syria.jpg
مساهمات القراء
مقالات
العوالم الأربعة (2) ... بقلم : نبيل حاجي نائف

  قوى الكائنات الفكرية


إن الكائنات الفكرية تستخدم عقل الإنسان لحمايتها , فبعد أن تتوضع في دماغه , تدفعه للدفاع عنها والسعي لنشرها في العقول الأخرى , وهي تقاوم الكائنات الفكرية الأخرى , وتسعى لمنعها من الدخول إلى الدماغ الموجودة هي فيه .

 

فالفكرة متى دخلت العقل و توضعت فيه , تمنع الأفكار الأخرى من الدخول و التوضع , إذا لم تكن متسقة معها أو تناقضها . فهي تقبل دخول الأفكار التي تؤيدها أو التي تنسجم معها ولا تخالفها .

 

" إن عدداً لا يحصى من البشر منذ العصور القديمة حتى العصور الحديثة , على استعداد لأن يعيشوا ويموتوا من أجل اقتناعاتهم , من أجل الأفكار – الأفكار التي يعتقدون أنها صحيحة . ويمكن القول إن الإنسان لا يبدو حيوانا عاقلاً أكثر منه حيوانا أيديولوجياً ."

 

إذاً الأفكار والمفاهيم والمعارف تتفاعل مع بعضها ضمن الدماغ , فتتطور وتتشكل أفكار جديدة , و تسعى للخروج من الدماغ الذي تكونت فيه والدخول إلى الأدمغة الأخرى .

 

وكما قلنا تتصارع هذه الكائنات الفكرية مع بعضها , وهي تشكل مجموعات - أحزاب - متعاونة مع بعضها, وتتصارع مع الأحزاب الأخرى . فيهزم بعضها , ويتراجع انتشار بعضها , ويزداد انتشار المنتصر . ويمكن أن تقضي على منافسها أو توقف انتشاره , وتموت مع موت الدماغ الحامل لها , ولكن يمكن أن يبقى نسخ منها في عقول أخرى . وهذا يشبه ما يحصل للغات عندما تنتشر أو تنحسر أو تموت , لأن اللغات هي  في أساسها صورة أو ممثل للبنيات الفكرية  .

 

إن الأفكار والعقائد والأحاسيس والانفعالات البشرية , تنتقل نتيجة العلاقات الاجتماعية , وبشكل خاص عن طريق العلاقات الأسرية , وبالذات عن طريق الأم , فللأم الدور الأكبر( بالإضافة للأب) في نقل البنيات الفكرية , وتنقل أيضاً التقييمات الأساسية التي تحدد المفيد أو الضار. فهي التي تعلم طفلها كيفية اختيار طعامه , وكيفية تعامله مع الأوضاع التي تصادفه . بتعليمه أسس تقييم هذه الأوضاع من ناحية فائدتها أو ضررها له . فهي بالإضافة لأفراد أسرته والمتعاملين معه , يزرعون في عقله أو يبرمجون عقله . فهم ينقلون له الأفكار والمعارف والعقائد والمشاعر ..., التي هم توارثوها أيضا من أسرهم و مجتمعهم .

 

صحيح أنه الآن يوجد الإعلام , الممثل بالمدارس وباقي طرق التعليم , بالإضافة إلى الراديو والتلفزيون وكافة وسائل الإعلام . وهي غالباً ما تساعد على توحيد ما يتم نشره في أغلب العقول . ولكن يبقى الكثير من الاختلافات التي ينشرها هذا الإعلام الموجه , مع ما يكتسب من الأسرة والمحيط القريب الموجود فيه الفرد.   

 

إن هذه الظاهرة هي من أهم أسباب الاختلافات والتناقضات الفكرية والعقائدية بين البشر , وذلك نتيجة توسع العلاقات البشرية لتشمل مجال واسع , من الجماعات مختلفة بالأفكار والعقائد والقيم, وهي التي تولد الآن أكثر الصراعات بين البشر.

 

فالبنيات الفكرية تتصارع مع بعضها , فكل بنية فكرية تسعى لكي تتوالد وتنتشر في العقول , وتسعى إلى منع غيرها من البنيات الفكرية من الانتشار في تلك العقول , وهي تدافع عن بقائها وانتشارها تجاه الأفكار الأخرى . وهي تستخدم في صراعها هذا كافة قدرات الإنسان الفكرية والمادية والاجتماعية والاقتصادية ...

 

والملاحظ  أن انتصار الأفكار وانتشارها في العقول , مرتبطة بالقدرات التي يملكها الذين يتبنوها ويدافعون عنها , وعددهم في المجتمع . وذلك بغض النظر عن صحة أو دقة  أو فائدة هذه الأفكار .

 

فإذا حدث جدال فكري ( أو صراع بين البنيات الفكرية) بين شخصين أو فريقين , فالنصر سوف يكون للذي يملك قدرات أكثر ويستخدمها في هذا الصراع , وسوف يكون لعدد أفراد الفريق تأثير كبير في تحقيق النصر . وذلك بغض النظر عن دقة أو فائدة الأفكار المنتصرة .

 

وهذا ينطبق على كافة أشكال البنيات الفكرية , إن كانت عملية , أو عقائدية , أو علمية ..... 

فالذي يقرر بقاء البنيات الفكرية , وانتشارها في أكبر كمية من عقول أفراد المجتمع , هو ما يلي :

1 – عدد الذين يتبنوها في المجتمع , فمهما كانت الأفكار دقيقة أو مفيدة ولكن الذين يتبنوها قلائل جداً , فهي لن تنتشر .

 

2 – ارتباطها مع بعضها ومع المنتشر في المجتمع , فكل الأفكار التي تناقض أو لا تنسجم مع ما هو موجود سوف تقاوم وتمنع من الانتشار , وبغض النظر عن دقتها أو فائدتها .

 

3 – كمية القدرات الفكرية والمادية والاجتماعية . . , التي يملكها من يدافع عنها ويسعى لانتشارها .

 

4 – توافقها مع الأوضاع والظروف المادية والاجتماعية والاقتصادية . . . , الموجودة في المجتمع . لذلك عندما تتغير الأوضاع والظروف , يصبح احتمال انتشار أفكار جديدة أكثر , لأن الأوضاع الجديدة تؤدي إلى ظهور ضعف وعدم جدوى الأفكار غير المفيدة المنتشرة في العقول . وهذا يساعد في نمو وانتشار الأفكار الأصح والأفضل , للأفراد وللمجتمع ككل .

 

إن هذه الكائنات الفكرية معنا منذ زمن وهم يقودوننا ويتحكمون بنا ويفرضون علينا تأثيراتهم وقواهم , وفي كافة مجالات حياتنا , صحيح إنهم لن يقضوا علينا , ويمكنهم أن يساعدوننا في كافة المجالات  , و يستطيعوا أن يساعدوننا في حل أهم مشكلة بالنسبة لنا وهي الموت ويستطيعوا أن يفتحون لنا الكثير من مجالات الوعي والإحساس , وكذلك ممكن أن يحدث العكس .

 

والدكتور المنصف المرزوقي يقول عن الكائنات الفكرية :

" إن الإيديولوجيا كائن حي بأتم معنى الكلمة . فالحياة ليست خصائص الكائنات البيولوجية فحسب , وإنما هي من خصائص الكائنات الفكرية أيضا .

والكائنات لا تموت بسهولة , وإنما تقضي جزءا هائلا من الحياة في محاولة يائسة للبقاء الدائم إذا أمكن .

 

لذلك سنرى أن كل إيديولوجيا تسخر كل ما يمكن تسخيره من ناس وفكر وعنف للسيطرة والديمومة , لكن قانون الكون الأول لا يسمح لأي حي بالخلود لأن قانونه هو التغير الدائم .

 

لذلك أقول أن على المرء أن لا يتعجل الطبخة وأن لا يحاول التصدي لها , فقوانين الكون الجبارة سارية المفعول على أجسامنا ومعتقداتنا مهما تشبثت بالحياة .

 

ومن ثمة , فإنني أجزم أن الصراع بين الأصالة والتفتح , الإيمان / والإلحاد , والعقل / النقل , والمعقول / و اللامعقول وسائر ما يطلق من التسميات لوصف بعض المضاعفات الفكرية والسياسية هنا وهناك الناتجة عن التطاحن التكنوإيديولوجي لحضارتين مختلفتين سيتواصل زمنا لا يمكن تحديده بالضبط وأن نفس العملية ستجدد على مر العصور كلما تغيرت المعطيات التكنولوجية , وأن قوى التحرر والاستبداد ستستمد دوما أسلحتها من هذا الصراع وتشارك فيه بهذه الأسلحة .

 

هل يعني هذا أننا مسيرون لا مخيرون لا من قبل قوة غيبية قاهرة ولكن من طرف قوة تكنولوجية , إيديولوجية . وأن علينا أن نكتفي بمحاولة الطفو على سطح هذا المحيط المضطرب الذي تتحرك في أعماقه طبقات جيولوجية جبارة لا قبل لنا بالتعرض لها , والقول أننا دورنا على تواضعه في دفع المشروع التحرري إلى الأمام يقتضي منا دوما أن نحاول إضافته إلى ما يغلى في قدر التاريخ دون أن نجزم بشيء .

 

يصبح السؤال عندئذ ما الذي يمكن أن نضيفه من تصورات وأفكار تكون في خدمة التحرر بعد أن اقتنعنا بالنصف الآخر للمعادلة أي ضرورة هضم البديل التكنولوجي والعمل دوما على تطويره ؟

 

لنركز من جديد على أن الثورة التكنولوجية تولد الثورة الإيديولوجية وتتولد عنها في إطار العلاقة الدائرية والترابط الوثيق الذي يجب أن لا نغفل عنه لحظة واحدة ."

 

يمكن اعتبار الإنسان , والبنيات الفكرية , والبنيات التكنولوجية الآن هم البنيات الأكثر تطوراً في هذا الكون , فهم على قمة سلسلة البنيات التي تشكلت حتى الآن .

 

فبنشوء الكائنات الفكرية المتطورة ودخولها في التفاعلات متبادلة مع البنيات التكنولوجية المتطورة والتي يتم نشوء المتطور منها باستمرار , وبمشاركة الإنسان وما يملك من دوافع وغايات ورغبات , صار كل منهم يساعد وينمي الآخرين , وتسارع نمو وتطور الثلاثة معاً , وهذا أحدث أو سوف يحدث قفزة في سلسلة تطور بنيات الوجود لا يمكن لنا تصور أبعادها .

 

فهذه القفزة يمكن تشبيه تأثيراتها , لا بانفجار "سوبر نوفا" بل بانفجار "كوزار" من حيث تأثيراتها الكبيرة , على سرعة تطور بنيات الوجود وتشكل البنيات الجديدة .

 

وبالنسبة لنا فالمستقبل سوف يكون مختلفاً وهائل الاختلاف عن كل ما يمكن أن نتوقع , وعلى كافة المستويات والمجالات , ولكن غالبيتنا لا تدرك ذلك وحتى أنها لا يمكن أن تتخيله .

 

 

 

المصادر

أسطورة الإطار ( في الدفاع عن العلم والعقلانية) تأليف  كارل ر . بوبر سلسلة عالم المعرفة العدد 292

 

سجن العقل  للدكتور المنصف المرزوقي

قوى الإقناع ** ديفيد ويلتش   ترجمة د. شعبان عبد العزيز عفيفي مجلة الثقافة العالمية العدد 100

تأملات في الحروب الثقافية ** يوجين جودهارت  ترجمة عاطف أحمد  مجلة الثقافة العالمية العدد 100

 

الدماغ والفكر**   .  تشالز  فيرست    ترجمة د. محمود سيد رصاص      دار المعرفة دمشق 1993

اللعبة والصفقة والوجبة  تأليف نبيل حاجي نائف     الناشر الأهالي للنشر والتوزيع   2005

الدماغ واللغة*    ر.ا. دماسيو ه. دماسيو مجلة العلوم الكويت م 10 عدد 5

 

2012-01-16
التعليقات