كل إنسان يحتاج الى من يسكن قلبه ، وكذلك يحتاج لدار يُسكنها قلبه. وقد أنشد أمير الشعراء أحمد شوقي قائلا: "وطني لو شُغِلتُ بالخُلدِ عنّه نازعتني إليه في الخُلدِ نَفسي".
هل الوطن منزل نسكن فيه أو سماء نعيش تحتها أو مياه نشرب منها أو شجرة نستظل بظلها أو هواء نتنفسه . هل الوطن عنوان في مدينة نسعد بأن نجد أنفسنا بها؟
أتساءل هل نعي حب الأوطان أو هل هي كلماتٌ نرددها ، أم أن حبنا لأوطاننا مقرون بعوامل لا نعيها إلا مع زوال ذلك العامل المؤثر وعندما يزول ذلك العامل المؤثر نبتعد عن حُبِ أوطاننا، وننغمس في مشاغل الحياة اليومية. هل حب الأوطان سمة الفقراء أم هي سمة يتغنى بها الميسورين في الحياة أم انها فقط شهادة نرفعها كلما ضاقت علينا أوطاننا.
هل الحياة التي نكابد تقلباتها هي من يملي علينا حب الوطن؟
إن الوطن هو كل ما سبق ذكره ونختصره بأن الوطن هو الإنسان ... وحب الوطن هو حب الإنسان... هذه مقدمة أحببت أن أبدأ بها لتكون سبيلا لشرح ما أريد سرده للقراء كمساهمة مني لبناء الوطن السوري ... الانسان السوري...
خرج رحمه الله من غرفة الاجتماع ونظر الى رفاقه وقال مشيرا الى رأسه: "ان هذه الرأس لا تخضع الا لله". كانت هذه كلمات الرئيس الراحل الخالد حافظ الأسد الى معاونيه بعد انتهاء اجتماعه بالرئيس الأمريكي كلينتون حيث عرض عليه الأخير التنازل عن الحقوق العربية من الجولان وفلسطين ولبنان مقابل منفى خيالي للرئيس السوري ولأسرته. ولكنه رفض ولو أراد التفريط في حق من الحقوق العربية لكان له ما أراد. فلم يبق على ساحة الممانعة الا سورية أما باقي الدول العربية وحتى فلسطين كانوا مستعدين للتنازل عن كل شيء واختيار منفى الخلد.
هذا الرجل أحبه شعبه وانتخبوه بدمائهم وحتى أعدائه وخصومه احترموه لنزاهته ورجاحة عقله وحنكته السياسية. قد يقول البعض لقد عمل وعمل وعمل مما يظنونه مفاسد ولعل أشهرها مواجهة حزب الإخوان المسلمين وحادثة التنكيل بهم في حماة. وهذا شأن المنافقين والحاقدين ومن يتبعهم من الجاهلين والمغرر بهم . يروي لنا التاريخ قصص كثيرة لقادة عظماء قاموا بأعمال يظن البعض وللوهلة الأولى أنها خطأ وسيئة للغاية ولكن مع الوقت يتبين لنا صحة هذه الأعمال ومناسبتها لزمانها ومكانها.
في أبسط تعريف للسياسة: هي فن ادارة الصراعات والنزاعات. وفي السياسة لا يوجد صديق دائم أو عدو دائم ولكن يوجد مصلحة دائمة. انقسم الزمان بعد الحرب العالمية الثانية الى معسكرين شرقي شيوعي وغربي ليبرالي. وقد انقاد الغرب مع اسرائيل وانقاد معهم كثير من الدول العربية. فأين يتوجه الرئيس حافظ الأسد؟ هل يسلم بمقدرات الدول العربية ويتبع الغرب؟ هل يقوم بإتباع الشرق ويحاول التوفيق بين مبادئ الشيوعية والدين الاسلامي مع التناقض البعيد بينهما؟ أم يعلن أنه لا شرقي ولا غربي ولكنه عربي وحيد في هذه الغابة التي يتآمر فيها الجميع على سورية ، الصديق قبل العدو والقريب قبل البعيد؟
لا أقصد المشابهة ، ولكن عندما وجد عثمان بن عفان رضي الله عنه أن القرآن انتشر بين الأمصار في العالم الاسلامي أنذاك بكتابات ولكنات ولهجات وترتيل مختلف عما علمهم اياه رسولنا الكريم –عليه أفضل الصلاة والسلام- قام بجمع جميع كتب القرآن آنذاك وحرقها ، وقام بجمع الصحابة الذين جمعوا القرآن في أيام أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، ووضعوا لنا كتاب قرآن لا يزال بين أيدينا لغاية الآن. هناك من أنكر عليه حرق كتب القرآن آنذاك ولا يزالون لغاية الآن ، ولكن لننظر الى بعد نظر الخليفة ورجاحة عقله. لو ترك كتب القرآن كما كانت لضاع حفظه بين الناس ولحدث لنا ما حدث لكتب التوراة والانجيل من ضياع واختلاف وانقسام بين الناس بشأنها. ولكنه أدرك أنه لا بد من جمع القرآن وكتابته بشكل لا يقبل التأويل في النطق والمعنى وهي النسخة التي بين أيدينا الى قيام الساعة.
توفى عمي رحمه الله في عام 2007 عن عمر ناهز التسعين عاما. وكانت من أجمل اللحظات تلك التي أقضيها معه في المساء ويحدثني فيها عن حياته ومغامراته. وكنت بالأخص أحب حديثه أيام خدمته العسكرية في الجيش الانجليزي بفلسطين ومن بعدها مع الشيخ حسن البنا – رحمه الله - وكيف كان أنهم حزب الاخوان المسلمين آنذاك كان غير حزب الاخوان المسلمين الآن. وهذه حقيقة تاريخية وشهادة يجب ذكرها. تأسس حزب الاخوان المسلمين أيام الشيخ حسن البنا لمحاربة الصهاينة من اليهود وكانوا القوة الضاربة للجيش العربي حينها. ويحكي لي عمي عن معاركه مع اليهود أيام الإنتداب الانجليزي لفلسطين وكيف أنهم شعب جبان لا يحاربون إلا من وراء جدران وأنه في احدى هذه المعارك أوقف دبابة يهودية وقتل كل من فيها ولم يكن معه غير بندقية.
لا أريد سرد الكثير من قصص عمي فالحديث يطول ويطول وكلها مسجلة لدي . ولكن ما أريد الحديث عنه هن ذلك اليوم الذي استدعى فيه الشيخ حسن البنا جميع أتباعه المخلصين ومنهم عمي رحمه الله الى سفينة كانت متجهة الى بريطانيا. وأخبرهم يومها أن باقي قادة الاخوان المسلمين باعوا أنفسهم وروحهم الى بريطانيا وأنه الوحيد الذي قال كلمة "لا" لبريطانيا حين عرضوا عليه استخدام حزب الاخوان لضرب الجيش العربي وخيانته وعدم محاربة اليهود وذلك قبيل تأسيس دولة اسرائيل مقابل منفى الخلد وملك لا يفنى. وطلب الي أتباعه أن يركبوا معه السفينة أو يعودوا لبلادهم فلم يعد يوجد حزب الاخوان المسلمين وما سيأتي بعده سوف يحاربون العرب والاسلام باسم حزب الإخوان المسلمين ، "وسوف يقتلون كما يقتل جراد الأرض" لنفاقهم وكذبهم. فضّل عمي حينها وداع الشيخ حسن البنا والعودة الى مدينته حلب.
الحقيقة التي وصلت اليها أن حزب الاخوان المسلمين من بعد ذلك اليوم وحتى هذه اللحظة لم يطلق رصاصة واحدة تجاه اسرائيل بل كانت جميع فعالياته تنصب على ضرب الأنظمة العربية والاسلامية عسكريا بعمليات مباشرة كما جرى في سورية ومصر أو بتقويض أسس الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي كما جرى في دول الخليج العربي وبعض الدول الإسلامية عن طريق محاولة الوصول الى سدة الحكم وفرض نظام الإمارة الإسلامية على الدول لخلع أنظمة الملكيات والجمهوريات. بل ذهب الأمر لأبعد من ذلك وهي محاولة تشويه صورة الإسلام والمسلمين من خلال ادعاء التعصب الأعمى للسنة والصحابة والتضييق على الناس ومحاولة فرض الظهور بمظهر الصحابة منذ 1400 سنة في اللباس والشكل أما في القيم والأخلاق فهذا فيه خلاف وذاك يكفر الآخر لا لشيء إلا للإمعان في الغي ومحاولة تنفير الناس وتشويه صورة الاسلام السمحاء تماما كما ذكر الشيخ حسن البنا لأتباعه على ظهر السفينة.
جاء الرئيس الخالد حافظ الأسد في وقت سادت فيه الفوضى والعبثية بين الأحزاب في سورية بل وحتى بين أعضاء الحزب الواحد وإخوة النضال والعدو يتربص ويستعد لضرب آخر معاقل الممانعة ، فكان لا بد من الأخذ بزمام الأمور فكانت الحركة التصحيحية المجيدة وكانت حرب أكتوبر التحرير ، تحرير النفوس من الخوف وتحرير الفكر العربي وفي النهاية تحرير الإنسان من خرافة "الجيش الذي لا يقهر" ... هذه هي الأسس التي قامت عليها سياسة الرئيس حافظ الأسد رحمه الله.
ولما وجدت الصهيونية العالمية جدار ممانعة صادقة لا تقدر على هزيمته بحرب مباشرة مكلفة ماديا ومعنويا وبشريا، كان لا بد من تقويضها من الداخل لتسهل هزيمتها بحرب مباشرة وقليلة الخسائر، حينها لجأت الى الأصدقاء المتجددون حزب الاخوان المسلمين لضرب أسس استقرار وممانعة سورية. فهي حرب من الداخل متمثلة بتشجيع التيار التكفيري والتعصب الأعمى وهي حرب خارجية في المحافل الدولية لعزل سورية عن العالم . وكم من محاولات رأينا وتابعنا لعزل سورية تارة أو تشجيع التيارات الراديكالية تارة أخرى وبمساعدة الأقرباء والأصدقاء تارة أخرى. وقد كدت أنا أكون ضحية هذه المحاولات أيام خدمتي العسكرية خلال 1984-1988 من حوادث تفجير الباصات العسكرية والمدنية ومدرسة المشاة في حلب وحاويات جسر القابون بدمشق وغيرها. وقد حاول الرئيس حافظ الأسد في أكثر من مناسبة إشراك حزب الاخوان المسلمين في الحكم ولكنهم رفضوا وطالبوا بحكم سورية والامارة الاسلامية أو المواجهة . لاحظ هنا أن المواجهة العسكرية ليست من الخارج كما حدث في حرب أكتوبر 1973 بل من الداخل ، وكان لهم ما أرادوا من المواجهة .
وفي حديث أدلى به الرئيس الخالد حافظ الأسد في تبريره لمتابعة حزب الاخوان المسلمين: "من يقتل شعبه فهو خائن" وهكذا فعل حزب الاخوان المسلمين في ثمانيات القرن المنصرم وهكذا كان مصير الخائنين في حماة وغيرها "أن يقتلوا كما يقتل جراد الأرض".
أدرك الرئيس السوري برجاحة عقله وحنكته السياسية أن الحرب مستمرة من الخارج والداخل فأخذ بزمام الأمور من جديد وهو يعلم بالتفوق العسكري الغربي في الجيوش النظامية الغربية من حيث العدد والعتاد ولذلك لجأ حينها الى حرب العصابات متمثلة في المساهمة الفعالة في تأسيس حزب الله في لبنان وحركة حماس في فلسطين لتكون القوة الاسلامية الضاربة في العمق الصهيوني. القوة الاسلامية التي تحب أوطانها وتحب الانسان .. قوة اسلامية تحارب اسرائيل ومن والاها وتوجه أسلحتها ورصاصها الى الصهاينة. أما في الخارج فكسب احترام المحافل الدولية "وأصبحت سورية الرقم الأصعب في معادلة الشرق الأوسط" بعد تخاذل الجميع. وعاشت سورية بسلام وأمان طيلة عقدين من الزمان بفضل هذه المعادلة التي أسسها الرئيس الراحل حافظ الأسد رحمه الله. هذا وقد تخلل هذه المعادلة – وهذه طبيعة الدنيا - بعض الشذوذ من الأقرباء والأصدقاء الذي كان يجب معالجته مع المحافظة على توازن المعادلة ، "فالعدل يحتاج الى القوة والحزم لاستمراره وبقائه".
جاء القرن الواحد والعشرين وجاء معه بشارة "الفوضى الخلاقة" من وزيرة الخارجية الأمريكية السيدة كونداليسا رايس، لتعد بشرق أوسط جديد تكافح فيه قوى الاستعمار والصهيونية الجديدة لتشجيع التطرف الإسلامي حتى يسهل عزله دوليا بتأليب الرأي العالمي ضد المسلمين كافة والعرب خاصة وسورية تحديدا ليتم الفتك بها والقضاء على أي ممانعة في الشرق الأوسط . في حركة هي الأكثر كلفة واتساعا وتنسيقا في العصر الحديث ، قامت الصهيونية بالتآمر لإحداث سبتمبر 2001 وتوظيف نتائجها ضد المسلمين في العالم. فهي من جهة كانت تشجع التطرف الإسلامي ومن جهة تقوم بضربه في أفغانستان وباكستان والعراق والصومال . كان تأسيس القاعدة بديلا جيدا عن حزب الإخوان المسلمين الذي تم تحجيم قوته ودوره كثيرا أيام الرئيس الراحل حافظ الأسد . فهو تنظيم يحارب الإسلام والمسلمين من الخارج ويشوه صورتهم في المحافل الدولية بينما يحارب الإخوان المسلمون من الداخل.
كان لحكمة القيادة السورية وإدراكها ما يجري من محاولات لإعادة موازنة معادلة الشرق الأوسط لصالح اسرائيل والصهيونية ، متمثلة بالقيادة الشابة للرئيس بشار الأسد التفاعل المباشر مع الأحداث وركوب موجة التغيير والتقدم بخطى ثابتة – لا الهروب - نحو التغيير. فقد أخذت سورية خطوات كثيرة في التحول الى مجتمع الاقتصاد الحر ، وإطلاق طاقات الجميع في سورية للمساهمة في بناء الانسان السوري الجديد .. انسان العولمة والحدود الجغرافية المفتوحة.
ولم تحتمل الصهيونية العالمية مثل هذا التقدم فقامت بتوجيه اسرائيل لمواجهة مباشرة لكسر جناح الممانعة الوطني متمثلا في اعتدائها في عام 2006 على حزب الله بلبنان وعلى حماس في غزة الصمود. ولما لم يتحقق لها بل وعلى العكس تماما جاء بنتيجة عكسية تماما فقد اقتربت سورية من العالمية بتوافقها مع تركيا وإيران بل وتوافق ايران وتركيا الأمر الذي لم تحتمله الصهيونية العالمية لذلك كان لا بد من اللجوء الى عمل داخلي يخل بالتوازن الإقليمي الجديد.
فهل بدأت ما يسمى بالثورات العربية من سورية؟
لجأت الصهيونية وقوى الاستعمار القديمة المتجددة الى أتباعها في تونس ومصر وليبيا متمثلة في قادة تلك الدول الفاسدين والذين تم وضعهم لاضطهاد شعوبهم وعرقلة نموه للبدء في تلك الثورات. لا أريد أن أدخل في تفاصيل الأحداث فكلنا يتابعها من قريب أو بعيد ولله الحمد وسائل الاعلام تبذل كل الجهد لنقل ما يجري كل حسب امكانياته . ولكن الغريب في الأمر أن جميع الثورات لها هدف واحد وهو القضاء على أسس الحضارة التي تم بناؤها ودعائم الاستقرار عن طريق اسقاط النظام القائم والقضاء عليه بحجة الفساد حينا وبحجة الانتماء الى النظام القديم حينا آخر ورفض أي محاولة للتفاوض وللحوار. ولا يبق الا حزب الاخوان المسلمين وهو الأكثر تنظيما وفعالية باعتراف أمريكا واسرائيل ليتم التفاوض معه على المستقبل!
نعم هناك فساد وهناك احتكار وهناك سرقات شأن الجميع فلسنا نعيش في مدينة أفلاطون الفاضلة ولكن هل تجيز رغبات الاصلاح المطالبة بإسقاط النظام .. وإشاعة الفوضى في البلاد؟ هل تجيز رغبات الاصلاح إلغاء المعادلة التي أسسها الرئيس الراحل حافظ الأسد لتوازن القوى في الشرق الأوسط؟ أليس هذا ما تريده قوى الاستعمار وعجزت عن عمله منذ عقود؟
لا يجب أن تتجاوز المظاهرات المطالبة بالإصلاح واطلاق الحريات كما وعدت القيادة في المؤتمر القطري عام 2005. لا يوجد مصير غير الذي نصنعه بحب أوطاننا .. بحب الانسان وليس بالكراهية...
الكتور خضر درة المحترم: لا أعرف حضرتكم معرفة شخصية ولكن الذي قرأته وبتمعن يدل على حس وطني عال المستوى . وقرائة صحيحة لواقع الحال . وكم كان اختزال المراحل التاريخية ناجحا فلم ينقص من التسلسل شيء ولم يسلبه الفائدة المرجوة . لي الشرف بمعرفتكم ولي الشرف بالتعليق على ما كتبتم . مثلك فليكن الرجال المعول عليهم بناء سورية المستقبل . وأبشرك سورية على عهدها القديم الجديد . صخرة تتحطم عندها وتنتهي الحملات . ومادام الأسد مع حفظ الكرامات قائدنا فلن نخشى شيء ولانقبل بسوريا بدون قائدنا الأسد
الجميل في هذه المعادلة... معادلتك بين الامس والغد والربط بينهما بحنكة وذكاء... مشكلتنا يا دكتور خضر أنه كما تفضلت يوجد اخطاء واحتكار كما يوجد تجاوزات وفساد... والمشكلة الكبرى أنه تم تحميل النظام الحالي تبعات أخطاء وفساد الحكومة السابقة، من بعض الوزراء والعاملين الكبار في الدولة والمسؤولين... أرفع لك القبعة تقديراً لكل ما ورد في مقالك التحليلي الرائع، وكما تفضلت: لا يوجد مصير غير الذي نصنعه بحب أوطاننا .. بحب الانسان وليس بالكراهية!!!