أكتب إليكم قصَّةً تذيب شموع الإنسانيَّة تروي بدموعها صحراء البشريَّة.
في يوم من أيام مدينة حيفا في يوم أشرقت الشمس قبل أوانها لتشهد ميلاد طفلة اسمها بيسان بين أحضان دبابات العدوان تحت قمرٍ هرب من عيونٍ سودٍ في هذه الأزمان,وأتت بسمةٌ لأرض فلسطين كانت قد اختبأت خلف قدرٍ بعيدٍ وزمنٍ غريب.
حملتها أمها وحضنتها فهزَّ جبل الكرمل من ورائها عند صرخة بيسان الأولى,وارتفع البحر المتوسطُ ليروي ظمأ تعب حيض أمها لم يعرف أحدٌ من ستكون بيسان؟ ولماذا توقف الزمن لحظة عند ميلادها؟
ترعرعت بين يدي أبي غسّان ذلك الرَّجلُ الّذي أمضى حياتهُ يعانق أغصان الزّيتون يروي أرض المرسلين يزيّنُ روح الليمون,ترعرعت بين يدي أم غسّان تلك المرأةُ الّتي كانت تخبزُ رغيفَ الحريَّةِ تجلسُ فوق تنوّر الكرامةِ لتخبزِ رغيفاً يشبعُ عائلتها وطنيّةً من سغب المستعمرِ الصّهيونيْ,ترعرعت في بلدةٍ كانت ترفضُ أن تعلِّق عناقيدَ العنب على قبور الشّهداءِ من قبلِ قاتلهم الصّهيوني.
كبرت بيسان وأصبحت ً تعرفُ مكرَ الحياة وتعانقُ حبَّ السَّماءِ.
وفي صباحٍ ما,استيقظت بيسان ليبدأ أوّلُ تجسيدٍ لوطنيتها وشغفها بالدفاع عنه.
بيسان:صباحُ الخيرِ يا أمي هل هدأ قصفُ يوم أمسْ دونَ ضررٍ بمنزلنا فقد غفوت على صوت القنابل والرّصاصٍ.
أمُّ غسَّان:آخٍ يا ابنتي....لقد هدأت الأحداثُ في صمتٍ قاتلْ.
بيسان:ماذا تقصدين؟ بأنَّ الصَّمتَ كانَ قاتل!!!
أمُّ غسَّان:لا أدري لكنّي كنتُ أخشى حينَ يقفُ القصفُ أن يدخلوا علينا مثلَ ما فعلوا في القريةِ المجاورةِ لنا,وهم يعلمونَ أيضاً أنَّ أبا غسَّان قد لحقَ غسَّان إلى المقاومةَ كي يأتي بهِ ولكَّنهُ لم يعدْ منذ أربعةِ أيام,ونحنُ يا ابنتي ضلعٌ قاصرْ إن دخلوا علينا لكلَّمونا كلامَ رصاصٍ مرصَّعٍ بذهبْ آهٍ آه....وتسألينني لمَ أنا قلقةٌ من ذلك الهدوء.
بيسان:متىْ سنبقىْ هكذا يا أمّي؟ رجفتْ جدرانُ البيتِ دون أخي وأصبحَ ترابُ الحديقةِ في السَّقمِ دون أبي إلى متى يا أمّي؟ إلى متى؟
أمّ غسَّان:لا تسألي من يريدُ جواباً لهذهِ الحياةِ كلَّها يا ابنتي, أحسُّ أنَّ ظهريْ قد انحنىْ كتقوّسِ قمرٍ هربَ من سماءِ صهيونيٍ يقتلُ فلسطين.
بيسان:لا أصدِّقُ أنّ من أتكلَّمُ معها هي أمُّ غسّان الّتي كانت بشموخِ صبرها تناطح القدر,وبخشونةِ يديها تزيِّنُ ياسميناً على جبهةِ حيفا,تطرِّزُ من حاجبيها عباءةً لجبلِ الكرمل,لا أصدّق!!لا أصدِّق!!
أمُّ غسَّان:آخٍ ياويلتي....آخ....بلى صدّقي...صدّقي.
بيسان:على كلِّ حال نكملُ الحوار حينَ أعودُ من الجامعة يا أمّي إلى اللقاء.
أمُّ غسَّان:أينَ ذاهبة؟! انتظري ألا تريدين أن تأكلي سأعدُّ الفطورَ في دقائق.
بيسان:أرجوك يا أمّي سأتناولُ الطعام معك على الغذاء عند عودتي.
أمُّ غسَّان:آهٍ منكِ,ولكن خذي تفّاحةً لكي تستوعبي الدّروس.
وبعدَ ساعةٍ من رحيل بيسان دُقَّ البابُ,فأسرعتْ أمُّ غسان لتفتحهُ ظانّةً أنَّ بيسان قد انتهت باكراً من جامعتها,ولكن هنا كانت الفاجعة إذ لم تكن بيسان من دقَّ الباب كان صهيونيٌّ يريدُ اقتحامَ البيتِ بشكلٍّ مهذّب.
أمُّ غسَّان: ارحل من هنا يا مغتصب أرضي لا يكفي أنّك أخذت زوجي وفلذةَ كبدي اذهب....اذهب.
ولكنَّ أمّ غسّان كانت تضحكُ على نفسها فهي لا تستطيعُ ردعهُ,وفي لحظةٍ وجَّه مسدَّسهُ لوجهها.
الصِّهيوني:أنت تضحكينني كثيراً تشبهين تلك النِّساء اللواتي وقفنَ عاريات الصدّور أمام (جيش إسرائيل) فقط لتحمي شجرةَ زيتون ومتن جميعاً,يا لكم من نساءٍ مضحكات.
أمُّ غسَّان: تلكَ الزيتونةُ تساوي حياتكمْ كلَّها فهي تراثنا الذي لم تجدوه.
لم تكمل أمُّ غسَّانٍ كلامها إلا ورصاصةٌ تأتي مع حفيفِ أوراق الشجّر لتدخلَ لقلبها ترفرفُ كطائرٍ أبيضٍ إذا وهو يقبضُ روحها.
أكملَ الجنديُ مهمَّتهُ وحطَّم المنزلَ وأحرقَ زياتين بستان أبي غسّان ظناً منهُ أنهُ إذا انتهى من أمِّ غسان وتراث فلسطين لن تظهرَ لهُ امرأةٌ تخبِّئُ الزيتون في جدرانِ قلبها.
كانَ شيخٌ من الحيِّ يسير بجانب منزلِ أبي غسّان وإذا هو يرى امرأةً على بابِ بيتها قد غمرهاْ دمٌ لم يعرفْ سرَّ بريقهِ ورائحةَ المسكِ الَّتي تفوحُ منهْ,أحضرَ سكانَ الحيِّ وأقاموا العزاء,وبعد خمسِ ساعاتٍ مضتْ عادت بيسان ورأت ذلكَ المنظرْ ولكن دمعتها واقفةٌ في عينها تخشى النّزول, من مات؟ أباها؟ أم أخاها؟
بيسان:ما بكم تحدّقون إلي؟! أين أمي؟ قولوا لي أين أمي؟
وظلّت تصرخُ بهم بصوتٍ عالٍ نفسَ السؤال.
الشَّيخ:يا ابنتي أمّكِ قد فضّلت جنان النعيمِ على مطاوعةِ الصهاينة فذهبت وهي مبتسمةٌ إلى بارئها ادعِ لها بالرحمة.
ذهبت بيسان للنَّعشِ وهي تهزُّ أمها وكأنها تمشي خلالَ النوم.
بيسان:أمي أرجوكِ عدتُ من أجلِ أن نتناول الغذاء أنا وأنت هيا استيقظي,أرجوك لن أذهبَ مرَّةً أخرى دون أن أتناول فطوري,هيا أمي استيقظي أرجوكِ ,أنا في انتظارك على الطاولة وسأحضِّرُ الغذاء.
تركها أهلًُ الحي وذهبوا ليشيّعوا أمّها ثمَّ يدفنوها في المقبرة.
مضى ليلٌ طويلٌ ابيضتْ فيه البومةُ من كفنِ أمِّ غسان وهربت النجومُ من اللّيلِ لأنها لم تجد من يشكي همومهُ إليها كأمِّ غسانْ,وبزغَ فجرٌ بخجلٍ دونَ أن يرى أمَّ غسّان تخبز رغيف الخبز,وحين طلعت الشَّمس كانت بيسان قد جمعت أغراضها من صورةٍ لأمها ربّما لتتذكّر دائماً إلى أين هي ذاهبة,ولم؟ وبضعَ حبَّاتِ زيتونٍ محترقٍ من دارهم وبضعاً من رائحةِ الياسمينِ من ثيابِ أمِّها.
وظلَّتْ تسيرُ على قدميهاْ طولَ الصَّباحِ متَّجهةً إلى القريةِ الّتي فيها المقاومةُ وأبيها,كانت طول الطَّريقِ تفكِّرُ لمَ ذهبتْ؟ من هي؟ أينَ أمها؟ لكنّها لم تفقد عقلها, إنما كانت تحاولُ أن تنقلَ أسرتها حيثُ ما ذهبتْ كي لا تشعرَ بضجرٍ قاتل,وقبل الغروبِ بقليلِ وصلت إلى قريةِ المقاومة,وإذا هي تجدُ صديقاً لها في الجامعة اسمهُ خليل يحملُ سلاحاً, واثقَ الخطوة وكأنهُ من المقاومة.
بيسان:مرحباً ألستَ أنتَ خليلْ أم أنني مخطئة؟
خليلْ:يا إلهي بيسان؟!,ماذا تفعلين هنا؟ ألا تعلمي أن القرية تحتَ القصفِ وهي مليئةٌ بشبابِ المقاومة فلو دخل وراءكِ صهيونيٌّ لاحتجزكِ بتهمةِ أنكِ مشتبهةٌ بالمقاومين فأنتِ في أرضهم, سأرشدكِ إلى طريقٍ آمنٍ مختصر.
بيسان:لا داعي لذلك يا صديقي فأنا أعلم كلَّ ذلك وقد أتيت بكامل إرادتي فأبي وأخي هنا وأريد الانضمام إليهم لأحميهم كي ما أفقدهم.
خليل:ولكنّهم رجالٌ وأنت امرأة فإن تعرَّضَ إليكِ أحدٌ لن تستطيعي الدفاع عن نفسك, اسمعي منّي وفرّي قبل أن يأتوا إلينا.
بيسان:أرجوكَ يا خليل إن كنت تريد لي خيراً دعني أرى أعضاء المقاومة لأبحث عن أبي وأخي وأعطني سلاحاً فأنا أتيت بدافع الانتقام لأمي الَّتي ماتت وبعينها حسرةٌ أن يرجعوا لنحظى بدفءِ الأسرةِ من جديد.
خليل:حسنٌ حسن هيا تعالي معي للمعسكر ولكن ابقي بقربي فالظلامُ دامسٌ جداً لأننا لا نريد أن يرانا الصهيوني بإنارةِ المعسكر.
بقيت بيسان تمشي بين أشلاء الأموات وكأنهمُ ملائكةٌ نيامٌ على الأرضِ تعبرُ بحيراتِ دماءٍ تغتسلُ بها من صهيونية زمنها, وفورَ وصولها المعسكرْ أرادت أن تبحث عن أباها وأخاها غسَّان ولكنَّ الظَّلامَ دامسٌ لدرجةِ أنَّ أخاها كان يقفُ وراءها ولكنَّها لم تشاهده وشمَّتْ رائحةَ الياسمين الَّتي أعدَّتهُ أمُّها لعرسِ أخيها فظنَّتَ أنَّهُ غسَّان ولكن قالت في نفسها:أكيدٌ لن يُحضِرَ عطرَ عرسهِ لساحةِ المعركةِ والمقاومة فلم تلتفت لتلكَ الرائحة ولم تعلم أنَّ خطوةً واحدةً فصلتها عن أخيها الَّتي قطعت آلاف الأميال لتراهُ وأبيها وتعطيهمْ زيتوناً محروقاً ليعلموا ما قد حلَّ بأمِّ غسَّانٍ وشجرتها.
نام بعضُ المقاومين وظلَّ بعضُهمْ يحمي الآخر,نامت بيسان وكان أخوها على بعدِ مترٍ من نومها في الظَّلام الدَّامسِ تحتَ خيمةٍ لا تقي حراً ولا برداً,كانت تقولُ في نفسها أنَّ هذا البردَ بين المقاومةِ سيدفئُ حبَّها لفلسطينَ وحيفا بدلاً من مدفأةٍ تبعثُ برداً تحتَ ذلِّ محتلٍّ مغتصب.
كالعادة هجمَ الصهاينةُ بغدرٍ في آخرِ اللَّيل كي يضمنوا نومَ الجميع, فاستيقظت وخليل على صراخٍ يدبُّ نجمَ البندقيَّةِ على أرضِ المعركة ويقول: استيقظوا واذهبوا دافعوا عن بلادكم هيا إلى الشَّهادة يا عرسان الجنان,حملت بيسان بندقيتها ووجدت أنها فرصةٌ لتقتلَ ولو صهيونيّاً واحداً انتقاماً لأمها.
فخرجت من الخيمة ووجدت ورائها لحاف أخيها وكأنَّ بؤبؤ عينها تجّمد ينزل ثلوجاً بيضاء فأدركت أنّهُ كان أخوها فأسرعت ليأخذها خليل لأرضِ المعركة مع بزوغِ الفجر,دخلتْ أرضَ المعركة تطلقُ رصاصاً طاهراً من قلبِ طفلةٍ شغفت لترى أسرتها مع أحياءٍ بينَ الأمواتِ,وإذا هي ترى غسان يقتربُ من العدوِّ ليزرعَ قنبلةً في معسكرهِ فركضت إليهِ وكأنها حمامةٌ لم تدري أنّها تطيرُ لأجلها وكأنها فرحةً تمسكُ يدَ قابضِ الرّوح ولكنّها تقولُ له:انتظر لأجد أبي وأخي فنلتقي وأمي في الجنة,تبكي وتركض تبكي وتركض وإذا غسان يصرخ آهٍ آهْ الشَّهادةُ صابتني والقبر يطالبني وأمي تكفّنني.
أصيبَ غسان بقدمهِ ومازالَ يزحفُ ليصلَ إلى المعسكر بالقنبلة,وصلت إليهِ بيسان وإذا هي تضمُّهُ وتبكي.
بيسان:هيا يا غسّان ساعدني على حملك كي نبتعد من هنا قبل أن تصاب أكثر.
غسّان:لماذا تركتي أمي وأبي؟ اذهبي قبلَ أن تصابي أنت أيضاً اذهبي.
يصرخُ غسّان على أختهِ ولكنَّ دموعها تزيد هطولاً,يصرخُ بحبٍّ قاتلٍ اذهبي.
بيسان:كفاكَ كفاكَ أمُّكَ ماتتْ وأبيكَ كان يبحث عنك ولم يعد كفاكَ لم يعد لي سواك أرجوك هيا عد معي أرجوك.
غسّان لن أعود وقد وضعت عطر عرسي لتزفني أمي في الجنَّة لن أعود إلا والمعسكر محطَّمٌ فوقَ رؤوسهمْ.
وإذا بالطلقةِ الثانيةِ تصيبهُ وهو لم يفجِّرِ القنبلةَ بعد.
تحضنهُ أختهُ ويعودُ صمتٌ ولكنهُ مكوَّنٌ من قنابلٍ من حبٍّ من رصاصٍ من أخوّةٍ.
أمسكت بيسان بيدِ أخيها وسقطتْ دمعةٌ من خدها عليهِ فجعلتهُ ينسى أنهُ بين يدي قابض الروح وابتسموا وفجَّرتْ القنبلةُ وتصاعد دخَّانٌ كأنَّهُ نسيمُ الربيعِ حاملاً معهُ روح بيسان وغسان.
مات أكثرُ من ثلاث مئةٍ من الصَّهاينة ومعسكرٌ بتجهيزاته.
عادَ خليل ومن بقي من المقاومةِ رافعين رؤوسهم ببيسان وغسَّان يروون القصَّةَ لحيفا وفلسطين كلَّها والآن أنا أخبر العالم كلَّه بما أخبرني به خليل لعلَّكم تصحون من سباتكم و النَّشب وتروون ما حدث في الإنسانيَّةِ على يدي الصهاينة.
هل عرفتم من أنا,أنا أبو غسَّان أنا من رويت لكم هذه القصَّة إذ كنت لم أمت ولكنّي كنت جريحاً في المستشفى لأسبوع.
والآن حين تقرؤون قصتي ربما تكون قد أخذتني المنيَّة لألقى عائلتي بانتظاري على شرفات السَّماء,لعلَّّكم تجدون يا من في هذا العالم ما تبقّى من عائلاتٍ كعائلة ابنتي عروس الجنة بيسان,انقذوهم لعلَّكم ترحمون....
كم من بيسان عرفت فلسطين الحبيبة ....كم من ليمونة احرقت وبيوت هدمت وقلوب تحجرت .....أه وبيسان لم تمت وأشجار الليمون لم تجف ولن تنتهي ثورة القلوب..شكرا للكاتب بس عنجد انت أبو غسان؟؟؟؟!!!!
أدمعت عيوننا وأشعلت قلوبنا نارا على زمن تركنا فيه عدونا ولحقنا فتنة واعصارا بين أهلنا كيف نساعد أهل حيفا ونحن نستنجد من يساعدنا من يلم شملنا من يعيد وحدتنا وحبنا لأرضنا ووطننا وقائدنا
ما أجملها هذه ( البيسان) دمت بخير
بيسان دمرت قلبي **** بس عنجد إنها بنت شجاعة **** لو كان في من بيسان إتنين كن كان كل العالم بخير***