كان صوت بكاء (نجوى) بنت جيراننا يخترق الباب المغلق ليصل لأسماعنا أثناء معالجة الطبيب ليدها من (لسعة) الدبور الذي قرصها ليلة أمس ..
خرج الطبيب وقد ظنَّ أنني أخوها فقال لي : اطمئن .. فقد جئتم بها بوقت مبكر مكنني من إخراج كل السموم من يدها الصغيرة ..
لم أستمع لعبارات الثناء التي قالتها عليَّ (أم هاني) لنجدتي لابنتها فور سماعي صراخها في منتصف الليل ، فقد كنت أنظر إلى وجه الطبيب وأحاول من عيونه الرجوع إلى الوراء في عمق الذكريات لأذكر من هو صاحب هاتين العينين ..؟
تبعت الطبيب المناوب إلى غرفته ، ووقفت عند بابها أتأمل وجهه الذي بدا لي أنني أعرفه تماماً .. فنظر لي مبتسماً مستفسراً ..
ثم قال :
- الدبّور يقرص من يخافه ..!!!!
وقفزت بي هذه العبارة إلى الوراء إلى أيام طفولة مضى عليها أكثر من خمسة وعشرين سنة ، لأفاجئه بقولي :
- أنت صدّام ؟؟
نظر إليَّ مستغرباً جداً ، فالعبارة التي على صدره واضحة تماماً (د.إلياس ....) فعدت أقول له :
- أنت صدّام ؟؟
ابتسم مستغرباً ثم قال :
- من صدّام ؟
- فتى الدبابير ..!!
ضحك د.إلياس من كلّ قلبه :
- ما زلت تذكر ؟
- نعم . بالتأكيد ..
- وأنت من ؟
- ابن الشيخ ... !
فقام واحتضنني بحب كبير .. ثمَّ أجلسني في غرفته وطلب لي الشاي فوراً ..
ورجعنا إلى الوراء أكثر من عشرين سنة نستذكر فيها أنا والدكتور إلياس أيام كنا صغاراً جداً نلعب معاً في الحي الذي نعيش فيه ..
كنت أعيش في إحدى حارات حيِّ (السويقة) ، ويعيش هو أيضاً في تلك الحارة التي تمتدُّ إلى حي (التيامنة) ذو الغالبية المسيحية ..
فقد كان "زعيم الحارة" ويلقَّبُ بـ "صدّام" لقوته وشخصيته القويَّة ، حيث كان وقتها محطَّ إعجاب كل الأولاد لقوته وجرأته ..
وذكرت له الموقف الذي لا يمكن أن أنساه طول عمري .. والذي جعلني وقتها أظنّ أنه أقوى رجل في العالم
فقد رأيته يلحق بالدبابير بكيس في يده ، فيقبض عليها ضمن الكيس ، ثمَّ يضيّق عليها الخناق ليفتح في الكيس فتحة صغيرة جداً تخرج منها إحدى
أرجل الدبّور .. فيربطها بخيط طويل ، ثم يطلق الدبور ويركض بين الأولاد ممسكاً بالخيط الذي يطير فيه الدبّور ..!!
كان الأولاد الصغار لا يجرؤون على الاقتراب منه ، ولكنهم يتبعونه شغفاً وإعجاباً بقوته ..
وذات يوم كان يركض في الحواري وهو يطيّر ثلاثة دبابير معاً ..
ثم وقف بين الأولاد الذين أحاطوه بمسافة أمان ما بين خوفٍ من الدبابير وإعجاب بجرأته وقال :
- الدبور يقرص من يخافه .. ومدَّ يده بالخيط ، فلم يجرؤ أحد أن يأخذ الخيط من يده ..!
تصادقنا معاً أنا وإلياس (أو صدَّام كما كان يسمُى) وكنت أزوره في بيته ويزورني في بيتي ..
كنت أهوى البحيرة التي تتوسط بيتهم العربي الكبير ، ويهوى هوَ تسلُّقَ دالية العنب التي كانت تغطي بيتنا العربي المقابل لبيتهم .. ويتلذّذُ بأكل العنب
وملاحقة الدبابير ..
كثيراً ما جلست على طاولة الغداء مع أهله ، وجَلَسَ على طاولة الغداء بين أسرتي ..
وفي أحد الأيام كانت هنالك سيَّارة سوداء غريبة الشكل تقف عند باب بيتهم ..
كان هنالك جمع غفير من الناس أيضاً ..
سألت أبي :
- ما هذه السيارة ؟
- إنها سيارة الموتى .. لقد توفيت عمّة صديقك إلياس ..
- ولماذا هي سوداء هكذا ومليئة بالورود ؟
- لأنهم نصارى ..!!
ولم أدرك تلك الأيام أن ذلك الجار كان مختلفاً عني في الدين والعقيدة ، ولكنني عرفت لماذا لا يذهب إلى المسجد يوم الجمعة معنا ..
سنة واحدة مرّت على صداقتنا لننتقل من بيتنا إلى حيٍ آخر ..
وإلى اليوم لا أنسى وجه أمه وهي تطلُّ عليَّ من نافذة البيت تقول لي في آخر ليلة بتناها في ذلك الحي :
- هل فعلاً ستنتقلون من هذا البيت ؟
- نعم .. غداً لن تروننا في هذا الحي مرّة أخرى !
وذرفت يومها (أمُّ إلياس) دمعةً لم أفهمها ...
ثم نزلت إلى بيتنا تودِّعُ أمي .. ورأيتها تبكي مرة أخرى ..
في ذلك البيت لي ذكريات قليلة جداً بحكم صغر سني ..
ولكن لا أنسى أنَّ والدي رحمه الله لم يضربني إلا مرَّتين ..
مرة تشاجرت فيها مع "إلياس" فشقًّ لي ثيابي ، ومرة ضربني فيها "حيدر" (ابن جارنا العَلَوي) فبكيت وشتمته ..!!
لم أفهم حتى اليوم لماذا قسى أبي عليَّ بشدَّة كبيرة وهو يضربني تلك الأيام ..!
فما معنا أن أتشاجر مع علي أو مع إلياس أو مع محمد ؟؟
نعيش منذ ولدنا في بلدٍ لا مكان فيه للوحدة الوطنية فحسب ، بل حتى مصطلحات "التعايش" و"العيش المشترك" و"اللُحمَة" و"التآلف" وغيرها ليس
لها أيُّ مكان بيننا ..
فقد كانت علاقة العيش فيما بيننا أكبر من أن نطلق عليها تسميات أو مصطلحات تبيّن أننا نعيش لنحافظ على شيء نخاف أن يتمزَّق ..
فلم تمزِّق السنين الطويلة أو القصيرة التي أعيش فيها بمجتمعي أية صلة فيما بيني وبين أي إنسان "سوريٍ" آخر ..
ولم أربط يوماً ما علاقةً لي مع أحد على أساس أنني أوطِّد وحدةً وطنية أو أزيدَ من تعايشٍ نخاف أن نفقده ..!!
ولعلّي أشعر بمن يبالغ في الحديث عن هذه المعاني أنَّهُ يكرِّس الشّقاق والفرقة والخلاف ، ويوحي بأنَّ هُنالك خلاف واختلاف وتباين ، وعلينا أن نبقَ
نلاحظه ونشعر به خوفاً من أن يتمزَّق ..
بل إنَّ الأمر وصَلَ إلى تخويف مبطَّنٍ عند البعض بأنَّ فتنة طائفيَّة قد تحدث في بلادنا في أيِّ وقت ..
ولكن أقول لهؤلاء : لن تحدث فتنة في وطنٍ أنا وإلياس وعلي من أفراده ..
فلم أشعر في طفولتي بالفرق أبداً مع كل جيراننا الذين عشت معهم بكلِّ الحب ، ولم يُشعرني شيء بالاختلاف الموجود إلا قسوة أبي معي يومها
لأشعر بأنَّ عليَّ ألا أكون طبيعيَّاً فطريَّاً (سوريَّاً) بتعاملي مع من حولي ...
ولعلَّ أبرزَ ما في القصَّة التي لا ننساها أنا ولا (إلياس) أن والد إلياس ذو منصبٍ كبيرٍ في الكنيسة ، ووالدي كان من كبار الخبطاء في دمشق ، وكان إذا زارنا في بيتنا بعض العلماء والدعاة أرى أبا إلياس يقف عند باب بيته يسلِّم عليهِم واحداً واحداً ..!
سألت إلياس عن أمّه .. فذكر لي أنها توفيت ..
فذهبت (دون أن يدلني أحد على الطريق أو مكان القبر) لأزورها .. وأضع عند قبرها وردة ..
ثم رجعت إلى البيت أنقل قصّةً أحبُّ أن أقرأها كلّ يوم ، ولكن بشخصيات جديدة ...
أسلوبك جميل جدا والقصة التي اخترت رائعة حسستنا بشوية أمل كان بلش يتلاشى بسبب هالأمور يلي عم تصير حاليا من ناس أنا متأكدة انهم مو من سوريا ولا بعمرهم شربوا من ميتها ولا أكلوا من أرضها ولا عاشوا مع ابناءها
هاي القصةكأنها نفسها قصتي انا والكسندر وصافي وسائر بالجامعة كل واحد من مذهب وكل شي يومين بنجتمع عند واحد وبحياتنا مافكرنا بأنو حدا مختلف عن التاني مابينخاف علينا من الفتنة لانو كلنا أخوة
أشكرك على جميل ردِّك .. وأضيف إنَّ هذا جزء من ثقافتنا وديننا .. وليس أمر نتعلمه أو يفرض علينا أو نهدد بضربه يوماً ما .. فهل يهددك بقطع الهواء عنك سوى من يريد قتلك ..؟؟
اخ ابراهيم رائع كالعادة وعميق وذكي كالعادة. رحمة الله على والدك ولا اخفيك اني في كل مرة اقرا كابتك عنه اتمنى لو اسعفني الحظ وتعرفت اليه. رحمة الله عليه وكما يقال من خلف ما مات
لوحة جميلة شكرا لك وعسى بلادنا دائما مهد للمحبة والالفة فما يزيد سوريا جمالا هو تعدد اطيافها والوانها فيجعل بلادنا قطعة موزاييك وفسيفساء شكرا الك
قصة جميلة جداً أستاذي إبراهيم.. أرجعتني لحين خدمتي العسكرية حيث كنا أربعة من مذاهب مختلفة وكنا كالأخوة جميعاً وكل منا يحترم الآخر، وسبحان الله الذي يقارب بين البشر .. تقبل فائق تحياتي
قلمك يشدني دوما لقراءة كلماتك الصادقة والقلبة لقد ذكرت أمرا هاما في بلدنا لا يمكن أن ننساه بالفعل لا نحتاج للمصطلحات لأن ما يجمعنا بمن حولنا أكبر منكل الكلمات واسمح لي أن أضيف موضوع القرابة والأخوة في الرضاعة وخاصة في القرى إذ كنا يتفقن النساء على أن تستلم إحداهن الأطفال لإرضاعهم ولبقية يذهبن للحقول للعمل في الزراعة لذلك كان ينبه المشايخ لموضوع الزواج من نفس الحارة خشية أن أيكون الشاب والفتاة أخوة في الرضاعة ولم يكن أي تفريق في موضوع الديانة ولا الطائفة بل كان تعاون حقيقي بينهم وإلى الآن ..
ياالله هاد هو الواقع يلي عشتوا بطفولتي وبمدرستي وبمعهدي ... مافي فرق المهم الانسان بطبعوا وعقلوا كلنا اولاد بني آدم و حواء مافي فرق بين الصبي و البنت ما في حدى جاية من المريخ لانومن جنس ثاني او عقيدة ثانية المهم انت تعرف انت مين وتفتخر بكونك ابن فلان وبماتؤمن كن انت وعامل الباقي على انهم بشر مثلك
ولكن يجب أن تعلم ياأستاذ أننا في هذا الوطن جميعنا متعايشين منذ زمن مهما كانت طوائفنا وكل المظاهرات السلمية التي خرجت لم تحمل أي شعار طائفي بل نادت بالحرية وبعض المطالب فأرجو أن لاتحولوها لطائفية كمايزعم البعض
وعي,تسامح,أخلاق...وإذا توّج الدين كل ذلك فإني أرفع قبعتي احتراماً.
جميلة تلك القصة التي أسقطتها على المجتمع و أنا و غيري .. كلنا لنا ذكريات فيها صور العيش المشترك .. قصة جميلة و الموعظة أجمل
لقد قرأت كثيرا" من كتاباتك وأعجبتني كثيرا" رحم الله أباك وأدخله فسيح جناته لقد ترك وراءه إنسان عظيم ورائع لاأجد تعابير ومعاني أعبر فيها عن محبتي وإعجابي بشخصك هنيئا" لأولادك بهذا الأب العظيم الرائع مع خالص إحترامي 0000