syria.jpg
مساهمات القراء
مقالات
العوالم الأربعة (1) ... بقلم : نبيل حاجي نائف

العوالم الأربعة

هناك أربع عوالم تختلف عن بعضها في عدة خصائص , وهذه العوالم :


العالم الأول :

هو العالم المادي الذي يعرفه الجميع وهو يضم الكون المادي كواكب وأقمار ونجوم ومجرات وكافة العناصر والقوى المادية , فيضم كل ما يوجد على الأرض من جبال وبحار وبركين وعواصف . . , ويضم كافة العناصر والمركبات الكيميائية وما ينتج عنها , ويشمل أيضاً كافة المنتجات المادية التي صنعها الإنسان أو الحيوان , وهذا العالم المادي أصبحنا الآن ندركه بشكل أوسع مما كان يدركه المفكرون والفلاسفة السابقين , فنحن الآن نعرّف العالم المادي الآن بالعالم الفيزيائي الذي يشمل المادة والطاقة معاً وأنه يمكن أن تتحول إحداهما إلى الأخرى .

 

العالم الثاني :

هو عالم الكائنات الحية أي كافة أشكال الحياة إن كانت نباتات أو حيوانات صغيرة أم كبيرة , ويشمل كافة خصائص هذه الكائنات , مثل الغرائز والعواطف ....., وكذلك المجتمعات أو البنيات التي تتكون من عدد من الكائنات الحية .

 

لقد كان جهد وفكر الإنسان الأول موجه نحو معرفة وفهم هذا العالم , وقد ميز عالم الكائنات الحية عن عالم المادة وكان يعتبر أن للكائنات الحية روح . وإن كان في كثير من الأحيان يتصور أشياء العالم المادي كأنها كائنات حية , أي كان يخلط بين العالمين المادي و الإحيائي .

 

العالم الثالث :

هو عالم الأفكار أو عالم الكائنات الفكرية وهو يشمل الأفكار التي تشكلت في عقول الكائنات الحية وبشكل خاص الإنسان , ويشمل أيضاً الأفكار والمعارف المتوضعة خارج العقول  في الكتب وغيرها .

 

هذا العالم لم يميزه الإنسان بوضوح إلا متأخراً . لقد ميز الإنسان خصائصه النفسية أو الروحية والفكرية عن باقي الموجودات وأعطى لنفسه خصائص شبيهة بخصائص الآلهة التي ابتدعها , ولاحظ أن هناك اختلاف جذري بينه وبن الكائنات الحية الأخرى , نتيجة امتلاكه تلك الخصائص , والآن بدأت تظهر بوضوح صفات وخصائص هذا العالم " عالم الفكر" .

 

ويمكننا إضافة عالم رابع :

وهو عالم التكنولوجيا , و يضم كافة أشكال المنجزات البشرية المادية المصنوعة , من الفأس والسكين والمحراث إلى المحطات الفضائية . . . , والكومبيوترات و روبوتات . . .  , ومنجزات الثورة البيولوجية , وكافة المنجزات الحضارية من منشآت ومؤسسات وبنيات اجتماعية .

 

وهناك تأثيرات متبادلة بين هذه العوالم الأربعة تؤدي لنشوء أشياء وبنيات جديدة لا مثيل لها ولا يمكن أن تخطر على فكر .

هل يمكن أن يتوقع أو يصدق إنسان عاش قبل 1500 سنة إلى أين وصلنا الآن ؟

 

وكذلك لا يمكننا أن نتصور ما سيحدث بعد بضع مئات من السنين .

لقد نظر " كارل بوبر" إلى هذا الوجود بوصفه مكوناً من أربع عوالم وتداخلاتها وعلاقاتها وهذه العوالم الثلاث هي :

العالم الأول : هو العالم الفيزيقي المادي .

والعالم الثاني : هو عالم الكائنات الحية

 

والعالم الثالث : هو عالم الوعي والشعور والمعتقدات والميول النفسية أي العالم الذاتي .

والعالم الرابع : هو عالم الفكر والفلسفة والعلم والفن والنظم السياسية والتقاليد والأعراف والقيم . . . إنه العالم المحتوى في الكتب والمتاحف والكومبيوتر . . , فهو باختصار عالم الحضارة الإنسانية , وأهم مكوناته اللغة .

 

لقد ميز بوبر بين جزأين من عالم الفكر وجعلهم عالمين , وفي رأيي هذا غير ضروري ,, وكان تركيزه على عالم الفكر

– بعكس برغسون الذي ركز مجهوده على عالم الكائنات الحية - .

 

وقال أن من المهام الأساسية للعقل البشري أن يجعل العالم الذي نحيا فيه مفهوماً لنا , وتلك هي مهمة العلم أيضاً وفي هذا المشروع ثمة عنصران مكونان مختلفان وعلى قدم المساواة من الأهمية .

 

العنصر المكون الأول :

هو الإبداعية الشعرية , أي سرد الأقصوصة أو نسج الأسطورة : ابتداع الأقاصيص التي تفسر العالم , والسعي لوضع أو تخيل سيناريو لما حدث في الماضي وما سوف يحدث في المستقبل , ومحاولة تفهم العالم , وحياة الإنسان وموته .

 

إن الأهمية القصوى لهذا العنصر المكون الأول , والذي كان قديماً قدم اللغة البشرية ذاتها . ويبدو أنه مبدأ عمومي : كل القبائل وكل الشعوب لها مثل هذه الأقاصيص التفسيرية , ويبدو أن ابتداع التفسيرات والأقاصيص التفسيرية إحدى الوظائف الأساسية التي اضطلعت بها اللغة البشرية .

 

أما العنصر المكون الثاني :

فهو العقلانية فذو تاريخ حديث نسبياً وهو نشأ عندما سعى الإنسان لكشف البنيات المحددة والثابتة , المضمرة في الوجود , وبناء النظريات التي تفسر صيرورة حوادث الوجود , وتمثيلها ببنيات لغوية فكرية أو مفاهيم يتم تداولها بين الناس .

 

وهنا نجد ضرورة الاتفاق على هذه النظريات وتوحيدها , لتحقيق تعامل الجميع بها , وإلى ضرورة أن تكون هذه لها درجة تطابق عالية مع الواقع لكي تحقق الغاية منها .

 

إن النظريات مهمة ولا غناء عنها لأننا من دونها لن نستطيع أن نعيش , وحتى ملاحظاتنا يتم تأويلها بمعونة هذه النظريات .

 

  عالم الفكر

إن عالم الفكر أو عالم البنيات الفكرية هو الأفكار والمفاهيم والمعارف والإبداعات الفكرية والفنية , ويضم الفلسفة و المنطق والعقائد و غالبية الفنون و كافة العلوم , وهو عالم موازي العالم الواقعي المادي ومنبثق عنه , ولكنه له عناصره و قوانينه و آلياته و خصائصه التي تختلف عن العالم المادي الفيزيائي اختلافات هامة , منها أن عالم الفكر لا يخضع للقوانين الفيزيائية و الطبيعية المادية بشكل كامل , فالمكان و الزمان , و كذلك التفاعلات يمكن أن تجري فيه بطريقة مختلفة و حسب آليات و قوانين مختلفة عن التي في العالم     المادي .

 

ففي عالم الفكر يمكن السير عبر الزمن ذهاباً وإياباً , إلى الماضي أو إلى المستقبل وبذلك يمكن السير بسرعة أكبر من سرعة الضوء , ويمكن إجراء تفاعلات كثيرة لا يمكن أن تجرى في الواقع الفيزيائي .

 

إن هذا يجعل عالم الفكر أوسع و أشمل و صيرورته أسرع من العالم المادي بكثير

 

ففي عالم الفكر يمكن التحرر من أسر الواقع المادي وتفاعلاته المحدودة بالمكان و الزمان و القوانين الفيزيائية , والانطلاق عبر الزمان ( عبر التاريخ ) و القيام بتفاعلات وتجارب فكرية يستحيل إجراؤها مادياً أو واقعياً .

 

والتفاعلات الفكرية يمكنها أن تستبق تفاعلات الواقع الفيزيائي بواسطة التنبؤات و التصورات أو التخيلات المرتكزة على العلوم الوضعية والواسعة والمتطورة .

 

و إمكانيات عالم الفكر في المساعدة في تحقيق الأهداف و الغايات و المشاريع و الدوافع الفردية و الجماعية هائلة جداَ , مثال : الفكر الديني و هو جزء من عالم الفكر , يقوم بدور كبير و فعَال للكثير من الناس .

و وجودنا , هو وعينا , وهو موجود في عالم الفكر .أي نحن كشعور ووعي موجودين في عالم الفكر فقط .

 

الكائنات الفكرية أو الأفكار  

إن الكائنات الفكرية أو البنيات الفكرية هي : بنيات غير مادية والأفكار هي شكل متطور من أشكال الكائنات الفكرية , وهي تكون عالم الفكر.

مثلما نشأت الكائنات الحية من العناصر والمركبات الكيميائية بعد أن تفاعلت حسب القوى والآليات الموجودة , كذلك نشأت الكائنات الفكرية في الأجهزة العصبية لدى الكائنات الحية . وكان نشوؤها متسلسل ومتطور , إلى أن وصلت إلى ما هي عليه لدينا في الوقت الحاضر

فالكائنات الفكرية تتكون في أول الأمر - أوفي شكلها الخام - في الجهاز العصبي من السيالات العصبية الكهربائية الواردة من المستقبلات الحسية .

فالمتقبلات الحسية بكافة أشكالها  تحول - أو ترمز -  بعض أنواع التأثيرات الفيزيائية - ضوئية , صوتية , حرارية , ميكانيكية , كيميائية , إلى نبضات عصبية كهربائية على شكل سيالات كهربائية عصبية , ترسل إلى الدماغ الذي يقوم بتقييمها وتصنيفها بناءً على نتائج تأثيراتها على الجسم , إن كانت مفيدة أو ضارة أو محايدة , ثم يقوم بالاستجابة بناءً على ذلك . 

 

لقد كانت هذه البنيات بمثابة وسيلة إعلامية , وكذلك وسيلة تنفيذية تقوم بالاستجابات أن كانت استجابات كيميائية فزيولوجية , أو حركية , وتطورت ليصبح جزء منها حسي واعي .

 

ولدى الإنسان الذي يعيش في مجتمع تطورت هذه البنيات الفكرية العصبية , فترابطت سلاسل لتشكل  بنية فكرية متطورة - العقائد والفلسفات والعلوم . . . - .

 

لقد حدثت قفزة كبيرة عندما مثلت بعض البنيات الفكرية بإشارات - أصوات وتعبيرات وحركات تدل عليها , وهذا أدى لنشوء البنيات اللغوية . فهذه الدلالات - أو البنيات اللغوية الفيزيائية - عادت ودخلت إلى الدماغ  كمدخلات حسية , و تحولت من جديد  لبنيات فكرية خام وأصبحت بنيات فكرية دلالية أو لغوية , فهي ترمز أفكار تم إرسالها من إنسان لأخر .

 

وبذلك نشأت وسيلة تستطيع بها هذه البنيات الفكرية الخروج من الدماغ أو العقل الذي نشأت فيه الانتقال إلى دماغ أو عقل آخر , أي نشأت وسيلة  للتواصل بين الناس .

 

وهذا يتم بعد أن تتحول البنيات الفكرية اللغوية إلى بنيات فيزيائية لغوية دلالية - مؤثرات فيزيائية إشارات وأصوات وحركات وإيماءات -  فإذا تلقتها حواس إنسان آخر يمكن أن تصل إلى دماغه وتتحول إلى بنيات فكرية لغوية ثم إلى بنيات فكرية , هذا إذا تم فك رموزها .

 

و بهذا استطاعت البنيات الفكرية أن تنتقل من دماغ إنسان إلى أخر , وتصبح مهيأة لكي تتوضع فيه . أي يمكن أن تتحول البنيات الفيزيائية الدلالية أو اللغوية , إلى بنيات فكرية عصبية , وتتوضع في دماغ المتلقي - وكانت هناك أفكار كثيرة بقيت في عقول صانعيها ولم تخرج وماتت معهم - , وهذا لا يحدث إلا إذا وجدت بيئة مناسبة لها , فيجب أن تنسجم وتتوافق مع البنيات الموجودة , ولا تناقضها .

 

هذا إذا تم فهمها - أي تم تمثيلها ببنيات فكرية مناسبة - , وليس ضرورياً أن تكون  البنية الفكرية المتكونة مطابقة للأصل الذي كانت عليه في دماغ المرسل , أي يعاد تشكيلها حسب قدرات وخصائص الدماغ المتلقي  لذلك هي غالباً ما تتعرض للتعديل والتغير عندما تنسخ في عقل المتلقي .

إن الأفكار تنتقل من عقل إلى آخر , فيتم نسخها وانتشارها في أدمغة الكائنات الحية المتطورة وليس الإنسان فقط  , وهذا يشبه توالد وانتشار البنيات الحية التي تنسخ وتنتشر بالتوالد .

 

وكذلك تتطور الأفكار وتنشأ أفكار جديدة مثلما تتطور وتنشأ البنيات الحية , والأفكار تولد وتموت مثل الكائنات الحية , والأفكار تدافع عن نفسها وتحافظ عليها .

 

ويمكن تشبيه الأفكار أيضاً بالجينات أو الفيروسات , فهي تنتقل من عقل لآخر , كما تنتقل الفيروسات من جسم لآخر .

وكما ذكرنا , لكي تنتقل وتنسخ وتنتشر الأفكار في العقول لابد من توفر عوامل وظروف معينة  

 وأهم هذه العوامل هي :

 

أولاً : الاتصال بين العقول , وذلك بحدوث النقل والتلقي أو التواصل , وبالتالي التوضع أو التخزين , وذلك بوجود أي نوع من اللغة -  إشارات شمية , أو أشارات بصرية , أو إشارات صوتية . ., بالإضافة إلى جاهزية الحواس والعقل , للتواصل والتلقي المناسب .

 

ثانياً : عدم وجود ما يمنع من تبني الأفكار, فوجود أفكار سابقة يؤثر على الانتقال والتبني للأفكار. وكذلك عدم جدوى هذه الأفكار  .

 

ثالثاً : المحاكاة والتقليد والتي تملكها غالبة الكائنات الحية , تؤثر بشكل كبير على انتشار الأفكار لدينا.

 

2012-01-12
التعليقات