عندما نسافر إلى مكان ما طلباً للراحة و الاستجمام نشعر بأن كل ما نراه جميل للغاية و بأن هناك الكثير من الأمور التي يمكن أن نعجب بها في كل لحظة.
هل لأن أماكن الاصطياف فعلاً مختلفة كل الاختلاف عن المكان الذي نعيش فيه؟! السبب بالتأكيد ليس كذلك، إنه ببساطة رغبتنا في الانفصال الكامل عن مشاكلنا اليومية، وصفاء نظرتنا وخلوها من التشويش وبالتالي قدرتنا على استقبال جمال الطبيعة كما هو بعيداً عن عمليات التحليل والتركيب.
العقل
كالمعالج المركزي في الكمبيوتر يعطي نتائج المعالجة الحسابية للمسائل التي نحصل عليها من خلال منافذ الإدخال الخاصة بنا وأعني بذلك الحواس الخمسة بعد أن يقوم بتحليلها إلى أجزاء، ثم إجراء مقارنة و ترتيب لهذه الوقائع.. وأخيراً إعطاء النتيجة وهي عملية الفهم. أي أن المعنى لا يفهم بشكل كامل، بل يقوم العقل بفهم الأجزاء الناتجة عن عملية تحليل المعنى إلى أصغر فأصغر.. كأن نقوم بفهم المستقيم على أنه مجموعة غير منتهية من النقاط. وبالتالي فمثل هذه المحاكمة قد تمثل حاجز أو أداة لتشويه عملية الفهم لبعض الأمور ذات الطبيعة المتصلة...
فعلى سبيل المثال هل
معاني إنسانية كالإيمان أو الحب أو الصداقة أو الجمال... يجب أن تخضع في فهمها وقبولها لمثل هذه المحاكمات؟! إن مثل هذه المعاني هي مفاهيم متصلة (غير متقطعة) ولا تقبل التقسيم وبالتالي فهي لا يمكن أن تخضع لعملية التحليل أو المعالجة العقلية المنطقية. و الجانب الروحي في الإنسان هو الذي يقوم بالإشراف على تطور هذه المفاهيم. فقناعتنا بوجود إله لهذا الكون بالتأكيد لم يكن نابعاً عن التفكير بهذا الأمر مع العلم أن التفكير به يزيد من ثباته وقوته.
إن العقل البشري سلاح ذو حدين، و الإنسان المعاصر يدفع ثمناً باهظاً كضريبة للتقدم العلمي و التكنولوجي باعتماده على وسائل فكرية قصيرة المدى لإدراك العالم الهائل الذي يحيط بنا.
فالرؤية من خلال العقل تكون قصيرة المدى وأحياناً خاطئة لأن الحسابات التي يقوم بها تستند إلى حسابات أخرى، عدا عن ذلك فالخروج من سيطرة الحسابات والمعالجات العقلية تمثل مطلب أساسي لتحقيق الراحة والتوازن لعالمنا الداخلي. لكن هل يمكننا القيام بذلك؟!
الموضوع ليس سهلاً على الإطلاق، فالعقل البشري لا يرغب في تسليم القيادة لغيره. وما الإدمان على بعض العادات السيئة كالكحول والمخدرات إلا وسيلة خاطئة يلجأ إليها البعض هرباً من السيطرة العقلية و محاولة غير حقيقية للوصول إلى عالم روحي خالي من التحليل والتركيب. لكن مع مرور الوقت يتحول الأمر من محاولة عابرة لتحقيق هذه الراحة إلى حالة مرضية دائمة نتيجة تشكل ردة فعل طبيعية يقوم بخلقها جسم الإنسان بشكل خارج عن إرادته وأحياناً حتى عن وعيه وهذا ما نسميه الإدمان. فالمدمن وجهلاً منه لهذه الحقيقة يعتقد بأنه يستطيع التخلي عن عادته بمجرد رغبته بذلك، إلا أن النفس البشرية هي التي تملي علينا الرغبة حينها لتحقيق التوازن و بالتالي فالإدمان يتناسب طرداً مع الفترة الزمنية التي يستخدم خلالها الانسان عقله خلال اليوم.
إذاً الاستخدام غير الصحيح للعقل البشري يؤدي إلى مشاكل خطيرة. وهنا أود التأكيد –منعاً للفهم الخاطئ- أن العقل (الإدراك) هو ميزة يمتاز بها المخلوق البشري عن سائر المخلوقات، لكن الإنسان المعاصر هو من قام بإدخال الحسابات العقلية في كل أمور حياته وجعل من العقل دواء لكل داء فهو يستخدمه في المكان المناسب وغير المناسب، وهو بنظره الأداة الوحيدة لفهم العالم، وهو يحاول حتى أن يعيش معه حالاته الروحية التي فقدت الكثير من معانيها هذه الأيام وأعتقد أن الجميع يوافقني على ذلك، ناسياً أن هذا الاستخدام اللامحدود للعقل سيبعدنا عن حقيقة الحياة تلك الحقيقة الموجودة في كل شيء في هذا الكون و لكن ليس في حسابات العقل البشري ذو الحكم المسبق و المرهون أحياناً بالحالة النفسية.
إن عدم التوازن في هذا المجال موجود عند كل شعوب الأرض، وهو موضوع تعكسه كل الديانات والتشريعات السماوية في محاولة لسد هذه الثغرة وتحقيق الانسجام الكامل بين عوالم الإنسان الداخلية التي تتحكم بسير حياته.
على الإنسان أن يعي ما منحه الله عز وجل من إمكانيات وقدرات، بل أن يحاول التحكم بكل ذلك للوصول إلى شخصية حضارية يستطيع من خلالها أن يوفق بشكل متلائم ما بين الجوانب العقلية والروحية وبالتالي تحقيق الانسجام و التوازن و"الراحة الكلية"، التي تعتبر الحاجة الماسة للإنسان المعاصر الذي يتمتع عملياً بكل شيء إلا أنه و في أغلب الأحيان يجد نفسه فقيراً، ضائعاً في متاهات هذه الحياة.
صمت الأفكار يؤدي إلى تفتح الحواس فترى الموجودات وما وراءها وتصغي إلى الأصوات كأنك لأول مرة تسمعها مفارقة مضحكة اننا أمضينا عمرا ونحن نحشو عقولنا بكل ما نسمعه ونراه وقبلناه غالبا دون محاكمة حتى أتى وقت نحاول فيه ان نتخلص من كل ما يحشو عقولنا نحاول فقط أن نكون حاضرين بكل كياننا بكل حواسنا وبقلبنا ونتوقف عن استخدام العقل في المكان المناسب وغير المناسب