syria.jpg
مساهمات القراء
قصص قصيرة
لقاء...شاءه القدر... بقلم : ريم منهل حسان

في تلك الأمسية الدافئة من شهر آذار ولدى عودتنا من منطقة المزّة لا أدري لماذا اقترحت على صحبي بأن نعود سيراً على الأقدام؟؟.


ربما استطاعت الأجواء الربيعية أن تغريني بالتزوّد من نسيمها العليل..أو ربما كان حدسي يقودني إلى موعدي معه.

كنا نسير في دربنا على مهل وكان شيء ما يوجّه بصري باستمرار نحو الجهة المقابلة..إنه قاسيون وقد تقلّد زينته كما في كل مساء مصابيح ملونة بيضاء وصفراء وحمراء.......وعاودني سؤالي القديم ذاته عن سر التناقض العجيب بين قسوة هذا الجبل وبين حنانه حين يبدو محتضناً بيوته العتيقة.

 

عندما وصلنا إلى ساحة الأمويين لم أجدها مختلفة عن آخر مرة رأيتها فيها..لكنها باتت مختلفة جداً عن الصورة القديمة التي أحفظها في ذاكرتي..تلك الصورة التي تقفز إلى مخيلتي كلما ذكر اسم الساحة أمامي..كانت صورة لساحة يتوسطها نصب السيف الدمشقي وسلاسل من المصابيح الملونة..ذلك كان أول عهدي بساحة الأمويين..صورة سكنتني منذ كنت طفلة صغيرة وأبت بعد ذلك أن تفارقني..لازال السيف الدمشقي مسلولاً و لكن المصابيح الملونة اختفت لتحلّ مكانها مصابيح أخرى أوفر نوراً وأكبر حجماً لكن تلك الأولى كانت الأكثر دفئاً.

 

في الساحة كان علينا الاختيار بين طريقين فاخترت على الفور أن نسلك شارع المهدي بن بركة..وهذه المرة كنت أعلم تماماً سبب خياري..لطالما تجنبت السير في الطريق الآخر ولاسيما في فصل الشتاء..كنت أخشى ذلك الشعور بالوحشة الذي ينتابني كلما نظرت إلى مبنى معرض دمشق الدولي..لم أكن أطيق مشهده وقد لفّه الظلام والسكون..وكنت أتجنب رؤية النهر الذي أحب وهو يصارع الموت محتضراً بصمت.

في اللحظة الأخيرة شاء القدر لسبب ما أن نغير وجهتنا فنسلك الطريق الذي أخشاه..سرت في الدرب على مضض وهيأت نفسي للصبر على كل مشاعر الكآبة التي سأعاني منها هناك.

 

بعد بضعة أمتار سمعت صوتاً يلقي عليّ التحية وكنت أعرف ذلك الخرير جيداً..ما هي إلا لحظات حتى استيقظت في ذاكرتي كل الأشياء الجميلة..ارتفعت النوافير عالياً تزينها المصابيح الملونة..وبدأت أسمع صوت هديرها وأشمّ رائحتها..أتاني صوت فيروز من بعيد (أحب دمشق هواي الأرق.......)..الازدحام وضجيج الباعة الجوالين..طفولتي ودهشتي..كل تلك الذكريات تداعت إلى روحي دفعة واحدة..وكم كانت فرحتي عظيمة عندما لمحتها تبتسم لي من بعيد..حقيقة وليس خيالاً كانت تلك القناديل الملونة لا تزال مرفوعة على أحد أبواب المعرض..تلك التي لطالما أحببتها..وسألت نفسي: أتراني من عشاق القناديل والمصابيح الملونة؟؟.

 

نسيت من كانوا بصحبتي وبدأت أسير إلى جواره..وبدأ هو يهمس في أذني بصوته العذب لكن الكلمات كانت تضيع بين أصوات السيارات العابرة..كنت أقف كل قليل لأتأمله وكان الطريق خالياً إلا من بعض المارّة..ربما ظنني بعضهم مغتربة عائدة من سفر بعيد..وربما ظن آخرون بأنني أبحث هناك عن شيء ما..لم يدركوا أبداً سرّ فرحتي لرؤية هذه المياه التي أنعم الله بها علينا فأعادت لي بردى الحبيب..وتعجّبت في سرّي: ترى لو سلكت طريقي الآخر هل كنت سأحظى بهذه السعادة؟؟..وكم تمنيت في تلك اللحظة أن أجلس على أحد المقاعد القديمة المتهالكة فأحتسي قهوتي معه..علّني أشبع عينيّ وقلبي من مشهد هذا النهر بل هذا السحر الذي يجري أمامي برقة وعذوبة..و تمنيت أيضاً أن يظهر القمر بدراً في السماء الصافية ليشاركنا قهوتنا..وفجأة قلت في نفسي ضاحكة:  منذ متى كان البدر يظهر في الثامن والعشرين من الشهر ياااااا  ريم؟؟!!!.

 

تابعت سيري وسط تلك الأجواء الساحرة آملة أن لا ينتهي الطريق أبداً..وراودتني أمنية جديدة..ماذا لو كنت مسؤولة عن نظام السير لمساء واحد فقط؟؟..كنت بالتأكيد سأصدر قراراً وحيداً يقضي بقطع السير عن الساحة من جميع الجهات و لساعة واحدة فقط..نعم ساعة واحدة أصغي فيها لحديثه فأسمعه بوضوح وأستجلي كلماته التي يبوح بها إلي..وهنا كدت أقهقه بصوت عال لقد أخذتني أمانيّ بعيداً جداً..وحدثت نفسي: هكذا كانت أمنياتي دوماً..بسيطة جداً حتى الاستحالة..ومضحكة جداً حتى البكاء.

 

ما لبثنا أن افترقنا وكأن ما مررنا به كان حلماً جميلاً..تابع هو سيره وارتقيت مع صاحبي الأدراج المؤدية إلى الجسر..ولكنني كنت أتوقف كل قليل لأراقبه من مكاني مودعة.

عندما عدت إلى المنزل كانت يداي فارغتين إلا من حقيبتي..لكن قلبي وروحي كانا يطفحان في آن واحد بمشاعر السرور والشجن.

لقد أدركت أخيراً من أين آتي بكل ذلك العناد..إنه صديقي ومعلمي بردى..ذلك النهر الذي يتضاءل حتى لتظنّ بأنه سيختفي ذات يوم ..لتجده يجري متدفقاً من جديد..حاملاً معه الأمل لمدينة بأسرها.

 

لا أدري متى ستسنح لي الظروف بأن أعبر ذلك الدرب مرة أخرى..ورغم يقيني بأن معالم الساحة والطريق ستتغير حتماً وأن مبان جديدة سوف تظهر وأخرى ستغير شكلها..إلا أنني واثقة بأن شيئين فقط لن يتغيرا..بل ثلاثة أشياء..قاسيون وبردى وعشقي لهما..وأعرف تماماً أنني لن أختار بعد اليوم درباً آخر لعودتي..وربما تكون رحلتي القادمة في ليلة قمراء كما شئتها..من يدري؟؟..ربما!!..... 

 

 

3/3/2011

2011-03-15
التعليقات
ايمان
2011-03-23 22:40:04
كتيرحلو
الله بالفعل حسيت حالي ماشية معك

سوريا
ياسر محمود حاحي
2011-03-16 04:29:19
تحيــــة طيبة بهواء دمشق
أخت ريم لقد عشت معك من خلال السرد كلمة كلمة وسطر سطر وكأني كنت أمضي معكم في هذه الرحلة القصيرة وهذا يدل على أسلوبك الرائع في السرد كما أنك ِ كتبتي عن كل الملامح والصور الذي لا محال أنها تعيش في مخيلت وعيون كل دمشقي عاش في كنف دمشق رغم أن بردى فقد شيء من روحه القديمة التي ربما لم نراها نحن جيل الشباب لكن لا شك أننا سمعن عنه وشاهدنه في عيون الكبار شكرا" مع التحية

سوريا
حسام الشام
2011-03-15 14:27:16
شعور جميل ..
أعتقد أن كل من يعيش في دمشق لفترة طويلة لا بد أن تنتابه ما يشبه هكذا مشاعر .. تحيااتي ..

سوريا
محمد
2011-03-15 13:31:49
الله يبعت الخير
عن جد حسيت حالي ماشي معك و بوافقك الرأي أنا كل ما بمر من هنيك أو من على الجسر بطلع بطرف عيني على منظر النهر الناشف و المجرى الوسخ بس هي الفترة بعد ما الله أنعم علينا بالخير صرت وقف خصوصي لحتى شبع عيوني من منظر المي يلي عم تركض بالنهر و عم تعبي المجرى من الحيط للحيط و صير حس إنو لسى في خير بالشام قد ما كبرت بترجع شباب و لو على الأقل بالربيع

سوريا
سوري مثقف
2011-03-15 11:58:00
مساهمة جميلة ورقيقة
الذكريات دايما بتضل جميلة والحنين للامكنة اللي تعودنا عليها والظروف اللي عشناها بصغرنا شيء راقي وجميل جدا بحييكي عالمساهمة وكوني عايش برا سوريا ذكرتيني بالنهر اللي جنب ضيعتنا والحرش الصغير والدروب الضيقة الحقيقة ذكرتيني بكل شي حلو بس يا ترى السؤال هو هل نحنا قادرين على رؤية الجمال في كل ما نرى بمعنى لازم نشوف دايما الشيا الحلوة ونعطيا حقا بالوقت والمشاهدة والا منصير سجناء الذاكرة وتقبلي تحياتي

سوريا
الحفيري
2011-03-15 08:46:29
اشاركك المشاعر
والله انا كل يوم بمرق من جنب النهر وبحس اني متأخر على شغلي

سوريا
hazarba
2011-03-15 07:24:48
-
إن ما كتبته كان ليكون جميلاً جداً فقط لو أن الذي قرأه يستطيع أن يمر بحبيبك فيلقي عليه التحية و ينتشي برؤية هذا الوسيم ، و لكن في حالتي هذه فكان لوقع الحروف علي دوياً آخر، و أنا الذي كنت فيما مضى أراه عن كثب بحكم المكان اللصيق الذي كنت أعمل فيه قبل اغترابي، فقد رافقته في رحلة طويلة تقاطعت مع عنفوان شبابه عندما غمر بحبه الشوارع المحيطة به الى أن عانده المرض فغادرته قبل أن أشهد اختصاره في ساقية لا تجري إلا في مواسم الشتاء، و أنا الآن يرف قلبي لرؤيته من جديد بعد أن استفاق من غيبوبته. دمت بخير ياريم

الإمارات
الحمامة البيضاء
2011-03-15 05:02:24
صباح الورد
ما في احلى من الشام وكل شي فيها بردى وقاسيون والشام القديمة والنوفرة والتكية السليمانية ،الحلبوني والحميدية،الحجازوسوق مدحت باشا،مناطق أحب زريارتها وأشعر بالدفء والأمان معها

سوريا