syria.jpg
مساهمات القراء
مقالات
تأمّل سطور الكائنات ...بقلم : د. منى إلياس

بدأت الثورة الفرنسية رومانسية ومثالية، ثم تحوّلت إلى جنون وإرهاب ومذابح، فشرعت تأكل أبناءها واحداً واحداً وفريقاً فريقاً، ثم راحت تتقلب بين شطط اليمين وشطط اليسار كأنها سفينة تتلاطم في موج عاصف تصعد تارة إلى الذروة وتهبط طوراً إلى السفح، وبين الذروة والسفح كانت تراق دماء غزيرة، وتخاض حروب مدمرة. وكانت نتيجة الصراع كابوساً مرعباً لم يكن يحلم الفرنسيون أنهم سوف يتجرعون كأسه، وهم يهدمون الباستيل طلباً للحرية والعدل والمساواة.


قام المؤرخون بدراسة هذا الحدث الذي هز فرنسا في السنوات العشر الأخيرة من القرن الثامن عشر وما تلاها، وما زالت المقالات تدبج والكتب تؤلف حول هذا الإنجاز الخطر في مسيرة تاريخ الإنسانية، لكن هناك حقيقة فوق كل مؤرخ اليوم تقول: إن ما بقي من الثورة الفرنسية قد تكون القيم التي جاءت بها فقط، لكن حتى هذه القيم ما لبثت أن داسها الفرنسيون عندما سنحت لهم فرصة (استعمار) شعوب ودول أخرى في مناطق من العالم حيث كانت شعارات الثورة الفرنسية، وعلى رأسها شعارات الإخاء والحرية والمساواة التي نادى بها من قاموا بهذه الثورة من الأجداد (تداس) حتى منتصف القرن العشرين في بلادنا، وفي الجزائر وفيتنام وأماكن أخرى في إفريقيا. فكيف للعالم أن يقدر أو يمجد قيماً لم يحترمها أحفاد مطلقيها أنفسهم.

 

لقد كان المخططون للثورة الفرنسية أكثر الناس تحضراً وثقافة في فرنسا، ولكن القائمين عليها كانوا أكثر الناس همجية.. وهكذا معظم الثورات التي تلت الثورة الفرنسية منذ سقوط الباستيل في الرابع عشر من تموز (يوليو) عام 1789م وحتى يومنا هذا.. ويبقى السؤال: لماذا قامت الثورة الفرنسية؟

يرى الكثير من المؤرخين أن الشرارة التي أطلقت الثورة الفرنسية هي الفساد في الدولة.. كانت فرنسا في نهاية القرن الثامن عشر تحكمها ملكية متمثلة بشخص الملك، لكن كانت تليه طبقة من أصحاب المناصب الرفيعة حوّلوا الدولة إلى مزرعة لهم ولمحازبيهم وبطانتهم.

 

وكانت الوظائف المهمة توزع على المحاسيب، فتفشت الرشاوي, وهكذا حمل هذا النظام جذور هلاكه تحت جناحيه لأنه لم يستطع أن يرضي أحداً سوى القلة التي كان الملك يوزع بنفسه السلطات عليهم، ويحكّمهم في رقاب العباد، بل حتى أبناء الطبقة الحاكمة نفسها ممن لم يكن لهم نصيب في المشاركة في السلطة كانوا ينقمون على الملك.

 

أما أبناء (الطبقة الوسطى) فقد ذابوا (وانهرسوا)، فتحوّلوا إلى محرومين ليس فقط من المشاركة في الحكم، وإنما في الحياة الاجتماعية الكريمة وتحوّلوا إلى محتقرين حتى ولو كانوا من أكبر المتعلمين والمثقفين. أما أبناء المسؤولين فقد كانوا يصنفون من طبقة النبلاء، ويتمتعون بامتيازات، وكانوا يتهربون من الضرائب الباهظة على الرغم من دخلهم المالي الهائل، إضافة إلى دخلهم باعتبارهم أسياداً إقطاعيين وملاكاً جدداً، وخاصة للعقارات في المدن وذلك من جراء السمسرات والوساطات وما يتلقونه من رشاوى من المواطنين بسبب استعمالهم لنفوذ آبائهم المتوضعين في مفاصل الدولة. وخلاصة القول: إن الحكم المطلق الذي أقامه الملك لويس الرابع عشر (1671- 1715م)، ومنح بمقتضاه صلاحيات لطاقمه وحاشيته ومحازبيه من (المماليك الجدد) امتدّ إلى من أتى بعده من سلالته أمثال لويس السادس عشر (1774- 1793).

 

وهكذا أخفق (بمهامه) في الإصلاح كل من كُلف بوزارة بسبب الامتيازات والصلاحيات التي كانت ممنوحة لطبقة (النبلاء الجدد)، أو بعبارة أدق (المماليك الجدد) في الوظائف الإدارية والسياسية والجيش إلخ.. التي كان صوتها يعلو فوق صوت الوزير.

 

وكان هذا إضافة إلى تضاعف الأسعار والغلاء الفاحش والرشاوى والفساد الإداري و..و..و..إلخ من أهم الأسباب التي أدّت إلى اندلاع (الثورة الفرنسية). يبدو أن أصحاب (النظريات) الجدد في السياسة الفرنسية لا يتعلمون إلا من أخطائهم، أما أخطاء أسلافهم المستعمرين فهي أمور يظنون أنها لن تقع لهم، ومن ثم عليهم أن يرتكبوا الخطأ نفسه حتى يعرفوا مغبته.

 

ما أصدق من قال:

- يا أيها الرجل المعلم غيره

هلا لنفسك كان ذا التعليمُ

- تصف الدواء وأنت أولى بالدًّوا

وتعالج المرضى وأنت سقيم

- لا تنه عن خلق وتأتي مثله

عارٌ عليك إذا فعلت عظيم

د. منى إلياس

2011-07-07
التعليقات