حاولت جموع الكهنة عبر مختلف عصور الحضارة الإنسانية، وتحاول الآن، وستبقى تحاول في المستقبل، أن تكون المصدر الوحيد للعلوم الغيبية المتعلقة بالإله، والرابط الوحيد الوسيط- الذي يربط العابد –وليس العبد- بربّه. وقد جاء توضيح كلمة "كَهَنَ" في مختار الصحاح للرازي بمعنى "كَتَبَ" أي "تَكَهَّنَ". فالكهنة هم الذين يكتبون أو يتكهَّنون "بمعنى يتنبَّأون". وقد كان لهؤلاء الكهنة دور مهم في التاريخ والتشريع الإسلامي، خصوصاً أولئك الذين كانوا يسعون إلى طلب مودَّة الحكّام، وكتابة ما يدعم سلطتهم وسلطانهم.
فبعد قتل وتشريد المعارضة الإسلامية، عملوا على قتل، وصلب، وتقطيع أوصال، وفقأ عيون كل من كان يُظهر محبّتها أو موالاتها، وحتى من كان يستخدم مفرداتها. ثم عملوا بعد ذلك وبشكل منهجي، على طمس معالم الفكر المعارض، الذي كان يُعلن دائماً أنه يستمدّ أركانه من الفكر المحمّدي. وقد اتّخذ هذا الطمس أشكالاً مختلفة، مثل مصادرة ما هو مكتوب، أو الكتابة ضد ما لم يقدروا على مصادرته. وقد اتّخذت أشكال الكتابة الضدّية الأحاديث الموضوعة، لرفع شأن بعض من كان يعتبره أصحاب هذا الاتجاه أفضل، وأضفوا صفة القداسة عليه.
كذلك ظهرت الكتابة الضدّية في شكل تزوير للأحداث التاريخية، واختلاق شخصيات تاريخية رَوَت أخبار معارك وأحاديث ملفّقة، على لسان الرسول محمد عليه الصلاة والسلام. ثم بعد أن استتبّ لهم الأمر، ظهر نتيجة مخالطة العرب للأمم المنكسرة -المفتوحة- تيّارات حاولت استقراء الفكر الإسلامي من منظور مختلف، فَنَالهم من القتل والتشريد والتنكيل وطمس الفكر، ما نال من سبقهم، وتمّ إجمالهم ضمن فئة الزنادقة والكَفَرة والمشركين.
وقد لعب الكهنة النظاميون –أتباع الأنظمة- على تبرير الفعل الحكّامي، بمزيد من التزوير، وتغييب العقل وإغلاق الاجتهاد، وألّفوا الموسوعات الضخمة في ذلك. وكان أحد أهمّ الأحاديث التي استندوا إليها "أنه لا يجوز الخروج على الحاكم الجائر، بل يجوز النصح له" –حتى لا تتفرّق الأمّة-. مع أنّ الخليفة علي ابن أبي طالب كرّم الله وجهه، نادى بثقافة المقاومة عندما قال: "عَجِبْتُ لمن لا يجد قُوتَ يومه، لم لا يخرج شاهراً سيفه". ونادى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بثقافة العدل والمساواة عندما قال: "متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمّهاتهم أحراراً".
وعندما بدأت الأمم الأخرى تتكالب على الأمة الإسلامية، وتقطّع أوصالها، وتقهر أفرادها، ظهرت فئة أخرى من الكهنة المسترزقين، الذين حاولوا أن يستفيدوا من الوضع الجديد، بإغراق ما لم يتمّ إغراقه أو طمسه، بعدما تحالفت مع طبقة الحكّام الجدد. وتعمّقت ثقافة التبرير والتغييب، ودخلت الجموع في متاهة البحث عن الأسباب، ولكن للأسف ليس الأسباب الواقعية، بل الأسباب الغيبية التي أدّت إلى حصول الكارثة.
أتذكر أنني كنت أسمع كلمة "كهين" الموجودة في لهجاتنا المحلية بين الحين والآخر، والتي تعني "ذكيٌّ ماكر" – "محتال" – "ماكر ولكن ظريف". فهل كان كهنتنا عبر تاريخنا المعذّب من قبلهم، كهينين أم كهنة؟ ما يتّضح لنا من خلال مراجعة تراث "الكهينين"، أنهم كانوا سابقاً، ومازالوا يُطلقون الآن على أنفسهم اسم "المعتدلين"، على أساس أنهم إن ذكروا الحقيقة كاملة ساطعة، فسوف تتفرّق الأمة. ولم يتطرّقوا أبداً إلى كم حصّلوا، ويحصّلون الآن من العطايا السلطانية، بسبب قدرتهم "الكهينية" الفائقة، على تجييش وتأطير عواطف جموع المؤمنين، كي تكون جاهزة لاستخدامها عند الحاجة، ولخدمة أغراض أسيادهم. ولم يذكروا وإن ذَكَّروا حديث الرسول محمد عليه الصلاة والسلام: "ويل للعلماء في آخر الزمان يُفتونَ الناس برأيهم". بل يعتقدون أنّ هذا الحديث موجّه لجموع المؤمنين، وإلى كل الآخرين، باستثنائهم. ويعملون دائماً على انتخاب ما يُعجب وليَّ نعمتهم من الأحاديث، ولا بأس إن أضافوا حديثاً أو عدّة أحاديث، "فالمجتهد ولو أخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران".
وقد زاد نفوذ "الكهينين" بعد ظهور رأس المال النفطي، فغيّروا قناعهم ولبسوا قناع الدعاة -الذين كانوا قديماً يجوبون أصقاع الأرض كي يتعلموا علماً جديداً- وأصبحوا الآن يظهرون على التلفاز، ولا بأس إن وضعوا برامجهم في إحدى المحطات الفضائية بين برنامجين راقصين، رغم أنهم وبسوداويتهم القروسطية، يعتبرون كل أنواع الفن من الكبائر. عذراً، لكني سأختم عجالتي عن "الفلسفة الكهينية"، برواية "قصة كهينية" قدّمها أحد "المتكهّنين" عندما كان يصف لجموع المؤمنين في إحدى العروض التلفزيونية الأبعاد المادية للجنّة من طول وعرض ومقتنيات، خاتماً حديثه باللهجة المصرية اللطيفة: "حدِّ يرفض يا جماعة إنّو يكولّوا ملعب غولف في الجنّة"؟ وقانا الله وإياكم خطر الكهينين والمتكهّنين، والذين هم سائرون في طريقهم. وإلى اللقاء في حلقة "كهينية أخرى".
يستخدمون الدين ونسوا أن المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه وتناسوا أن الاسلام لا يرضى بالفتن والخراب والدمار ولا يرضى أن تسيل دماء بريئة نسوا أن التمثيل بالجثث والتذيب بالقتل لا يقبل فيه لا الله ولا رسوله نسوا ان الاسلام دين السلام والمحبة ومكارم الأخلاق نسوا ونسوا ونسوا فعن أي دين يتحدثون