أن ترفل بالشقاء و تروح و أنت المترع بالكآبة تصنع فرح الآخرين و تبشرهم بالقادمات من الأيام و تهدهدهم كي ينعموا بالسكينة بينما تتلوى روحك و تكاد تعتصر غما و لا أحد هناك ليمنعك من البكاء...
و يأتون إليه يريدون التنفيس عن مكبوتاتهم و التخلص من قيح النفس قبل أن ينفجر، و ينسى ما هو فيه و يواسيهم كأنه جُبلَ من مرح ليوزع الفرح ويخدر الألم داخل عقله، فتصرخ أعصابه أن ارحم نفسك فأنت متجه إلى التهلكة بسرعة متزايدة و بدون توقف على الإطلاق...
و يستمر متجاهلا نداء روحه و حاجتها لفسحة سماوية توسع عنها ضيقها و تزيح ما تراكم من ألم يلفها معتصرا منها الحياة، أجل يواصل تأدية الدور بإتقان فهناك هدف لا بد من الوصول إليه و إلا لا معنى لكل هذه التضحيات...و المبكي أنه مهما تعالى صوت الروح فلن يوقف عقله عن السعي لتحقيق حلمه...
إلا أنّ ما خفي عنه، وسط كل ذاك الازدحام لأفكار تعصف برأسه و ذكريات مريرة تعشش في مخيلته اختلطت بهموم اللحظة، أجل لقد خفي عنه سيناريو مرعب أشبه بكابوس رهيب، أن جسد الإنسان مصمم ليتوقف عن العمل عند الضرورة تماما كما يحدث عندما تتوقف الآلة عن العمل لأن خللا ما أصابها إلا أن نظام الحماية في جسم الإنسان أكثر تعقيدا بكثير فهو مجهز ليوقف نفسه عن العمل ذاتيا قبل حدوث الخلل إذا ما لزم الأمر فما اصطلح الأطباء و العلماء على تسميته العقل الباطن لم يتمكنوا بعد من إدراك كل وظائفه بالرغم من أنهم يعزون إليه الكثير من سلوكياتنا غير المفهومة...، و ما حدث في النهاية أن روحه قد أطلقت إنذارا (لحماية جسده) موجها إلى عقله الباطن دون علم عقله الواعي ليستلم العقل الباطن السيطرة على الأمور و يوقف كل شيء أجل كل شيء تماما كما يحدث لجهاز الكمبيوتر عند انقطاع الكهرباء نعم أعتقد أن هذا ما حصل بالفعل فقد سقط مغشيا عليه بلا أية مقدمات أو رسالة خطأ كما يفعل الكمبيوتر ...
عندما سمح لي الأطباء بزيارته أخيرا بعد خروجه من غرفة العناية الفائقة أوصوني بعدم التطرق لأي موضوع و عدم المبادرة بالحديث ما لم يفعل..، إلا أني خرجت من غرفته بعد انتهاء الوقت المخصص للزيارة بدون أن نتبادل كلمة واحدة أو حتى نظرة عابرة على الأقل إذ كان منشغلا عني بتأمل عميق لدرجة أنه لم يلحظني و لأكون لأكثر دقة هو لم يحرك عينيه أبدا عن السقف بينما كانت أصابعه تعتصر ملاءة السرير فأدركت أنه يشعر بالغضب لتعرضه للخيانة فهو لم يتوقع أن يستجيب جسده لروحه متحديا أوامر عقله الواعي بالاستمرار حتى تحقيق الحلم و أن الانسحاب من المعركة ممنوع فهو بمثابة الخيانة العظمى.
فقد كان ينظر للحياة على أنها تحد خالص و أن عليه خوض الحرب إلى النهاية ما دام يحلم بانتزاع مكان تحت الشمس، لذا أظنه كان مشغولا في ذلك اليوم بكيفية معاقبة جسده على عصيانه السافر...، إلى أنّ ما حدث في اليوم الرابع على زيارتي الأولى كان مفاجئا جدا بالنسبة لي فقد استيقظت صباحا على صوت رنين الهاتف في وقت مبكر و كان الاتصال من المستشفى و قد أبلغني الطبيب بضرورة حضوري على الفور و عدم إضاعة الوقت فنهضت مسرعا و لا أذكر كيف تمكنت من الوصول إلى هناك...
مرحبا أيها الطبيب ما الأمر...،انك تبتسم، اذاً هو أمر جيد.
انه يريد التحدث إليك.
أسرعت إليه لأجده مرتديا ثياب الخروج و أصدر لي أمرا(أخرجني من هنا حالا)، و لم أملك
إلا أن أهز رأسي كما لو أني قد تلقيت أمرا عسكريا، إلا أنه لم يكن مزعجا على الإطلاق فهذا يعني أنه بصحة جيدة و إلا لما تحدث بلغة الأمر.
استكملنا أوراق الخروج بعد أن قام الطبيب المعالج بإجراء فحص سريع و أصر على إعادة الفحص بعد أسبوع و لكني كنت متأكدا أن هذا لن يحدث فالطريقة الوحيدة لإعادته إلى الفحص هي أن يسقط فاقدا الوعي مرة جديدة و إلا لا داعي حتى لعناء تذكيره بالأمر فهو لن يجيبك إلا بسخريته المعتادة حول حرص الأطباء المبالغ به تماما كحرص الأمهات على أبنائهنَّ فهو لن يغير من حقيقة الأمر شيئا فالحياة بالنسبة له هي صراع و عمل دؤوب لضمان الفوز بل التفوق أيضا...
وصلنا إلى منزلي(لم أر من المناسب الذهاب إلى منزله المغلق منذ ثلاثة أشهر) و حينها فقط أدركت أن شيئا ما قد حدث ورحت أراجع ما كان منذ الصباح حتى اللحظة باحثا عن أي خطأ قد وقع و إن على غفلة فأنا لم أعتد منه هذا الصمت و غياب تعليقه اللاذع المعتاد فهو لم يبد أية حماسة من قبل لزيارة أحد ما في هذا الوقت المبكر فالزيارة بالنسبة له تتم بعد انتهاء وقت العمل و إذا ما أردت التحدث إليه بموضوع ما حتى لو كان مصيريا عليك زيارته في العمل و سيجيبك دون أن يتوقف عن العمل طبعا بعد أن يبين لك مدى قلة صبرك و عدم تقديرك لعملك و عدم اكتراثك لقيمة الوقت و إلا ما تركت شغلك و جئت إليه كان من الممكن أن تهاتفه أو أن ترسل له رسالة قصيرة sms و سيرد عليك عندما يجد وقتا لذلك...
حسنا لن أطيل الحديث أكثر بسرد وقائع ذلك اليوم... و سأكتفي بسرد المقطع الصاعقة، فلا زلت أذكر جيدا كيف توقفت عن تناول الطعام بغتة كما لو أن كارثة قد وقعت و لم أصدق ما قد سمعته للتو و اعتقد أن ثمة شخصا ثالثا غير مرئي يجلس إلى المائدة و يشاطرنا الحديث و لم أصحو من ذهولي إلا عندما صاح عاليا أغلق فمك الممتلئ بالطعام...
أعد ما قلته بالله عليك،محاولا التأكد من عدم وجود أي شخص آخر، فأنا لم أسمعك جيدا.ولم أفاجأ على الإطلاق عندما أجابني: و كيف ستسمعني و قد استغرقت ببلاهتك تلك ربما عليك زيارة طبيب ما فأنا لا أذكر أنك كنت أبلها عندما رأيتك آخر مرة و كعادته لم ينتظر أن أجيبه فتابع حديثه، كنت أخبرك بخطتي الجديدة للمرحلة المقبلة، أعتقد أني سآخذ استراحة لبعض الوقت فعلي إعادة النظر بطريقة حياتي و تعديل ما يجب منها و إلا سأخسر الحرب، قد تكون العودة إلى الوطن و البدء بعمل خاص هي أفضل الحلول، فالأمور قد بلغت نهايتها هنا و بات من الأجدى العمل بهدوء أكثر و سيكون من المفيد بعض التنظيم في علاقاتي مع الآخرين فأنا لم أر أحدا ممن كان ينوحون و يشكون لي مشاكلهم يوميا و لم أسمع أن أحدا قد زارني في المستشفى على الأقل هذا ما أخبرني به الأطباء. مع أني لم أتوقع رؤية أحد إلا أني ذهلت لرؤية ذلك يحدث لي و أنا لم أمتنع عن استقبال أو مساعدة أحد ما حتى في أسوأ أيامي كنت مادا يدي و لم أر يدا تقابل يدي عندما احتجتها.
سأعلمك بقراري النهائي عندما أصل إليه و الآن يجب أن أذهب إلى منزلي أريد أن أجلس لوحدي بعض الوقت و لا داعي لأن ترافقني و لكن حبذا لو تأتيني مساءا، و نهض مغادرا، و لم يمهلني لأبدي رأيي في المسألة، كما لو أنه في مهمة ما و يجب انجازها في زمن محدد... .
29/12/2010
أخ فادي مساهمة جميلة ومعبرة .. المثل يقول ( لاتكن لينا فتعصر ولا قاسيا فتكسر ) وخير الأمور أوسطها .. فالحياة ليست عملا فقط بل خلقنا الله بها لنتمتع بما أوجده لنا من متع .. ويقولون أيضا ( إن لربك عليك حقا ) شكرا أخ فادي .