كان الصراع الفكري والفلسفي يطغى لدى العديد من فلاسفة الحقبة الماضية حول مفهوم الحريات وكيفية تعامل السلطة السياسية مع القواعد الدستورية التي سنتها وفقاً لمواثيق و شرائع، لما وجدَ فيها من انتهاكات إنسانية لا يزال النقاش فيها قائماً حتى يومنا هذا، وقد أردنا حصر هذه التفاعلات بين الفلاسفة لتوضيح الأثر البارز الذي تناول القضايا الجوهرية حول مفهوم الحقوق والحريات العامة.
الفيلسوف هيجوري غروت الملقب (غروتيوس) دبلوماسي هولندي عاش بين 1583و ،1645 بدأ مؤلفاته كبرجوازي واعٍ لمصالح بلاده التجارية. ثم قام بدراسة القوانين الطبيعية فأكد فضيلة الامتناع عن الاستيلاء على أملاك الغير. لاسيما أن القانون الطبيعي يضمن الملكية، فقد قال إن الملكية كما هي مستعملة حالياً قد أنشأتها الإدارة الإنسانية، لكن منذ أن أنشئت، فإن القانون الطبيعي يعلمني بأني أقترف جريمة عندما أستولي على ما هو موضوع ملكيتك ضد مشيئتك.
البارون صمويل دي بوفندروف رجل قانون ومؤرخ ألماني عاش بين 1632- 1694 تأثر بأستاذه غروتيوس، ترك عدة مؤلفات في التاريخ والقانون من أشهرها كتاب (قانون الطبيعة والناس)، وفيه يقول إن الله خلق الأفكار والعادات التي تحكم أفعال البشر وطباعهم من أجل إدخال النظام والجمال في الحياة الإنسانية، والإنسان وُجد لكي يخضع للعلاقات الاجتماعية بسبب الأوضاع العامة للمجتمع الإنساني ولكي يصبح جزءاً منهُ بعدَ ولادتهِ.
توماس هوبس فيلسوف إنكليزي عاش بين 1588و 1679 في فترة حافلة بالاضطرابات السياسية في إنكلترا حيث كان الصراع في أشده بين الملكيين وبين خصومهم الجمهوريين. وعندما انتصر الجمهوريون في عام 1640 اضطر هوبس للهرب إلى فرنسا بسبب وقوفه علناً إلى جانب السلطة الملكية. بعد ذلك عاد إلى إنكلترا بعد نشر كتابه (لوفايتان) أو الوحش، الذي صور فيه الدولة على هيئة وحش كبير كاسر قائلاً تم تصوره من أجل حماية الإنسان الطبيعي والدفاع عنه، والسيادة فيه هي روح مصطنعة تعطي الحياة والحركة للجسد كله، والثواب والعقاب هما أعصابه، وثروة جميع المواطنين وأموالهم هي قوتهُ. وسلامة الشعب هي وظيفتهُ. والعدالة والقوانين هي عقله وإرادته المصطنعتين، الوفاق هو صحتهُ والتمرد هو مرضهُ والحرب الأهلية هي موتهُ.
جون لوك طبيب وفيلسوف إنكليزي عاش بين 1632و 1704 تأثر بفلسفة ديكارت وبآراء هوبس في العقد الاجتماعي التي تبدو واضحة في كثير من جوانب فلسفته السياسية، ولا سيما في كتابه بحث في الحكم المدني، فرأى أن مقاومة السلطة مشروعة في حالتين
الأولى إذا كانت السلطة السياسية غير قانونية وغير مشروعة، كما في حالة النظام المطلق الذي لا يجب وجوده في المجتمعات المدنية، وإذا كانت السلطة تتناقض مع أهداف الحكومة والمجتمع ومع قانون الطبيعة.
الحالة الثانية المقاومة هي حق وواجب على الأفراد الذين يُلزمهم قانون الطبيعة بحماية أنفسهم عن طريق وضع حد لتجاوز السلطة السياسية لصلاحياتها.
جان جاك روسو فيلسوف سياسي فرنسي عاش بين 1712و ،1778عالج في مؤلفاته اللامساواة بين البشر، لاسيما في كتاب العقد الاجتماعي وكتاب إميل أو التربية.
يقول روسو إن القوانين يجب أن تعبر عن الإرادة العامة، فالقانون لا يمكن أن يكون ظالماً لأنه من صنع مجموع الشعب، ودور الحكومة هو تنفيذ هذه الإرادة الشعبية. فالموكلين بالسلطة التنفيذية ليسوا أسياداً على الشعب بل هم مأموروه، وهو يستطيع أن يعينهم، وأن يخلعهم حين يشاء.
شارل سيغوندا مونتسكيو كاتب فرنسي عاش بين 1689و ،1755 بدأ طريقه للشهرة الأدبية في الثانية والثلاثين من عمره عندما نشر الرسالة الفارسية التي تتناول مسائل إنسانية كالحب، والأخلاق، والسياسة، والدين.
بعد ذلك بدأ بمناقشة روح الشرائع حول القوانين بشكل عام أو العلاقات الضرورية النابعة من طبيعة الأشياء، فالقوانين الطبيعية للسلوك الإنساني هي التي تحدد حاجات الإنسان الملحة، وهي التي ترسم الحدود والأهداف، وكذلك المعايير الأساسية لوجودنا.
ماري أرويه فولتير فيلسوف و مفكر فرنسي عاش بين 1694و 1778 عالج روح القوانين فوجد أن هناك مسائل تتناول الدين والسلطة و الثروة والملكية و الإصلاحات الهادفة لصيانة حقوق الإنسان.
أما بخصوص موقفه من الدين فقد هاجم الخرافات والتعصب، إلا أنه لم يصل إلى درجة الإلحاد الواضح. إذ يقر بأنه يجب أن يكون للمرء دين، وأن لا يصدق الكهنة. والإيمان بالله يجب أن يحس به الفكر لا القلب.
آدم سميث فيلسوف واقتصادي إنكليزي عاش بين 1723و،1790 الحرية عندهُ ترتكز على الحق بالأمن الشخصي، وعلى حقوق الملكية في دولة دستورية تقتصر فيها العدالة على عدم الإضرار بحقوق الآخرين. لكن على الرغم من حصره مهمة الدولة في تأمين العدالة بشكل صحيح، فإن سميث يرى أن على الحكومة مسؤولية هامة في ما يختص بالتربية، والتدخل في بعض ميادين النشاط الاقتصادي التي لا يمكن تركها للقطاع الخاص.
جون ستيوارت ميل فيلسوف واقتصادي إنكليزي عاش بين 1806و ،1873 من أشهر مؤلفاته مبادئ الاقتصاد السياسي، الذي رفض فيه الرأسمالية، وبدا مؤيداً للاشتراكية. ففي النظام الرأسمالي، كما يقول لا يقوم العمال بحكم أنفسهم، فضلاً عن أن الانقسام بين الملاكين والعمال لا يسمح بقيام الديمقراطية السياسية. لذا فإنه يطالب بوجود اقتصاد تنافسي تكون فيه المصانع ملكاً للعمال، وبانتظار تحقيق الاشتراكية طالب ميل بجعل الملكية أكثر قبولاً عن طريق إدخال حقوق على الميراث، وبمنع الملاكين العقاريين من قطف ثمار جهد عمالهم.
كارل ماركس نتيجة وقوع اليد العاملة المنتجة تحت وطأة الاستغلال الرأسمالي، والجشع المتزايد لتحقيق أكبر قدر من الربح في الحالتين كانت الحرية الإنسانية هي الضحية، إذ يقول إذا كانت الديمقراطية الليبرالية تمنح الحرية السياسية لمواطنيها، فإن هذه الحريات ليست سوى شكلية وغير حقيقية بالنسبة للطبقة العاملة المستغَلَّة. وما قيمة الحريات الأساسية مثل حرية الكلام، والكتابة، والمعتقد الديني، إذا كان الوجود الحقيقي، أي الوجود اليومي، وجود العمل سجين الضرورة القاسية التي تخلقها سلطة السيد وطغيان الحاجة؟
جورج سوريل أحد كبار منظري الفاشية يقول إن استبدال القواعد العقلانية للماركسية بعناصر تطوعية، وحيوية، وضد مادية، وتقوم فلسفته على العمل، وتقديس الطاقة. فمن أجل تعبئة الجماهير يرى سوريل أنه لا بد من الأساطير، لا من العقلانيات. والعنف البروليتاري الماركسي بدا عاجزاً عن لعب أي دور ثوري لتعبئة الجماهير، لذا لابد من خيارات أخرى إذ علينا أن نستبدل قوة صاعدة وهي الأمة بالبروليتاريا، وهكذا تم التوصل إلى مفهوم الاشتراكية للجميع التي تجسد فكرة جديدة عن الثورة الوطنية، التي هي نموذج الثورة الوحيد الذي لا يتسم بالصراع الطبقي.
موسوليني يقول نحن دولة نراقب نوعاً ما كل القوى التي تؤثر في الطبيعة. ونراقب القوى السياسية، والأخلاقية، والاقتصادية، فكل شيء يقوم داخل الدولة، ولا شيء ضد الدولة أو خارجها.
بعد هذا العرض نستخلص أن النظام الفاشي لا يؤمن بأي قيم إنسانية أو روحية إذ استبدل بها نظام استبدادي يتحكم بإرادة الشعب. وهنا يقع على عاتق الفلاسفة والمفكرين تنظيم العلاقات بين الأفراد من خلال سيادة دولة القانون التي ترتبط بوجود الدولة الديمقراطية، ولا يمكن أن تكتسب هذه الصفة إلا إذا استندت مؤسساتها إلى أوَّلية القانون الذي يجب أن يسود الحكام والمحكومين على السواء.