syria.jpg
مساهمات القراء
قصص قصيرة
من أجل ولدي... بقلم : أحمد عودة

كان الجو في الخارج بارداً جداً و الهواء الشديد يعلن الحرب على كل من يتجرأ و يخرجُ من باب منزله , فأختبئ الجميع كلٌ في منزله و وراء مدفأته يحلّمون بصباحٍ أبيض جميل يكسو الثلج فيه الجبال و يرسم أحلى اللوحات على الأشجار وفي الساحات .


في هذا الوقت كان صديقنا محمد و زوجته هيام يسهرون في منزلهم في آمان وسلام و كانت الإضاءة في البيت خافتة تريح الأعصاب و هم يتابعون على القنوات الفضائية أحد البرامج العلمية حيث كان السيد محمد مولّعٌ بهذه البرامج لأنها جزءٌ من اختصاصه و عمله .

 

و بينما كان محمد مستلقياً على الأريكة و يداعب شعر زوجته التي تجلس أمامه على السجادة الصوفية و يرسم من خصلات شعرها الأسود الفاحم أحلى الرسوم و الضفائر و إذ به يسمع صوت بكائها الصامت , قام و أشعل النور و رفع بيديه وجه زوجته و إذا بالدموع تملى عينيها و تفيض على خديها فعانقها و شدها إلى صدره و قال لها : ما يبكيكِ يا أعز الناس و يا أغلى البنات , مسحت دمعةً كادت تسقط من عينيها و قالت له  كما شاهدت حتى الأراضي الصحراوية القاحلة يمكن استصلاحها و تحويلها إلى واحات خضراء يانعة و السنبلة الواحدة بإمكانها أن تغدو ألف ألف سنبلة  و إلى متى سأبقى مثل الشجرة الجرداء اليابسة تقف وحدها في مهب الريح تنتظر فأس الحطاب ليقطعها إلى أشلاء مبعثرة لأن عروقها قد نضبت و لم تعد قادرة على طرح الثمار و إلى متى سأبقى أهرب من عيون الناس و أسئلتهم المحرجة.

 

ضمها إلى صدره و قال لها:أن العمر أمامنا طويل و الأمل بالله كبير

أدارت وجهها و تابعت : وأي عمر سينتظرنا و قد شارفت الأربعين .

 

فرد عليها بلهجة لا تخلو من الحنان حبيبتي إن صحتك و حياتك هي الأهم عندي و لا تنسِ إن جميع عمليات الزرع التي أجريناها باءت بالفشل وقد رصدنا لها كل ما نملك و لم يبقَ في حيلتنا إلى هذه السيارة الصغيرة التي نقضّي بها مشاويرنا و نذهب بها للعمل وهي لن تغلا عليك أبداً هي و صاحبها رهن ابتسامة من شفتيك .

أرجوكَ اسمعني...افهمني هذه المرة لدي شعور جديد و إحساس مختلف و لا أستطيع الآن أن أشرح لك ماذا يجول بداخلي إن حرارة جسّدي و النّار التي تتقد بداخلي تمنحني هذا الأمل المفّرط أرجوك لا تجعل الربيع الأخضر يرحل دون أن يطرق بابي.

 

و فعلاً في صباح اليوم التالي كانت على موعد مع الطبيب الذي استقبلها بفتور ظاهر و تناسى ببساطة جميع أحاسيسها و كل مشاعرها و أكد لها إن بصيص الأمل الذي تراه بعيد المنال و نسبة نجاح الحمل بالنسبة لعمرها ضئيلة وان صحتها و قلبها أضعف من أن يتحمل مثل هذه التجربة  لكن بناءاً على رغبتها و شدة إلحاحها وافق على إجراء محاولة جديدة و لكنه نصحها كطبيب مخلص للعائلة بأن تكون هذه المحاولة هي الأخيرة .

 

مر أسبوعان عصيبان على عملية الزرع و كانت هيام تحاول أن تشرح في كل مرة لمن حولها هذا الإحساس الجديد التي تشعر به و لم يطل انتظارها  في المخبر حيث قالت لها الممرضة مبروك يا مدام فالإشارة زرقاء و أنت حامل ....

 

بكت من فرط فرحتا و أنسَّتها هذه الفرحة أي سعادة شعرت بها سابقاً و هي اليوم سيدة العالم و المرأة الكاملة التي لا تشوبها شائبة و إن هذا العطف و الحنان الذي يختنق داخلها سيجد أخيراً ضالته و من يبحث طوال السنين عنه.

 

و ما هي إلا عدة أشهر حتى بدأ هذا الضيف العزيز يدغدغ أحشائها و يقلق نومها و يأكل من طعامها أحبته حتى قبل أن تراه بدأت تسهر الليالي و هي تغني له و تسمعه أحلى النغمات و تطلب منه إلا يكون شقياً و يسمع كلام جده و جدته بدأت تتخّيل لون عينيه و شكل أنفه و هل يا ترى سيكون طويلاً مثل أبيه أم سيصبح ناصحاً مثل أخواله هي ستحبه و تعانقه في الحالتين حاولت أن تختار له اسماً لكنها لم تفلح لأن اسم ابنها هو أحلى من كل هذه الأسماء .

 

لم يحزن زوجها يوماً على بيع تلك السيارة لأن هذا الذي يركّل بطن أمه هو عنده أغلى من كل سيارات العالم و كل نبضة من نبضاته الصغيرة تساوي الدنيا و من عليها .

استمر شهر العسل بين الجنين و أمه ثمانية أشهر و أكثر و بدأت ساعات الفراق تلوح في الأفق و لولا شوقها لرؤيته لتمنت أن يبقى داخلها طول العمر فهو الآن جزء من لحمها و دمها وأقرب ما يكون لقلبها و روحها.

 

و مع اقتراب موعد الولادة بدأت حركات حبيبها تزداد و دقات قلبه تقوى و ساعات نومه تقصر يا ترى هل ملَّ وحدته و يريد أن يخرج إلى النور أم أنه يمازح و يداعب أمه... أما هي فقد بدأ التعب يرسو في مرافئها  و يرفع راياته فوق وجنتها وبات قلبها أضعف من أن يتحمل دقاته و قدميها أوهن من حمل جسدها المتراخي و كان ذلك سهلاً أمام النزيف التي بدأت تشاهده فهرعت مع زوجها إلى الطبيب تبحث بجنون عن الخبر اليقين و هنا بدأ القلق يظهر على محيا الطبيب و لم يستطع ابدآ أن يطمئنها على صحتها  و لكنها لم تهتم لذلك كثيراً و عادت مرة ثانية و ثالثة تسأل عن حال الجنين و هنا تبسم الطبيب و أكد لها إن الجنين بخير و دقات قلبه ممتازة و لكن خوفاً على صحتك لا نستطيع انتظار آخر الشهر و لابد لنا من إجراء العملية القيصرية فوراً.

 

كانت العملية الجراحية مخيفة و احتاجت هيام إلى مزيد من أكياس الدم لوقف النزيف الحاصل و مضى وقت عصيب على الأب قبل أن يسمع بكاء أحلى صوت في العالم هذا الصوت الذي طالما حلم به و انتظره حاول بلهفة أن يدخل لغرفة العمليات ليبارك لزوجته و يسّتلم من رب العباد هديته و لكن الطبيب منعه و أكد له نجاح العملية و قال مقولة الأطباء المشهورة بأنه عمل ما عليه و الباقي بيد الله تعالى .

 

و بعد أكثر من ساعة أستطاع الأب و من خلف الزجاج أن يرى وجه ابنه الوردي هذا اللقاء الذي تأخر عشرين سنة و في الغرفة الثانية بدأت الأم تستيقظ بعد العملية و تسأل عن وليدها و الأطباء من حولها يبحثون عن وقف هذا النزيف الصاعق الذي حل بها و بعد قليل خرجت مرة ثانية من غيبوبتها و صرخت من سريرها أين ولدي فأشار لهم الطبيب و أحضروه إلى جانبها و هنا تبسمت و هي تنظر في وجهه الملائكي و تلمس كفيه الناعمتين و بعدها ساد صمت رهيب وأدمعت عيون الحاضرين و هم يرون الأم  تغمضُ عينيها بسعادة و اطمئنان و تزرع في مخيلتها صورة حبيبها الصغير وشاء القدر أن تكون هذه أخر و أحلى صورة لها في الدنيا.

تمت

2011-08-30
التعليقات
الحمامة البيضاء
2011-09-04 14:28:45
صباح الورد
ياويلي شو هالقصة أسلوبك بجد رائع عيشتنا فيها وكأننا جزء منها ،اللحظة يلي شافت فيها الأم ابنها كانت ستختارها ولو علمت ما سيحدث بعدها /بحييك وبحيي قلمك وكل عام وانت بألف خير

سوريا
عربية
2011-09-01 00:19:34
ماذا كانت ستفعل
ما الذي كانت ستفعله تلك المرأة لو كتبت لها الحياة، لكن كتب الموت لابنها الراقد في الحضانة بسبب انقطاع الكهرباء عنه؟؟؟

سوريا
رنا
2011-08-31 11:39:39
زوجة وام
كم جعلتني اشعر بالسعادة والامتنان لله لانه رزقني اطفالي الثلاث وانا الان اكحل عيني برؤيتهم يكبرون امام عيني فاحس بقيمة حياتي ومعناها

سوريا
أمير الوادي
2011-08-31 07:05:34
الجنة تحت أقدامهم
نرفع القبعات احتراما و اجلالا لكل أم التي هي نبع العطاء و التضحية و و مسكين من ليس له ام و الف مسكين و ملعون من له ام و لا يجلس تحت قدميها و يقبل كل يوم يديها و يكسب بكل الحب رضاها و شكرا لك لانك جعلتني أقضي العيد كمله عند والدتي

سوريا
ليلى
2011-08-31 01:21:31
"من أجل ولدي"
يستحق شعور الأمومة انتظاره حتى لاخر العمر . . قصة معبرةوجميلة .. تسلم اناملك..

سوريا
عاقر
2011-08-30 22:51:20
ما حبيتك
و كأنك تقصد عذابي و تذكرني بمصابي و أنا التي أفنت حياتها تبحث عن كلمة ماما و لم تجدها و احسد من كل قلبي هيام لأنها شاهدت بعينيها فلذة كبدها و لمست بيديها يديه الناعمتين و لو كانت حياتها هي المقابل فهي و ان ماتت بجسدها فهي تعيش الأن بروح ابنها و احساسه و تلك الشجرة لم تمت أبدا و اينعت ببرعم صغير يحمل كل معاني الخير و نيالها .

سوريا
جمال
2011-08-30 18:26:31
مبروك
فلة شمعة منورة و ان شاء الله بنشوفك معنا في بيروت

سوريا
lama
2011-08-30 17:37:23
كل عام وانتم بخير
ما هذا يا استاذ احمد كل مرة تفاجئنا بحكاية جديدة من صلب حياتنا تؤثرنا تبكينا وتتركنا في لحظة تامل نراقب فيها انفسنا عن كثب ونواجه اخطاءنا بحق من هم اعز الناس على قلوبنا واعتقد ان هذه هي غاية الكتابة ومنتهاها

سوريا
سميرة
2011-08-30 16:30:42
أحببتها ولكن
كتير حلوة بس ليييييييييييششششش لتجأت لحزن يا أخي أه بكفينا أحزان يعني كان فيك تعيشها هي وابنها

سوريا
محمد
2011-08-30 16:21:44
بلدي
من أجل ولد واحد حدث كل ذلك و نحن ماذا نفعل في سبيل مئات الشباب الذين يموتون على قارعة الطريق اليس لهم امهات و اباء

سوريا
سماح
2011-08-30 16:16:17
تضحية و عبرة
دمعتان سقطت من عيني رغما عني الدمعة الأولى عندما كانت تسأل عن حالة الجنين مع انها كانت تنزف و حالتها خطرة و الدمعة الثانية عندما اغمضت عينيها بسعادة و هي ترا ابنها و تحقق حلمها شكرا للكاتب على هذه العبر و الحكم

سوريا
صباح
2011-08-30 12:04:09
صباح الخير
كل عام و انتم بخير نشكر السيد أحمد على هذه العيدية الشاعرية و فعلا ادمعت عيوني في أول أيام العيد و مرة ثانية كل الأمهات بخير و أنا منهم و أولهم

سوريا
سما
2011-08-30 11:59:35
جريمة بحق البلد
كم الولد غالي فهو قطعة من الكبد و كم هذه المشاعر راقية و كم نحن مجرمون بحق بلدنا عندما نهدر دم شبابنا على الرصيف .

سوريا