منذ سقوط الدولة العثمانية إكتسبت العلاقات العربية-التركية بُعداً أكبر من التضارب. فقد تأسست دولٌ عربية متعددة في المنطقة قاسمهم المشترك القومية العربية و الدين الإسلامي.
أمّا في تركيا نفسها، وريثة الدولة العثمانية، فقد ظهرت الى الوجود جمهورية مصطفى كمال أتاتورك العلمانية التي، حاولت الحكومات التركية المتعاقبة، بغضِ النظر عن توجهاتها الدينية و السياسية، أن تعتبر تركيا دولة أوروبية و تنزع عنها الثوب الشرقي.
عند زوال الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى وزعت ممتلكات الدولة العثمانية بموجب إتفاقية سايكس-بيكو التي وُقِّعَتْ قبل إنتهاء الحرب، ثم خلقت أوروبا نفسها الدولة التركية الحديثة بشخص مصطفى كمال للوقوف أمام المد الشيوعي. و كان هذا الموقف الغربي من روسيا ينبع من حقيقتين، أولاهما، اقتصادية، منع روسيا من الوصول الى نفط العراق في الموصل ثم الوصول الى الخليج لقطع طريق بريطانيا نحو الهند و ثانيتهما، سياسية-فكرية، منع تغلغل الفكر الشيوعي في المنطقة العربية و الشرق الأوسط.
يعد اربكان من أطلق جذوة الإسلام السياسي، فكان رائدا في إقحام الحركة الإسلامية في الانتخابات البلدية والتشريعية وفي الحكومات... كانت ذروة نجاحاته كسب حزب الرفاه الذي يرأسه الانتخابات البلدية عام 1994، ولا سيما بلدية اسطنبول التي فاز بها اردوغان. واعتبر العام 1995 حاسما في فوز حزب الرفاه في الانتخابات النيابية، ليكون اربكان أول رئيس حكومة إسلامي في تركيا.
المحطة الأبرز في حياة اربكان في نهاية حياته السياسية كانت في «تمرد» المريدين على المرشد، عندما اختار كل من الثلاثي عبد الله غول ورجب طيب اردوغان وبولنت ارينتش الخروج من عباءة الأب الروحي لهم، وتأسيس حزب جديد هو حزب العدالة والتنمية في صيف العام 2001 برئاسة اردوغان، منتهجين نمطا جديدا في تناول القضايا المختلفة، وقد نجحوا مع وصولهم إلى السلطة في نهاية 2002، ولا يزالون فيها كأول حزب ذو طابع إسلامي ينفرد بالسيطرة على البرلمان والحكومة ومن ثم رئاسة الجمهورية، ويحدث انقلابات دستورية غير مسبوقة.
واتسمت العلاقات بين اربكان وكل من غول وأردوغان بالتوتر والحساسية في السنوات الأخيرة، حيث كان اربكان يتهمهما بأنهما ينفذان أجندة أميركية في شرق أوسط كبير. لكن اردوغان وغول حرصا دائما على عدم الدخول في سجالات مع اربكان، احتراما لدوره في حياتهما السياسية. انتشر صيت اربكان خارج تركيا، فكان واحدا من أبرز رموز الحركات الاسلامية في العالم وداعية لقيام اتحاد بين الدول الاسلامية، بما فيها عملة موحدة وجيش موحد ومجلس امن اسلامي موحد، وهو المؤسس لمجموعة الدول الثماني الاسلامية.
تحاول تركيا "أحفاد أربكان" أن تكتشف مجدداً عمقها الاستراتيجي، تركيا في تلك الفضاءات الاستراتيجية تجد نفسها أمام تحديات كبيرة؛ تحديات تصيغها متغيرات تركيا الداخلية ومتغيرات إقليمية وأخرى دولية. وفي كتابه "عودة تركيا إلى الشرق الأوسط"، يتناول ميشال نوفل "الاتجاهات الجديدة للسياسة التركية"، فيتوقف عند تطور السياسة الخارجية لتركيا في إطار النظرية السياسية الجديدة حول الدولة التركية، ويركز على الإحاطة بالحقل الثقافي الأيديولوجي لمشروع "التوليف التركي الإسلامي"، ويحاول تفكيك الجهاز المفاهيمي لـ"العثمانية الجديدة" ورصد التبدلات في وظيفتها السياسية منذ مطلع التسعينيات وصولا إلى دبلوماسية "أحفاد أربكان" التي تظهر مفارقة صارخة.
يقول ميشال نوفل إن التغير الأساسي في تركيا الأتاتوركيه بدأ عام 1980، عندما شرعت الدولة التركية في فتح أبوابها للنظام الاقتصادي العالمي؛ فأطلقت حركة السوق وحررت نظام التجارة الخارجية. لكن نهاية ذلك العقد شهدت انقضاء الحرب الباردة والذي كان يهدد بتقليص الأهمية الاستراتيجية لتركيا وتهميشها بعدما طرقت رسمياً باب أوروبا في أبريل 1987 ووجدت نفسها خائبة من هذه الجهة.
إلا أن تطورين كبيرين جاءا ليعززا مكانة تركيا؛ أولهما الغزو العراقي للكويت عام 1990 والذي أعاد تذكير الغرب الحريص على إمداداته النفطية بأهمية أنقرة الحيوية بالنسبة لأمنه. وثانيهما تفكك الإمبراطورية السوفييتية، والذي أظهر إلى الوجود عالماً تركياً كان محجوباً عن الرؤية، وهو عالم متواصل جغرافياً من البلقان إلى تركستان, ويضم 150 مليوناً من الناطقين باللغة التركية، ويمثل حالة استراتيجية ذات أهمية متزايدة، لاسيما أن الشعور بالهوية الثقافية التركية الجامعة صار أمراً ملحوظاً لدى أتراك الأناضول كما هو الحال لدى سكان الجمهوريات التركية في آسيا الوسطى والقوقاز...
قبل الحديث عن "أحفاد أربكان" لا بد من ذكر تجربة الرئيس الراحل تورغوت أوزال في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي التي أسس فيها لنظرية "العثمانية الجديدة" و هي لا تعني بالنسبة له إعادة دور تركيا الإمبراطوري العثماني في النظام الإقليمي...تلك النظرية تعني أن تركيا رغم أنها ذات طرح قومي إلا أنها تشمل قوميات متعددة مثل الأتراك والأرمن والأكراد وهذا المفهوم الأوزالي يتجاوز مفهوم القومية التي أسسها أتاتورك...
يعود الفضل في وصول حزب العدالة والتنمية الى السلطة عام 2002 الى الإصلاحات الاقتصادية التي قام بها أوزال، تنشيط المجتمع المدني وخلق طبقة جديدة من رجال الأعمال استفادت اقتصاديا من تشجيع الصادرات التركية الى أسواق جديدة... الا أن توازنات الدولة الخفية في ذلك الوقت لم تكن تسمح باستمراره، كان هنالك مفاوضات غير مباشرة بين أوزال وأوجالان، عبر الوسيط الكردي العراقي، جلال طالباني. وقتها، أعلن أوجالان عن وقف لاطلاق النار من جانب واحد، في 20/3/1993، وتجاوب أوزال مع الأمر، وكان على وشك إصدار عفو عام.
يمكن اعتبار ( أوزال، عدنان مندرس الثاني) رئيس وزراء تركي تمّ اعدامه شنقاً بعد انقلاب 1960). أوزال كان قد تعرّض لمحاولة اغتيال فاشلة سنة 1988. وبعض مضي 5 سنوات، توفّي بشكل مفاجئ. وجاء في بيان النعي الرسمي، إن الوفاة ناجمة عن "أزمة قلبيّة". لكن بقيت الشبهات تحوم حول الاسباب الحقيقيّة لموت أوزال؟ والجانب الكردي، وتحديداَ، أوجالان، كان يشير مراراً إلى ان أطراف في الدولة، هي التي تقف وراء كل الجرائم التي شهدتها تركيا، ومنها موت أوزال.
وفيما بعد، أطلق تسمية "الدولة الخفيّة" أو الدولة الظلّ، أو الدولة العميقة المتغلغلة على هذه التشكيلات التي تقف وراء تلك الجرائم. وبحسب شقيق أوزال، كوركوت أوزال، "إن أحد عناصر شبكة ارغاناكون، قد دسّ السمّ لشقيقه، أثناء تواجده خارج تركيا، في اجتماع لدول أسيا الوسطى. وبعد وصوله لتركيا بيوم، توفّي فوراً.
الدولة العميقة "الخفيّة":
هي تسمية تطلق على مراكز القوى التي تدير الدولة من وراء الستار. وهي الدولة الحقيقيّة، وليس مؤسسات الدولة المعروفة، التي تعتبر الواجهة أو ديكور الدولة في تركيا.
وهي عبارة عن شبكة عميقة وواسعة وسريّة للغاية، تنشط في كل مفاصل الدولة وهيئاتها وسلطاتها، وترتبط بشكل مباشر بهيئة الأركان. هي اليد المسؤولة عن كل عمليات القتل والاغتيال والتصفية, استمرّ هذا الشكل الاجرامي من إدارة السلطة والحكم امتدّ للحقبة التأسيسيّة للجمهوريّة التركيّة، وكانت وراء، تأليه أتاتورك، ثم تقويض سلطاته، والعمل باسمه. وهي المسؤولة عن الانقلابات العسكريّة الأربع التي شهدتها تركيا، سنة 1960، 1971، 1980، 1997، وكل مخططات الانقلابات التي افتضح أمرها.
هذه الشبكة، صارت تسمّى أرغاناكون، تيمّنناً باسم ملحمة تركيّة قديمة. وهي أحد أذرع دائرة الحرب الخاصّة التركيّة، التي بيدها كل أسرار الدولة، العسكريّة منها والسياسيّة والأمنيّة. وشبكة أرغاناكون، توازي في السلوك وطبيعة العمل والاهداف، شبكة الغلاديو الإيطاليّة، التي تمّ تأسيسها أثناء الحرب الباردة، وكانت دول حلف الناتو تقوم باستخدامها ضدّ السوفيات ودول الكتلة الشرقيّة.
شهر واحد يفصل تركيا عن انتخاباتها النيابية الثالثة التي يشارك فيها حزب العدالة والتنمية، بعد الأولى التي حملته إلى السلطة في العام 2002، والثانية عام 2007 ومع أن النتائج تكاد تكون محسومة لحزب العدالة والتنمية وفقا لكل استطلاعات الرأي، فإن الحملات الانتخابية التي يقودها زعماء الأحزاب تتسم بقدر من "الانفلات" الكلامي والاتهامات الشخصية واللعب على وتر الغرائز المذهبية والقومية.
وباتت حرب الكاسيتات من ملامح معركة الانتخابات، مع الكشف المتدرج عن تسجيلات مسيئة لهذا الحزب أو ذاك، وآخرها يتعلق بحزب الحركة القومية، حيث اتُّهم حزب العدالة والتنمية بالوقوف وراءها من أجل إضعاف "الحركة القومية"، ومنع نيله نسبة العشرة في المئة التي تخوله دخول البرلمان، وهذا يصب في مصلحة "العدالة والتنمية".وتميزت حملة اردوغان هذه المرة، بخلاف المرات السابقة، باللعب على الغرائز المذهبية والقومية.
يكرر اردوغان الإشارة في معظم خطاباته في المهرجانات الانتخابية اليومية إلى الانتماء العلوي لزعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض كمال كيليتشدار اوغلو، وذلك من اجل كسب أوسع كتلة سنية، ولا سيما تلك العائدة لحزب الحركة القومية.
يسلك الحاج أردوغان نهجا قوميا متشددا أيضا لأخذ الصوت القومي المتطرف من حزب الحركة القومية، حيث يعارض كل المقولات التي أطلقها حول الانفتاح على المشكلة الكردية والسعي لحلها، عندما أعلن فجأة قبل أيام انه لا توجد في تركيا مسألة كردية، بل مشكلة مواطنين أكراد، وهذا يتعارض مع اعترافه في العام 2004 بوجود قضية كردية في تركيا، ما يعني العودة إلى مربع الصفر في العلاقات بين الأتراك والأكراد، وهو ما ساهم في رفع منسوب التوتر بين الجانبين، فكان استهداف حزب العمال الكردستاني موكب اردوغان مؤخرا وحصول اشتباكات بين الجيش والمسلحين الأكراد في منطقة تونجيلي في جنوب شرق تركيا.
في ظل هذا المناخ المتوتر في الداخل التركي، أظهرت إحصاءات ميدانية أن الناخب التركي يبدي اهتماما بالخطاب الهادئ والمعتدل الذي يقدمه كمال كيليتشدار اوغلو في مقابل الصورة الصاخبة التي يظهر بها اردوغان.
تحليل غني و مفيد يساعد في فهم الموقف التركي من الأحداث المؤلمة التي نمر بها.