كل الأشياء أصبحت معكوسة... ارتفعت درجات الحرارة أكثر من أربع درجات عن معدلها.. ازدادت ساعات النوم وترهل المواطن وارتفع منسوب الكسل. وتضاعفت ثلاث مرات أسعار أجهزة الكهرباء أو (الشاحنات الصغيرة)، وبلغ سعر الشمعة الواحدة 25 ليرة سورية.
وتطور أدب الرسائل في زمن الشح والانقطاعات والأزمات والارتباكات، ولم تعد الأقلام والأوراق والتحيات والسلامات مجدية.. ورغم تأوهات المواطن وغضبه المتدفق من جوفه ورأسه، فهو يتمرّن أو(تحت التدريب) لنيل شهادة تقديرية من وزارة الكهرباء، حتى يتأهل للمواطنة الخالية من الحرارة ويمكن أن تمتد الدورة التأهيلية إلى سنة أو سنتين. وما يساويها للتأهل لدورة غازية ومازوتية. ولا حاجة إلى التذكير بالأرتال والطوعي والصور الصباحية والمسائية.. وبالأمس وأنا عائد في تمام الساعة الثانية والنصف صباحاً، كان بضعة أشخاص ينتظرون شاحنة الغاز التابعة للمؤسسة.. هل تصدقون؟ وعندما قررتُ كتابة رسالة كهربائية على ضوء الذاكرة، التي سرعان ما تعطَّلت عند انقطاع التيار الساعة الثامنة والنصف ليلاً، انتحر القلم وسالت دماؤه على الأوراق، فاتخذت قراراً سريعاً بالاكتفاء بترتيب أفكاري إلى حين عودة التيار...انتظرت ثلاث ساعات دون جدوى، عندئذ بدأت الجمل الشعرية تتقاتل في فسحة ضيقة. وهربت المفردات من الظلمة، وتقافزت الحروف من النافذة الصغيرة الوحيدة، وتكوّمت فوق الرصيف المعتم، واندهست تحت أقدام المارة. وأنا أراقبها وأسلّط عليها ضوءاً شحيحاً، وقلبي ينزف حزناً على رسالة تمزَّقت قبل عودة التيار الكهربائي!
حاولت إعادة ترتيب أفكاري فغلبني النعاس.. قلت سأنسى متاعب الليل والنهار، وأخفف قليلاً من همومي، خوفاً من توتر الأعصاب، وحدوث جلطة قلبية أو دماغية. فطويت أوراقي ونثرت أفكاري وبعثرت هواجسي وغيرت حساباتي، مع شروق شمس كانون. وبدأ الدفء يتسرَّب إلى جسدي، وتورَّمت أفكاري وانتفخت .. وهمست في نفسي قلت سأجرّب: و(فقست) زر الكهرباء .. لكن ...!). لذلك قررتُ أن أصنع فنجان قهوة (على كيفك)، فابتسمت أم العيال التي نامت بعد اختفاء الكهرباء، وقالت دون غضب: لا غاز ولا مازوت وقلبت البيدون على فمه، فأغلقت فمي وبلعت مئات المفردات خوفاً من عسس يسمع موَّالي الحزين، ويحوله إلى تقرير مهيب..! سلاماً أيتها الكهرباء.. وتحية إلى اليابان .. فأربعة عقود لم تعرفوا غير الكهرباء. وإذا كنتم تشتهون العتمة، وأنتم على استعداد لاستقبال (إيميلاتنا)، فجهزوا أنفسكم واستعدوا وأرسلوا لنا رسائل كهربائية، كي تغذي محطاتنا، وتعيد الضوء إلى عيوننا، لأن العشاء الليلي يداهمنا في زمن انتشار الأفكار الظلامية، المصدرة إلينا من أكبر وأعظم دولة نفطية - خليجية أطلق عليه (الدولة القطرية العظمى)، فهي رسول الولايات المتحدة إلى المنطقة. وهي التي تدافع عن حقوق الإنسان العربي. هناك كثيرون بحاجة إلى إنارة الرؤوس، لأن (فيوزات) العقل تعطلت ولم تعد صالحة إلاَّ لبث الشرور والتخريب..!