نستطيع أن نجد بذور مفهوم الإرادة عند الرواقيين الذين أرجعوا كل شيء إلى الفعل ، ولما كان الفعل لا يتم إلا بالأجسام ، فهي وحدها تؤثر ، فقد قالوا إن كل شيء جسماني وإن كل شيء لا يتم إلاّ بالإرادة .
ما هي الإرادة وما هي خصائصها ومكوناتها ؟
ما هي منابع أو أسس الإرادة , البيولوجية , والنفسية , والعصبية , والفكرية , والاجتماعية .
من يتحكم بنا , ما هي مصادر إرادتنا وتوجهاتنا ؟
برامجنا الموروثة بيولوجياً , الدوافع والغرائز , موروثاتنا الاجتماعية , القوى والعناصر المادية , فكرنا وحريتنا المزعومة ؟
هل يمكن تحليل إرادة الإنسان وتشريحها ؟ وهل الإرادة دافع ورغبة , فالدوافع والرغبات لها تفسير سببي وعلّمي .
لقد كان مفهوم الإرادة من المفاهيم الأولية التي تعامل معه الإنسان , أكان ذلك بوعي منه أو بدون وعي . وقد شغل هذا المفهوم كافة المفكرين لارتباطه بالحرية , وكتب الكثير عن الإرادة .
والرواقية تعترف بالحتمية أو بالقدر ، كما أن الإرادة الإنسانية عندهم تخضع لهذه الحتمية , ويقولون بأن جوهر الإنسان هو إرادته . القول الذي سوف يردده فيما بعد شوبنهاور ، بل إن شوبنهاور ذهب أبعد من الرواقيين حينما قال إن الكون كله في أساسه إرادة وإن من طبيعة الإرادة ، أي القوة المحركة والمكونة للانا ، ألا تعمل إلاّ على نحو متتابع ، فهي لا تنجز إلاّ فعلاً واحداً يمكن إدراكه في المرة الواحدة . وذلك بموجب أنها واحدة ومسيطرة، ومن ثم لا يمكن أن تكون في الوقت عينه.
ويرى البعض أن الإرادة لا تعني سوى الدافع أو الرغبة لإشباع الغريزة , وطالما كانت هي رغبة فإن (عدم الإشباع) صفة من صفاتها , ولكن يتعذر إشباعها (فالرغبات تتوالد)، والإنسان يحمل في داخله إرادة جائعة.
و شوبنهاور وفي كتابه "العالم كإرادة وفكرة" أثار هذه النقطة، وغاص في أعماقها، وتوصل إلى ان شخصية الإنسان تكمن في إرادته، وليس في عقله، فالدم الذي يجري في الجسم، الإرادة هي التي تدفعه، والعقل قد يتعب، أما الإرادة. فيصور الحياة كأنها شر، لأنه كلما ازدادت ظاهرة الإرادة كمالاً ازداد العذاب وضوحاً .
ويرى البعض أن الإرادة هي : الطاقة والقوة التي بداخل الإنسان , و المسؤولة عن قيامه بأفعاله الاختيارية , وإن الإرادة لا وجود لها بدون المفاضلة والاستنتاج ، أي المقارنة والقياس والتقييم والحكم , ومن ثم القيام بالاستجابات المناسبة . فنتائج الاستنتاج والمفاضلة هي الدافع للإرادة على العمل الإرادي , وحياة الإنسان هي سلسلة من رغبات ودوافع والاستجابات والأفعال لا تهدأ ، وكفاح مستمر من أجل الحياة ، بتوفير الطعام والمأوى ، والإبقاء على النوع . . .
فالإرادة هي الفاعل والمحرك للكثير من استجاباتنا وأفعالنا . فالإنسان يشعر بأنه حر عندما ممارسته لإرادته في اختيار أحد الخيارات من بين خيارات كثيرة متاحة له . لذلك يصعب إقناع أي إنسان بأنه ليس له إرادة وغير حر في اختيار تصرفاته , لأنه يحس ويشعر أنه حر, والأحاسيس يصعب تكذيبها .
فمفهوم الحرية يعتمد على الإرادة التي هي استجابة وفعل يقوم به الإنسان , و تملك كافة الكائنات الحية المتطورة الإرادة , ولكنها لا تملك الوعي بأن لها إرادة .
فالإرادة هي القدرة على التعامل مع خيارات متعددة . فأساس التفكير وكذلك الإدارة هو التعامل مع الخيارات و قيل: أن التفكير هو انتقاء البديل الأمثل من ضمن عدة بدائل ( خيارات ) ممكنة في ضوء الغايات المحددة والمعايير المقررة سلفاً , وهذا معناه أن أساس التفكير وبالتالي الإرادة هو التعامل مع الخيارات لهدف معين , وأبسط أنواع التعامل مع الخيارات هو التعامل مع خيارين فقط : موجود-غير موجود، صح –خطأ، فعل – لا فعل ، مفيد- ضار ، أكبر- أصغر ، قبل – بعد ، نعم – لا ، تريد –لا تريد ، فوق – تحت ، يمين – يسار ، خير – شر ......الخ . في هذه الحالات هناك دوماً تعامل مع خيارين فقط، يتم اختيار أحدهم ، أو تعيين أحدهم ، أو تمييز أحدهم . فالعقل البشري يبدأ بالتعامل مع خيارين بفاعلية عالية ، ويستعمل هذه الآلية البسيطة في كافة تعاملاته مع الخيارات الكثيرة والمعقدة والمتداخلة ، وذلك بإرجاعها إلى خيارين فقط يتم تمييز أحدهم عن الآخر, ولإجراء التمييز لابد من المقارنة والقياس ثم الحكم وإصدار القرار .
ومصادر الإرادة الواعية و الغير واعية , أو حرية الاختيار , ناتجة عن عمل العصبي للدماغ , , والحرية تنشأ نتيجة الحوار والجدل الذي يمكن أن تكون نتائجه متغيرة وليست ثابتة وذلك حسب سير الجدل وزمنه.
و يبقى الإنسان وقصته مع الإرادة لغزاً عميقاً، لا يمكن اختزاله أو حتى شرحه في صفحات قليلة . لنحاول تحديد منابع وأسس الإرادة لدينا .
أسس الإرادة لدى الكائنات الحية
نستطيع تصنيف كافة أشكال استجابات وإرادة الكائنات الحية إلى نوعين أو نمطين :
الأول : إرادة مقررة ومحددة ونمطية وهي موروثة بيولوجياً , وتلعب تقلبات عوامل الوسط الداخلي دوراً هاماً في هذا النمط من السلوك الذي يعتبر منظماً بيولوجياً يحفظ الفرد والنوع . فكل ابتعاد عن سوية التوازنات الفزيولوجية للجسم توجه الكائن الحي نحو العمل على إعادة التوازن إلى سويته الطبيعية وأهم هذه التصرفات , سلوك التغذية , والبحث عن المأوى , والسلوك الجنسي . . .
والنمط الثاني خاص بالكائنات الحية التي تعيش جماعات , فهذه تكيفت إرداتها واستجاباتها وتصرفاتها مع الأوضاع الاجتماعية الموجودة ضمنها , تسمح بالحوار والتفاعل مع المجتمع الذي يعيش فيه الكائن الحي .
وفي مجال هذه الاستجابات والتصرفات الاجتماعية تكون المنبهات البيئية , وما تضيفه عليها تجارب الكائن الحي من معان اجتماعية , هي التي تقرر وتوجه منحى أرادة الكائن الحي . وتلعب الدور الأساسي في انبثاق السلوك الاجتماعي . ولا تكتسب المعلومات الحسية صفاتها الدافعة انطلاقاً من سلوكية غريزية موروثة , بل تكتسب من التكيفات الاجتماعية التي تعلمها من مجتمعه .
وسوف نتكلم عن النمط الأول , أما النمط الثاني فسوف نتكلم عنه لاحقاَ .
تظهر الإرادة لدى الكائنات الحية عند الكائن الحي وحيد الخلية فهو يريد ويختار, مع أنه لا يفكر وليس له جهاز عصبي , فهذا الكائن الحي يستجيب و يتحرك بإرادة فزيولوجية كيميائية , فيهرب من ما يضره ويهدد حياته , ويسعى إلى غذائه , فهو يتعرف على ما يوجد في بيئته ويتصرف بما يناسبه .
وغالبية الكائنات الحية والزواحف والثدييات لها جهاز عصبي وتفكر ولها إرادة , فهي تبحث عن الطعام أو عن المأوى أو عن الشريك للتزاوج , و تفترس , وتهرب من العدو أو من الخطر بإرادتها , و تتصارع وتتنافس وتفرض أرادتها وسيطرتها على المكان وعلى الطعام . . .
وبالنسبة للكائنات الحية , أواخر الزواحف والثدييات , يبرز دور الدماغ الحوفي كعنصر رئيس في إدارة السلوك , وباعتباره المسؤول الأساسي لبناء الذكريات المستخدمة في التصرفات السلوكيات الاجتماعية , وأسلوب استخدامها . فتلعب الجملة الحافية ( أو الدماغ الحوفي ) الدور الأول في إعداد وتنفيذ سلوك الكائن الحي ( وبشكل خاص الإنسان ) الذي يتفاعل مع بيئته , وهي التي تظهر الفروق السلوكية الفردية وتظهر الشخصية المتأثرة بالحياة الماضية . ويختفي دور هذه الجملة عندما يوضع الفرد في بيئة تختلف كلياً عن بيئته المعتادة , فعندها يصبح مخزون ذاكرته الذي اكتسبه أثناء حياته غير فعال .
إن الجهاز العصبي والدماغ عند الحيوانات هو المسؤول الأول ومقرر إرادة الكائن الحي , وذلك بتوجيه الفعاليات العضلية ، ومراقبة الأعضاء التشريحية ، و تركيب و معالجة معلومات الإدخال التي تلتقطها الحواس ليتم تفسيرها و من خلالها يتم التواصل مع الواقع ، من ثم " مباشرة الفعل " بناء على المعطيات التي ينقلها الواقع .
وبالنسبة لنا الدماغ هو المسؤول الأول ومقرر إرادتنا . وقد ملك الإنسان الفكر والوعي والإرادة الواعية , وهو يتميز عن باقي الكائنات الحية , بأن إرادته مدركة وواعية ولها أبعاد فكرية واجتماعية في كثير من الأحيان .
لقد قسم البيولوجي باول ماكلين أدمغتنا إلى طبقات عدة متميزة و متمحورة تبدأ من أكثر الطبقات بدائية وتحوى على طبقات متتالية أكثر حداثة تحيط بالطبقات السابقة.
الطبقة الأولى : من المخ والأكثر عمقا والتى يدعوها باول ماكلين القاعدة العصبية، وهى التى تتحكم فى وظائف الحياة الأساسية مثل التغذية والإطراح ودوران الدم والتنفس وكافة الآليات والأعمال الحيوية، وتتألف من النخاع الشوكي وجزع المخ والمخ الأوسط ، وتؤلف القاعدة العصبية فى الأسماك معظم المخ , وليس لإرادة الكائن الحي تأثير مباشر عليها .
الطبقة الثانية: وهى طبقة الزواحف- وهذه الطبقة تحيط بالقاعدة العصبية، وهى مشتركة بيننا وبين الزواحف، وتضم الفص الشمي والجسم المخطط والكرة الدماغية الشاحبة، وتتحكم هذه الطبقة فى السلوك ألعدائي و التراتب الاجتماعي وتحديد منطقة النفوذ , وتكون إرادة الكائن الحي مقررة حسب البرامج الوراثية المكتسبة.
الطبقة الثالثة: وهى تحيط بالطبقة السابقة وتسمى ( النظام أو العقل الحوفي ) , وتوجد ولدى الثدييات ، وهى تتحكم فى العواطف والتصرفات الاجتماعية بشكل رئيسي ، وفى الشم، وفى الذكريات أيضا.
الطبقة الرابعة: هي اللحاء، وهى تحيط بكل الطبقات السابقة وهى التى تتحكم فى التفكير والإدراك الراقي، ولها وظائف أخرى، وهى موجودة لدى الثدييات الراقية , وهى متطورة جدا لدينا.
ويمكن تشبيه هذه الطبقات الأربعة أو هذه العقول الأربعة بأربعة مراكز قيادة متدرجة من حيث تطورها وقدرتها على إدارة استجابات الكائن الحي.
أو تشبيهها بأربعة معالجات تنظم وتنسق وتدير استجابات وتصرفات وإرادة الكائن الحي، فهي تشارك جميعها في إدارة حياة الكائن الحي .
يمكن اعتبار الدماغ الحوفي أهم أجزاء الدماغ لأنه المسؤول عن التقييم , فهو عقل أو معالج أساسي قائم بذاته، وكان يقود ويدير استجابات وتصرفات الكائن الحي لدى أوائل الثدييات .
إن الدماغ الحوفي هو المسؤول الأول عن إدارة غالبية تصرفات الإنسان , فهو المتحكم الأول بإرادته، فهو الذي يحدد ما يدخل إلى ساحة الشعور ( أو سبورة الوعي ) ليعالج ، وهو الذي يجلب ما يطلب من الذاكرة المتوضعة في اللحاء ، لاستدعائه إلى ساحة الشعور ، إن كان بطلب من ساحة الشعور، أو هو يدخل إلى ساحة الشعور ما يعتبره هاما ويستدعي المعالجة في ساحة الشعور .
فالدماغ الحوفي هو الذي يعالج ويقيم واردات الحواس, وينتج الاستجابة المناسبة لها, وأغلب الاستجابات موروثة محددة , وكانت إمكانية تعديل أو تغيير الاستجابة نادرة .
فالمعالجة التي يقوم بها الدماغ الحوفي محدودة وضمن خيارات قليلة معينة محددة , وكل استجابة جديدة يكتسبها الكائن الحي لا يورثها إلى أبنائه بيولوجياً ( يمكن أن تورث اجتماعياً نتيجة الحياة الاجتماعية ) , و يمكن أن تصبح موروثة بيولوجياً نتيجة الحياة الطويلة جداً و الانتخاب , وهذا يكون بطيئاً جداً .
لقد نشأ اللحاء نتيجة الحاجة إلى المساعدة في معالجة واردات الحواس بشكل أوسع . وهذا يشبه تماماً قيادة رئيس القبيلة أو العشيرة أو الإمارة الصغيرة , فهو يكون قادراً على القيادة نظراً لاستطاعته التعامل مع مجريات الأمور, ولكن إذا كبرت العشيرة أو الإمارة لتصبح دولة كبيرة لها الكثير من العلاقات الداخلية والخارجية , عندها لابد لرئيس القبيلة أو الأمير من الاستعانة بالوزراء و الولاة والنواب عنه, وإذا كبرت الدولة أكثر عندها لابد من نشوء الوزارات والمؤسسات , ولابد من المستشارين والخبراء لمساعدة الرئيس في القيادة و الإدارة , وهذا ما حصل في تطور الدماغ , عند تطور قيادته للجسم , ثم للعلا قات المادية مع الطبيعة ثم للعلاقات الاجتماعية ثم العلاقات الثقافية .
فقد كان لابد من نشوء بنيات دماغية تقوم بهذه الأعمال, فقد نشأ اللحاء وتطور ليصبح كما هو عليه لدينا . فهو بمثابة المساعد والمستشار والخبير للدماغ الحوفي الذي يبقى هو المعالج الأساسي والمقيم والمتحكم الأساسي في إدارة كافة شؤون الإنسان الجسمية والاجتماعية والفكرية.
يعتبر تفعيل الوظيفة العامة حجر الاساس في مسلسل تحديث الدولة والادارة ومؤشر حقيقي على تبني الدولة لخيارات بناءة وهامة ازاء المواطن المستفيد من الادارة او المرفق العام او الادارة المحلية غير ان مجمل الخطوات التي تمت منذ عام 2000 عام بدء مشروع التطوير والتحديث والتغيير الذي اطلقه رئيسنا الشاب في ثنايا خطاب القسم لا زالت غير كافية حيث تم تبسيط بعض الاجراءات الادارية وتم احداث مايسمى النافذة الواحدة لكن هذه النافذة لم تقم بدورها بشكل جيد ولا زالت الخطوات التي تمت تنقصها التعبئة الضرورية لمختلف مكونا