على أخر صورة جميلة للكفر و نام..

أتته أم سليم بالشاي وانتظرته طويلا

 

وعرفت أن أبا سليم لن يفيق بعد الان!!.

2011-03-06
التعليقات
عصام حداد
2011-03-06 23:17:56
شجرة افضل من برج
أسلوب رائع وقصة معبرة استمتعت بها .. شكرا لك مهندس محمود .

سوريا
نور
2011-03-06 14:21:56
.
سرد جميل للغاية، كنت اتمنى ان تطول الخاتمة. مسكين هذا الفلاح الذي ما عادت ارضته تطعمه واضطر الى البيع. ومساكين نحن الذين خسرنا قوتنا كبلد زراعي

سوريا
عبده
2011-03-06 12:51:25
الذكريات
فتحتلي جروحاتي أخي محمود وأعدت لي ذكرياتي عندما كنت أراقب وصول الباص من نوى إلى كراج أبو عيد سنان بالحريقة وهومحمل بالخيرات من البيض البلدي والجبن واللبن والدبس ..... أما الأن فأذهب إلى كراج درعا لتلاحظ الموظفين من أهل القرى وهم يحملون ربطات الخبز وكراتين البيض فقد انعكست الأية ولم تعد القرية تطعم المدينة كما كان سابقا وكل ذلك بسبب الإهمال المتعمد للقرية وبمشاكل الفلاحين

سوريا
زوركوف
2011-03-06 05:28:04
?!!?
بداية: إن أسلوب القصة رائع وأنا أستمتع بالقصص مثل هذه، أحب وصف الطبيعة والحياة البسيطة.. بالنسبة للمشكلة، أعتقد أن أباسليما كان سيحصل على تعويض مادي محترم يريحه من هالعذاب.. بس كمان لابد من إحترام رغبة الإنسان وحاجته، بجوز خطأ المختار أو بالأحرى خيانته، إذ أوحى لذوي القرار أن الكل موافقون! حتى بدون جمع تواقيعهم! رحم الله العم أبو سليم، قطرة من دمعته عندي أغلى وأثمن من أكبر بناية.. إنها عزة وأنفة وكبرياء الكريم الشريف (أبوسليم) إذا قهر وظلم، أبت الأشجار إلاأن تموت واقفة، وكذا هو الحال مع العم ال

الإمارات