syria.jpg
مساهمات القراء
قصص قصيرة
(على السندان)... من دفاتري العتيقة.... بقلم: وليد معماري

أرسل لي قارئ ادعى أن اسمه بسيط البسطاني رسالة بسيطة للغاية، يروي فيها بعضاً من مجريات حياته.. وجاء في رسالته أنه اضطر لترك المدرسة بعد نيله لشهادة (السرتفيكا) بسبب وفاة والده..ووالده توفي أصلاً بسبب نقص التغذية، ثم نقص الأدوية التي يمكن أن تعالج النقص الأول..


 واضطررت _ يقول المرسل _ للعمل تارة كأجير فران.. وتارة كأجير طيان.. وتابعت عن عناد دراستي بشكل ذاتي.. مع مساعدة كريمة من بعض الشبان الذين لن تخفى عليك اتجاهاتهم، دون شروط علي من قبلهم... وبذلك نلت شهادة البروفيه.. ونلت استحان من حولي، ومعها سخرية مريرة من الذين كنت أعمل عندهم كأجير.. حيث أطلقوا علي صفة (أستاذ)!.. وبسبب هذه السخرية تابعت الدراسة، وفي هذه المرحلة، وبسبب بنيتي الجسدية الصلبة، عملت عتالاً، ينقل أكياس الحنطة على ظهره ليقطع بها جسراً معلقاً شهيراً في بلادنا، حيث لم يكن يسمح للشاحنات بالعبور فوق الجسر إلا بحمولة محددة.. ونقوم نحن العتالين بنقل الفائض من الوزن على ظهورنا..

 

كان العمل مضنياً.. لكن من ميزاته أنه يتم بعد موسم الحصاد.. وبأجر مجزٍ نسبياً... ثم أنقذني أحد المحامين حين عرف قصتي، بأن جعلني أعمل لديه كصبي مكتب... وكان يناديني هو الآخر بلقب أستاذ.. وخلال عملي معه بإخلاص، نلت الشهادة الثانوية، التي كان اسمها (بكالوريا) سابقاً.. ولأن مدير التربية آنذاك كان يعرف قصتي (من طقطق لسلام عليكم) لأنه شقيق المحامي، ساعدني للعمل كمعلم وكيل في إحدى مدارس القرى... فصرت أستاذا بحق وحقيق.. وبأجر يومي يبلغ سبع ليرات.. بينما إخوتي الأصغر.. وهما صبيّان وبنت، راحوا يتابعون دراستهم... وأما أمي التي تخلصت من نقص التغذية لديها، صارت تعرف في الحارة باسم (أم الأستاذ)..

 

هذه النجاحات دفعتني لدخول الجامعة، خاصة بعد أن نلت شهادة أهلية التعليم الابتدائي بصورة حرة.. وصرت معلماً أصيلاً... وكي لا أطيل عليك نلت شهادة جامعية بمعدل جيد.. وكنت أثناءها قد تزوجت.. وانتقلت إلى وظيفة تتلاءم مع شهادتي الجديدة... لكن أموري المادية والمالية بدأت تتراجع.. فراتبي الذي تضاعف عشر مرات، بعد عدد لا يستهان به من الترفيعات، لم يعد يكفي لسد الثغرات التي تفتقت من كل جانب وصوب... ومنها الأدوية التي تحتاجها أمي.. والأدوية التي أحتاجها أنا بحكم تقدمي في السن.. ثم إحالتي على التقاعد.. ناهيك عن ولدين تخرجا من الجامعة لا يجدان عملاً لهما.. ثم ولد ثالث، هو الأصغر، متفوق في الرياضيات، قوي البنية مثلي، يقترح أن يكرر مسيرة حياتي.. ويذهب للعمل كعتّال على الجسر الذي عملت عليه أنا في مطلع شبابي.. وهذا حل عملي، لولا أن جسوراً جديدة ترادفت مع الجسر القديم، وكل منها قادر على حمل طائرة (جامبو) بكامل حمولتها فيما لو استطاعت هذه الطائرة طي جناحيها، كما يطوي السنونو جناحية ليعشش في سقف بيتنا العتيق...

 

لم تكبر العائلة فقط.. بل كبرت احتياجاتها... وأيام كنت أحصل على أجر معلم وكيل قدره 210 ليرات في الشهر، لم يكن لدينا تلفزيون.. ولا مروحة لتجفيف العرق.. والهاتف كان حلماً بعيد المنال.. ثم حصلنا عليه، وراحت مؤسسة (مواصلات) تبتكر أفانين لتشليح جيوب المواطنين.. وأما الكومبيوتر الذي حصل عليه ابني الأكبر كجائزة له على تفوقه، فقد صارت له متطلباته من فواتير دخول على الأنترنيت.. وثمن أحبار طابعات.. وثمن ورق.. ناهيك عن فواتير الكهرباء.. وثمن المازوت الذي تضاعف سعره

 

وقلت لأولادي: تعالوا نرجع إلى بيتنا القديم.. ونتدفأ بالحطب حول موقدنا الطيني العتيق... لكن زوجتي اعترضت، وقالت: من يضمن لنا أن سعر الحطب لن يرتفع؟... ومن يضمن أنهم لن يفرضوا عليه ضريبة استهلاك، أو ضريبة رفاهية.... طول عمرك يا زوجي رجل عاقل.. فلماذا تثق بالحكومة كثيراً؟!!!..

 

2011-11-07
التعليقات