syria.jpg
مساهمات القراء
قصص قصيرة
ذلك الطفل الصغير ... بقلم : هديل خلوف

كل صباح يستيقظ الحاج عبد الرحمن باكراً قبل ابنه , يتوجه إلى الصيدلية التابعة لابنه ليفتحها و ينتظره هناك .. لا يدري متى بدؤوا ينادونه بالحاج مع أنه لم يزر بيت الله ولا مرة في حياته .. لكن من يمتلك كرشاً ضخمةً ككرشه بالإضافة إلى صلعة كبيرة لامعة تتوسط بعض الشعيرات الخشنة البيضاء على جانبي رأسه لابد أن ينادوه بالحاج .. هكذا هو العرف السائد على أية حال ..


- يسعد صباحك حجي ..

يرد على هذه التحية 4-5 مرات في طريقه إلى الصيدلية .. كم من مرة أسرَّ في نفسه الرغبة بسماعهم ينادوه بالدكتور كما ينادون ابنه .. لكنه لا يلبث أن يتحسس كرشه الضخمة و الشعيرات على جانب رأسه فيدرك أن الأنسب هو ما ينادونه به , هذا عدا عن أنه لا يحمل شهادة في الصيدلة أو "الدكترة " أصلاً !

 

عاش الحاج عبد الرحمن طوال حياته كموظف حكومي اعتيادي , خط سير حياته مضى كما يمضي خيط سير حياة الملايين هنا , الحصول على شهادة البكالوريا .. الخدمة العسكرية .. التعيين في الدولة ( وقد كان ممكناً لمن يحمل شهادة بكالوريا  أن يتعين في وظيفة محترمة في ذلك الوقت ) .. ثم البحث عن "بنت الحلال" التي سيعيش معها طوال عمره والتي ستربي أبناءه  وتنكد عليه من حين لآخر ..  

 

عندما ينظر الحاج عبد الرحمن إلى شريط حياته يبتسم ويغمغم راضياً , فهو عاش حياته بأكملها محترماً وقد استطاع أن يورث عبقريته الضائعة إلى أولاده الثلاثة فخرجوا أطباء و صيادلة .. بعد تقاعده يمضي إلى صيدلية ابنه الأصغر كل يوم باكراً ويرتب الأدوية من جديد ريثما يستيقظ ابنه عند الظهيرة ويرى كل شيء جاهزاً .. "جيل كسول و لا يتحمل مسؤولية ! " هكذا كان يتردد في ذهنه كل يوم راثياً لنفسه لأنه يقدم هذه التضحيات في الاستيقاظ و إدارة عمل ابنه بكامله مع أنه لم يُطلب منه ذلك أصلاً.. !  

 

عندما يتذمر الولد من ذلك أمام أمه كانت تقول له بلهجة العارفين : "لك ماما خليه بيتسلى .. أحسن ما يقعد بوشنا كل يوم ! ..أبوك صار رجال كبير بدك تتحمل نزقو" .. إلا أن الحاج لا يبقى دائماً في الصيدلية , لقد كان يذهب أحياناً إلى ابنته المتزوجة أو إلى المقهى ليلعب النرد مع أصدقائه المتقاعدين ..

 

 إلا أنه في هذه الأيام بالذات صارت زياراته إلى ابنته تزداد  بشكل ملحوظ .. لقد صار لديه حفيد صغير يكبر كل يوم ..  ابنته  الطبيبة قد أوقفت نشاطاتها في مهنة الطب عندما حملت بـ يزن وصارت تلازم البيت مكرسةً حياتها له , وقد قرر الحاج عبد الرحمن أن يكون له يد في هذا الموضوع .. هو لا يحب الأطفال الصغار البتة .. بشكل ما يعتبرهم مسوخ صغيرة مقززة لن تصبح بشراً إلا عندما تبدأ المشي والاعتماد على نفسها في قضاء حاجاتها الضرورية .. لكنه مع ذلك كان يذهب إلى بيت مها ويلاعب الطفل ويغتنم بعض الأوقات النادرة ليذهب إلى المطبخ .. و .. يأكل سيريلاك !

 

بدأ ولع الحاج بالسيريلاك "أكل الأطفال الشهير " منذ زمن بعيد .. منذ الزمن الذي كان يسمى فيه "تاميلاك " عندما وُلدت مها بشكل خاص .. كانت زوجته تعد هذا الطعام لابنته وكان يتذوقه أحياناً ليتأكد من درجة حرارته , ومنذ ذلك الحين شعر الحاج بأنه قد عثر على ألذ طعام يمكن أن يتذوقه المرء ! كانت فترة طفولة أولاده فترة ذهبية بالنسبة له.. فكم من مرة تبرع هو بإعداد طعام الأطفال , وقد كانت زوجته تشعر بالفخر لذلك وتتباهى أمام جاراتها بأن زوجها "مودرن " وعصري ويصر على مساعدتها بإطعام الأطفال , وكم من مرة غافل الزوجة - عندما لا يكون هناك داعٍ لإعداد وجبة - ليذهب إلى المطبخ "ليسف " السيريلاك "سفّاً " !

 

كم شعر بالأسى عندما بدأ أطفاله بالنمو و الاستغناء عن هذا الطعام الرائع .. "لماذا لا يبقَ المرء طفلاً ؟! " هكذا كان يردد لنفسه حانقاً ..

 

ها قد أنجبت ابنته مسخاً صغيراً وعليها إطعامه السيريلاك .. وأخيراً ! .. بعد سنوات وسنوات من الحرمان منه وبعد آلاف المرات التي كان يتأمل فيها العلبة الذهبية الموضوعة على رفوف الصيدلية بأسى ها قد حان الوقت ليتذوق هذا الطعام مجدداً !  أحياناً كان يشعر بالحنق لأنه لا يملك استقلاليته وحريته الخاصة .. إنه لا يجرؤ على الدخول إلى البيت حاملاً علبته السيريلاك الخاصة أو حتى عمل السيريلاك في الوظيفة.. كلهم سيسخرون منه واصفينه بالعجوز غريب الأطوار , هذا ما كان يمنعه من أكل طعامه المفضل ..

 أما والآن ها قد أصبح يزور ابنته بشكل شبه يومي مستغلاً غياب "صهره " طوال اليوم ليتسلل إلى المطبخ لسف السيريلاك إذا كان الوحش الصغير نائماً والأم مشغولة ..

 

لقد عاش الحاج عبد الرحمن حياةً اعتيادية كما الملايين وسينهيها بنفس الطريقة .. جلطة في القلب جعلته يلازم المشفى ويقع في غيببوبة لا بأس بها .. كانوا جميعاً يلتفون حوله وأعينهم مغرورقة بالدموع خائفين من تلك اللحظة التي يعلن فيها جهاز القلب صفارته الأخيرة , حتى ابنه الذي يعيش في الولايات المتحدة قد جاء ليودع العجوز .. لقد طالت غيبوبته قليلاً..

 

في إحدى الأيام , فتح العجوز عينيه أخيراً ليرى عشرات الوجوه حوله .. بنته وصهره وابنيه وأصدقاء المقهى وزوجته بالطبع .. نظر إليهم بعين الرضا إذ رآهم يلازمونه ثم غمغم بصوت متحشرج بشيء ما .. هرعت زوجته لتسمع ما يقول ثم التفتت إليهم لتقول : "يريد صحن سيريلاك ! " .. نظر الجميع إلى بعضهم نظرات تقول " الرجل -العجوز - قد -بدأ –بالتخريف " .. وقد كان له ما طلب على أية حال ..

 

في مجلس العزاء الخاص به كانت زوجته تستعرض محاسن الفقيد وكيف أنه كان يساعدها في إطعام الأطفال .. اغرورقت عينا مها بالدموع مجدداً وتذكرت كيف كان يغافلها إلى المطبخ ليأكل من طعام الأطفال .. إنها تعلم ذلك ومن المؤكد أن أمها أيضاً تعلم لكنها لا تتكلم .. لقد كان أباها يحمل طفلاً جائعاً على الدوام بداخله .. هي تحمل طفلة بداخلها أيضاً ..  وزوجها .. والبقال .. وأخوها الصيدلاني .. لكن مشكلة هؤلاء الأطفال أنهم مقموعون دائماً

 

.. أبوها فقط استطاع تحرير ذلك الطفل الشقي الذي يغافل الآخرين ويسرق السيريلاك من المطبخ .. اغرورقت عيناها مجدداً وابتسمت ..

2011-09-08
التعليقات
دعاء عويرة
2011-09-13 04:16:07
جميل ومن أروع ما قرأت
جميل ورائع يا هديل والله أنه قصة حلوة وكل واحد مننا فيه طفل صغير عن جد . بوركت يداك .

سوريا
BEAUTY SOUL
2011-09-09 17:47:13
مقالة موفقة
هديل أعجبتني المقالة ...سلمت أناملك و ليرحم الله ذلك الحاج..

سوريا
الحمامة البيضاء
2011-09-08 12:47:37
صباح الورد
فعلا السيريلاك كثير طيب وانا من جهتي بس اختي تطعميه لبنتها بقلها بدي منه وحتى حليب نيدو من فترة جبت كيس معي عالوظيفة وفعلا الكل اول شي صاروا يقولولي صغرانة وبعدين عمليلنا كاسة /ليش نخجل ليش في احلى من الطفولة وبراءة الطفولة؟تحياتي هديل وكل عام وانتي بألف خير

سوريا
سكر
2011-09-08 12:20:16
مشاعر مخطلطة
عنجد قصة رائعة فنانة خليتينا نحس بروح الدعابة بالفرح بالحزن وبفشة الخلئ بعدما عبر الزلمة عن رأيه يعني حولتي موضوع عادي للوحة فنية من المشاعر

سوريا