syria.jpg
مساهمات القراء
مقالات
أيّ قميص نلبس... بقلم : أحمد عيسى

لست خبيراَ بفنون المُوضة و مواسمِها , و لا بِدُورِ الأزياءِ و عروضِها , و لا بالألوانِ و تناسقِها ,و لستُ أنوي أن أنصحَكم بقمصانٍ تلبسونَها هذا الموسم , بكمِّها و (نص) كمّها , و ملونِها و مُقلّمِها , و أسودها و أبيضِها , و فضفاضِها  وضيّقِها


لذلك فإني أعتذر ممن كان يتوقعُ منّي مثلَ ذلك أشدَّ الاعتذار لتخييبِ ظنِّه و إضاعةِ وقتِه, و لكنّي سأكونُ له من الشاكرين إن هو أسدى إليّ معروفاً و أكملَ قراءة هذه الكلمات.

 

ما يهمُّني من القمصان كلّها قميصان تاريخيّان كان لهما أثرٌ كبيرٌ في تغييرِ مجرياتِ الأحداثِ في عصريهما, و توجيه دفّةِ التاريخ , إما إلى برِّ السلامةِ و الأمان, أو إلى دوّامة الموت و الغرق و الضّياع, و لا أراهما برمزيتِهما بعيدين عن واقعِ هذه الأزمة التي نعيشها على ثرى هذا الوطن الحبيب.

 أما أوّلُهما فقميصُ يوسفَ عليه السلام , و أما الآخرُ فقميصُ عثمانَ بنِ عفّان رضي الله عنه.

 

و ليوسفَ عليه السلام ثلاثةُ قمصان, قميصٌ برّأَ الذئبَ من دمِه , و كشفَ كيدَ إخوتِه و مكرَهم , قال تعالى     ( و جاءُوا على قميصِه بدمٍ كذب قالَ بل سوّلتْ لكم أنفسُكم أمراً فصبرٌ جميلٌ و اللهُ المستعانُ على ما تصفون ) يوسف:18

 

و قميصٌ برّأَه من تهمةِ مراودةِ امرأةِ العزيزِ عن نفسِها , لتبقى صحيفة شرفِه  ناصعةَ البياض , لا يتخلّلُها سوادٌ و لا تشوبُها شائبة. قال تعالى ( فلمّا رأى قميصَه قُدّ من دبرٍ قال إنّه من كيدِكنّ إنّ كيدَكنّ عظيم )يوسف:28

 

و قميص ثالث – و هو ما يعنيني ها هنا -  هو الذي ردَّ نورَ البصرِ إلى عينيّ أبيه  بعدما أطفأتْه غيبتُه, و ردَّ روحَه إليه بعدما سلبتْها فَعلةُ إخوتِه به. قال تعالى ( فلمّا أن جاءَه البشيرُ ألقاه على وجهِه فارتدَّ بصيراً قالَ ألم أقل لكم إنّي أعلمُ منَ اللهِ ما لا تعلمون ) يوسف 96. فالتمَّ بذلك شملُ الإخوةِ بعدما تفرّقوا , و صفتْ كأسُهم بعدما عكّرتْها  يدُ الزّمانِ و حماقةُ الانسان.

 

و إذا انتقلنا إلى قميصِ عثمان ذي النّورين – الشّهيدِ المغدور –  فقد حُمِلَ القميصُ إلى دمشقَ و هو مضرجٌ بدمهِ الطاهر , ليكون سبباً في تهييجِ الغرائزِ و إثارةِ الضغائنِ و الدعوةِ إلى الثأرِ و التحريضِ على الانتقام , فشبّتْ بين الإخوةِ  نارُ حربٍ حارقةٍ التهمَ لهيبُها الألوفَ من بينِهم خيرةُ رجالِ هذه الأمّة , و لستُ أبالغُ إن قلت إنّ وهجَ هذه النار مازال يلفحنا إلى يومنا هذا , و ما زالت جمراتها تأزّ من تحتَ رماد السّنين , فمتى سنسكب عليها ماء النسيان فتننطفئ إلى الأبد , فكأّنّما هي قنبلة انفجرت في ذلك الزمان البعيد فتطايرت شظاياها و تناثرت حممُها عبر مئات السّنين لتصيبنا نحن في زماننا هذا.

 

  و الحقَّ أقولُ لكم, إنّ آثار هذا القميص ما تزال باديةً في حاضر أمتِّنا , و ما زلنا نعيش نتائجه و نشهد تداعياته, و لا أظنّها ستمّحى إلا بقيام الساعة . فلماذا نحن أمّةٌ تعيشُ في ماضيها أكثر ممّا تعيشُ في حاضرها , و تفكّرُ في سالف أيامها أكثر ممّا تخطّطُ لمستقبلها , متى سنتدبّر قولَ الله تعالى ( تلكَ أمّةٌ قد خلتْ لها ما كسبتْ و لكم ما كسبتم و لا تسألونَ عمّا كانوا يعملون ) البقرة 134 ؟

 

فيا أيُّها الناسُ جميعاً على امتدادِ هذا الوطنِ العزيز , أياً كانت الضّفةُ التي تقفون عليها, و أياً كانت المواقفُ التي تتبنَّون و الآراءُ التي تعتقدون , وأياً كانت الجهاتُ التي تؤيّدون أو الأطرافُ التي تعارضون, يا من ترَون أنفسَكم ضحايا و مظلومين, يا أيّتها الثكالى و الأرامل , يا أيّها اليتامى و المفجوعون, بالله عليكم أجيبوني , أيّ قميصٍ تريدون منّا أن نلبس...؟, قميصُ يوسفَ فيرتدَّ لنا بصرُنا و بصيرتُنا , قميصُ التسامحِ و الغفران , قميصُ العفوِ عن الإخوةِ و نسيانِ ما بَدَرَ منهم من مكرٍ و كيد.

 

أم قميصُ عثمان , فنصْلَى نارَ الثأرِ و نكتوي بلهيبِ الانتقام , فالنّارُ إن أتتْ على أوّلِنا لن تدعَ آخرَنا , و إن أكلتْ أخضرَنا فلن توفّرَ يابسَنا , و سنبدأُ في مجادلاتٍ و مهاتراتٍ لن تجدَ لها نهايةً أبداً إلا بنهايةِ هذه الأرضِ و من عليها, و ندخلَ في مسلسلٍ يعجزُ أمهرُ مخرجي هوليوود عن تصوّرِ مشاهدِه الكارثيةِ و لقطاتِه الدموية, و يقفُ أمامَه أوسعُ كتبةِ الأساطيرِ الإغريقيةِ خيالاً عاجزين عن تخيّلِ خاتمتِه المأساويةِ و نهايتِه الحزينة , و لن تجدَ حتى آلهتُهم المتعددة لنا حلاً يرضينا جميعاً إلا أن يتغمّدَنا اللهُ الواحدُ الأحدُ برحمتِه و يهدينا سواءَ السبيل.

 

أناشدُكم باللهِ جميعاً , يا مَنْ تقلُّكم أرضٌ واحدة , و تظلُّكم سماءٌ واحدة, و تتنسّمون هواءً واحداً, و ترتوون من ماءٍ واحد , فلْنخلعْ عنا قميصَ الثأرِ و الانتقام , و لنلبسْ قميصَ العفوِ و التسامح . فواللهِ و بالله و تالله إنْ لم تفعلوا فلن تُصانَ البلاد و ولن تُحفظُ الدماءُ و الأعراضُ و الأموال , و لن نجدَ إلى الأمنِ و الآمانِ سبيلا.

 

فانظروا ما أنتم فاعلون.      

 

2011-12-17
التعليقات
Dr. y
2011-12-18 20:42:19
برافو يا سيد أحمد
ليت كل السوريون يمتلكون هذه الرؤية الحكيمة وهذا الفكر الواعي وأما من جهتي فأختار الان كما في السابق...قميص يوسف. شكراًلك يا أخ أحمد

سوريا
مواطن سوري
2011-12-17 13:28:15
أحلى كلام
هذا هو الحل المنطقي, الله يحمي هالبلاد ويحمي شعبها وقائدها وياخود بيدّه لتنفيذ الاصلاحات التي وعد بها ليوصلنا لبر الامان

سوريا