syria.jpg
مساهمات القراء
مقالات
نون والقلم ... بقلم : الدكتور أحمد أحمد رمان

تناول الكاتب القلم ليدوّن على صفحات دفتره ما تمخّض عنه فكره , ولما أصبح القلم بين أنامله خاطبه القلم قائلاً : ماذا تريد أن تكتب اليوم ؟ .


فغر الكاتبُ فاهُ مندهشاً لرؤيته القلم وهو يتكلم , ولكنّ هذه الدهشة لم تدُمْ طويلاً , حيث زالت عنه بسرعة علامات الاستغراب , وقال وهو يبتسم : لا أعجب من أنك سوف تتكلم يوماً  , وخاصة في هذا الزمن الذي لم يعد فيه شيءٌ يمكن للمرء أن يعجب منه , وقد سمعتُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تكلمَ السباعُ الإنسَ وحتى تكلمَ الرَّجُلَ عذبةُ سوطه وشراكُ نعله وتخبرُهُ فخذُه بما أحدث أهله من بعده( .

 

رد القلم قائلاً : لطالما عهدتك ذا فكر نيّر , ولم تأخذ برقبتي يوماً إلا بحق , و لكني لم أعهدك مقلاً , فما بال إقلالك من الكتابة في هذه الأيام , وقد علمتَ بأنهم قالوا قديماً : عقولُ الرّجال تحت أقلامها .

قال الكاتب : صدقت , وما رأيت أحداً صَدَقني في هذه الأيام سواك , إنّ للقلم لحقّاً وحقّـّه مُرتبِطٌ بحقِّ خالقِه سبحانهُ وتعالى ، وإنَّ من حقّهِ : أنّ على العالم أن يفقـّه الجاهلِ ، وعلى الذاكر أن يُنبـّه الغافلِ ، وعلى المُدافع عن الحقّ أن يَدحضَ الباطلِ , وألا يخوض في الجدال بلا طائل فذاك ظل زائل , لا يُثبتُ حقاً ولا يدفع باطلاً , وقد قيل قديماً في حقك : من جلالة شأن القلم أنه لم يُكتـَبْ لله تعالى كتابٌ قطّ إلا به .

وقد أقسم الله تعالى بالقلم ولا يقسم الله إلا بعظيم فقال : ( نّ ، والقلم وما يسطرون ) , وقال صلى الله عليه وسلم : أول ما خلق الله القلم , ثم خلق النون , وهي الدواة وذلك قوله [ ن والقلم ] ثم قال : اكتب . قال : وما أكتب ؟ قال : ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل , أو أجل أو رزق أو أثر فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة .

 

وقال الشاعر :

وكفى قلم الكتاب عزّا ورفعة            مدى الدهر أن الله أقسم بالقلم

قال القلم : أي أنك تعني أن يكون للكلمة مغزىً وهدفاً لا أن تكون كلاماً جزافاً أو هذراً لا فائدة منه  .

قال الكاتب : نعم , فإنه ما خطّ القلم كلمة ً إلا سئل عنها صاحبها يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم , ولا تكون الكلمة إلا رسماً لما هو في القلب وشاهداً عليه .

ولكنْ واأسفاه , فالكلمة في هذه الأيام في خطر عظيم , ويتم اللعب بها كمن يلعبُ بالنار, وتناسى حملة الأقلام قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( إن الرجل ليقول الكلمة لا يلقي لها بالاً , يهوي بها في جهنم سبعين خريفاً ) , وصار فرسان كلمة الحق غرباءَ في هذه الدنيا , وصارت الكلمة بلا معنى , ثقيلة على السمع , وجوفاء بلا سجع , وليس لها أي أثر في المجتمع .  

قال سهل بن هارون :القلم أنف الضمير , إذا رعف أعلن أسراره , وأبان آثاره .

فأين الغيارى على هذه الكلمة و أين الذين يأخذون القلم بحقّه ؟  لقد خبت أصواتهم , وتعالت أصوات الناعقين , و كثرت أقلام المتلاعبين , الذين هم على اللغة مارقون , وفي الفتنة غارقون , وفي الفكر منافقون , وللعدو مداهنون , عله يجعلهم من المقربين .

فصارت الكتابات بلا أمانة , وصار العرض والوطن فيها سهل المنال , و مديح العدو حق يقال , يوهمون الناس أنهم يسيرون على مبدأ { أعرف عدوك تنال منه } ولكنهم في الحقيقة يسيرون على مبدأ { تقرب من عدوك ينالك شيء منه }, والكاتب منهم خائن للأمانة ظاهر الخيانة , وصارت مع الأيام كتاباتهم وجهة نظر, واختلط الغثّ بالسمين  .

قال القلم : ولكنك بذلك رجل متخاذل يا صاحبي .

قال الكاتب : و لِمَ .

قال القلم : ما عرفتك إلا رجلاً لا يكتب إلا بحق , ولا يطرح إلا فكراً تتناقله الأجيال لحسنه وصوابه , ولكنك الآن بإقلالك للكتابة سوف تظهر بمظهر الفارس المهزوم أمام الأقلام الزائفة , وتركـتَ لهم الساحة يسرحون ويمرحون , وانكفأت على ذاتك , فو الله إن كان كل من هو على شاكلتك فعل مثل فعلك لصارت الكلمة فعلاً في خطر عظيم , وهذا ما سوف يودي بالمجتمع إلى الهلاك .      

قال الكاتب : كيف أكتب يا صديقي وقد امتلأت الصفحات بزور الكلام وسقطه , وامتلأت الساحات بالأقلام مدفوعة الأجر, وأقلام أخرى واقعة في الأسر , وأقلام لا تكتب إلا بأمر , وأقلام لا تحب إلا الفتن والغدر, فأين يجد قلمي مكانه في هكذا عصر .

ومع ذلك لن أتوانى عن الكتابة , وسأقارع فرسان الكلمة بقلمي , ولن أُحْجِمَ يوماً عن النزال , حتى ينكشف الضلال .   

وقد قيل : ما أعجب شأن القلم , يشرب ظلمة ، ويلفظ نوراً , وقد يكون قلم الكاتب أمضى من سيف المحارب .

وقال الشاعر يصف القلم  :

                               يلقى العدا من كتبه بكتــائب          يجرين من زرد الحروف ذيولاً

                               فترى الصحيفة حلبةً وجيادها           أقلامه وصريرهن صهيلاً

                               في كفه قلم أتــمُّ من القنـا           طـولاً وهنّ أتم منه طولا

2010-11-04
التعليقات
ابو الحروف
2010-11-07 14:59:26
شكرا يا قلم
شكرا لهذا القلم الذي اعطى هذه الكليمة النور, ونرجوا ان يكون عقد الكتابة عندك قد انفرط و هذا المقال هو الدرة الاولى

سوريا
-
2010-11-06 21:14:50
إلى الأخ سلمان
( أرأيت الذي يكذب بالدين ( 1 ) فذلك الذي يدع اليتيم ( 2 ) ولا يحض على طعام المسكين ( 3 ) فويل للمصلين ( 4 ) الذين هم عن صلاتهم ساهون ( 5 ) الذين هم يراءون ( 6 ) ويمنعون الماعون ( 7 ) )

فرنسا
]د أحمد رمان
2010-11-06 20:15:17
رد
إن ماورد في المقالة من الناحية النحوية صحيح يا سيد سلمان , وكل الكلمان التي مرت بالرفع صحيحة لأنها في محل إعراب خبر لمبتدأمحذوف تقديره هم وشكراً لإطلاعك على الموضوع وقراءته وغيرتك على اللغة العربية .

سوريا
سلمان
2010-11-06 18:47:13
أخطاء إملائية يا كاتب
من مقالتك أقتبس "الذين هم على اللغة مارقون , وفي الفتنة غارقون , وفي الفكر منافقون , وللعدو مداهنون" .... وجب عليك أن تقول (مارقين ، غارقين ، منافقين ، مداهنين) ....

سوريا
أبو الميز
2010-11-05 21:05:12
رائع
موضوع رائع وقلم مبدع سدد الله خطاك الى ما ترنو له عيناك ننتظر جديدك دكتور احمد وبفارغ الصبر

السعودية
عصام حداد
2010-11-05 19:42:20
شكرا دكتور
دكتور أحمد مقالة جميلة جدا تشكر عليها وعلى تلك الأشعار القيمة .. لكن لو سمحت عندي إضافة بسيطة .. هناك قلم من رصاص ..! وقلم من ( ن ) وشتان بينهما .. وكم جميل أن تكتب المحبة بقلمك فتأتيك الإجابة من حاقد أو متربص أو حاسد أو مفرق أو مبغض أو قلم من رصاص .. شكرا لقلمك .

سوريا
د. منطق
2010-11-05 15:33:58
الحمدلله
والله اني لسعيد ومثلج الصدر ... الحمد لله الذي ابقى فينا الصالحين ...شكرا على هالمقال المعبر والصادق...

سوريا
هاني
2010-11-05 14:16:38
جزاك الله خيراً
جزا الله الكاتب كل خير عن هذا المقال الرائع والتصوير الدقيق لما آلت إليه أحوال المتكلمين في هذا الوقت ونسوا قول الرسول صلى الله عليه وسلم (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)، نعم يا إخوتي ليت كل من كتب مقالاً أو علق على مقال راجع ما يكتب ووزنه بميزان الشرع قبل أن يطلق كلماته وقبل أن يقرأ هذه الكلمات آلاف الناس على هذا المنبر ليجزى به خيراً إن كان خير وشراً إن كان شر ،،،، والحمد لله رب العالمين

سوريا
أحمد
2010-11-05 07:02:15
ألا بذكر الله تطمئن القلوب
بسم الله. لا تنس أخي المسلم ذكر الله. أخوك أحمد

سوريا
مهندس - غيور على الوطن
2010-11-05 02:23:26
أخي الكريم الدكتور أحمد رمان
مقالة رائعة بكل معنى الكلمة .. أتمنى من موقع سيريانيوز وضعها ضمن الصفحة الرئيسية ولعدة أيام ليقرأها أكبر عدد من القراء .. مع الشكر لجهودكم والشكر والتحية للأخ الكاتب .. سلمت يداك .. وباركَ الله بكَ ووفقنا وإياك لما يُحبُ ويرضى .. حقاً الكلمة مسؤولية وجميعنا مسؤول عنها ..

سوريا
م. عمر بو نصر الدين
2010-11-05 02:20:13
مجهود تشكر عليه
لا يسعني إلا أن أشكرك د.أحمد على هذا المجهود الرائع والمقالة الجميلة..سرد جميل وبانتظار المزيد..ولك مني هذا البيت حيث فاضت قريحتي لوهلة: قم يا قلم وانهض من بين الاوراق.. وقلو لأحمد تسلم يمينه..سطر سلامي وابعث ب حار الاشواق .. واطبع لي حُبة على جبينه..

سوريا