لصفير النهايات الغبية وقع على الأذن أشد من وقع صفير القطار مرتحلاً من على رصيف المحطة، ممزقاً كل الهدوء الذي ساد في قلبها مع إغفاءة عابرة لعينيها على شفتي حبيبها، وأشد من وقعها على أذنها بعد كلمات هادئة ظن أنها ستقبع في المحارة بهدوء، دون أن يدري أنها أثارت جنون الأكوان في بقية روحها، لتطلق العنان لكل الصراخ الذي يمثله القطار المزروع في داخلها.
في داخلها، تشعر أنها كالقطار الذي يصرخ ويصرخ ويصرخ وفي النهاية لا يجد من نتيجة للصراخ سوى ذلك الكم الهائل من الدخان الذي يخنقها وينظر إليه الآخرون بانزعاج. وطنها يبكي وحده، وحبيبها لا يريد أن يبكي معها، يوجعها حنينها له من شدة السواد، و شاعرها ما عاد شاعرها هي.... ما كان شاعرها هي، صار شاعر الأنثى التي كانت، وشاعر الأنثى التي تحاول أن تبقى على قيد الحب، ومازال وسيبقى شاعر الوطن .... كما ستبقى هي نذراً مؤجلاً لعيني الوطن.
تشتاق أن تسمع هدير الموج في صوته ونزق الرعد في غضبه، تشتاق أن تتلمس من جديد احتضار كلماتها على مفارق صوته الذي ينساب بهدوء مخيف معبّقاً بالكثير من الملل. تشتاق أن تسمع أقاصيصه الغبية والجامحة والحبيبة؛ غريبٌ كيف لقصة تتسلل خلسة من بين شفاهه بعد أن يتبرأ منها عقله وقلبه معاً، كيف لها أن تكون غبية وجامحة وحبيبة، لكنها كانت كذلك ومازالت كذلك.
قالت لقلبها سأعاقبك على عشقك له، فليس لك أن تسمع له صوتاً ولا همساً ولا ترى لخياله حلماً، ولا تحمل لكأسه نبيذاً، ولك من ساعة هذا المغيب حتى الأبد أن تعتاد لمسة يدين غريبتين غير يديه، وقبلة شفاهٍ صفراء غير شفتيه، وضبابية عينين ملونتين غير عينيه، قال قلبها لها: كيف لي إذاً أن أحكي؟ كيف لي أن أشعر؟ كيف لي أن أفهم ما يقوله عصفور يحط كل صباحٍ على شباكك حاملاً لك منه ذكرى، قالت له: اعتد على لوحة الحياة أن تكون بلا ألوان، وأن يكون المطر منذ الآن ضفيرة بكاءٍ تلتف حولك حتى تخنقك وتفقدك وعي الحب، اعتد على فكرة مغيب الشمس قبل أوانها بكثير، واعتد فكرة ألا تشرق الشمس من جديد، نظر إليها قلبها بذهولٍ تحول إلى سخرية فقال: وكيف للشمس يوماً ألا تشرق إن كان الرب في السماء معتاداً أن يبدأ يومه بها، أيصبح الرب بلا نهارات إن اعتكفت الشمس عن الشروق لأنني لم أعد أسمع له صوتاً، ولا أرى لخياله حلماً أو أسكب شفتيك في كأسه نبيذاً
قالت له: الرب ابتعد أمام معشوقي خطوتين، خطوة كي يحيل القلب إلى بقايا قلب، وخطوة كي تصير البقايا خيالات حجرٍ بارد، الرب عند حدود صورته صار شبحاً ولم يملك جرأة القول لعينيه لا تحزنا، فحزنه كان متجبراً فما ترك الروح كي ترتل وحدتها، ذاك الحزن يا قلبي كان أكبر مما يستطيع ممثلي الأرض أن يبتدعوا مثله، ولكل الوحدة التي تعشقت في عروق يديه وفي أنامله المجنونة ما كان للرب أمامها أن ينطق.
لقلبها كل الرحمة، لجنونه كل السلام، لحزنه كل الربيع، ولعينيه كل روحها ولابتسامة شفتيه كل ابتسامات عمرها، وستبقى رغم ما ادعته أمام قلبها تعشقه، وهي تعرف أنه ليس لتلك الأغنية التي تحمل كل ما فيه إلا أن تكون له ......تحبه ولو لم يحبها يوماً، فقط لأنه كما هو، وفقط لأنها إذ قالت له يوماً أنت تشبه الوطن كانت تدرك بأنه أحلى ما قدمه لها الوطن.
يا وطنها.... أعطاها اسمها، أعطاها هويتها، أعطاها صوتها، أعطاها قلماً من حجارة جباله، حبره من بحره، وحين تكتب به تصفق لها ياسمينات دمشق وتهديها .... مع كل كلمة قبلة من حبيبها، وذكرى من تقاسيم غربته على أوتار عمرها الضائع، فيما هي تقول: شكراً يا وطني لأنك رضيت أن أقول أنك وطني، وسمحت لي أن تكون وطني .... شكراً يا حبيبي لأنك سمحت لي أن أحبك، وعذراً فأنا ما عدت أريد أن أتحداك وأثبت خطأ أفكارك، لأنك لو رأيتني فعلاً، لو شعرت بي فعلاً، لأدركت أن أفكارك قد ترتاح حيناً على صدري.
.... وشكراً لكما معاً.... لأنني أنا ....
حبيباً لم يحبها يوماً.. ليس أحلى ما قدمه لهاالوطن.. ووطناً لا يقدم إلا غدر الحب ليس وطناً.. كلاهما لا يستحق الشكر.. بل النسيان..وبدمٍ بارد.. هي أنثى.. لو أدركت عظمةأنوثتها..لأقامت جنازة سريعة لذكرى الحبيب ..وحفلة وداع متواضعة لحنين الوطن.. ومضت ترقص بكبرياء..
شكراًلك منيحب وطنه