حسب شكسبير: إن ما يجمع بين الشاعر والعاشق والمجنون، هو الخيال. ولعل (الخيال) الذي يقصده شكسبير في قوله هنا، هو ذلك الخيال الإبداعي، الخيال المبدع.. وربما الإبداع عينه.
وحسب عبد الكريم الناعم: إن الإبداع بعامة، هو ابن الزمان والمكان. حتى الذي يبدو أنه ابن الأزمنة كلها، بحكم حمولته الإنسانية الرائعة، أو بحكم ما فيه من جماليات. هو مولود في زمن محدد، ولاشك أنه قد تأثر بزمنه، وأثر فيه.
هل من كتابة أو إبداع ما، يرتفع اليوم إلى مستوى الخراب والتدمير الذي يستنزف سورية وطناً ومواطناً، روحاً وجسداً.
بل هل من كلام يترجم دموع الثكالى وجزع الأطفال وحزن الأمهات؟
ثم هل (المواكبة) هي خاصية تقتصر على (المناشط) التسجيلية والتوثيقية فقط.. تلك المناشط التي تتصف بالسرعة والانفعالية والانطباع الأولي والنظرة الأحادية؟
وأخيراً، هل يسعف الإبداع، شعراً كان، نثراً، سرداً؛ موسيقاً، أم رسماً، ملاقط التثبيت لدى المبدعين لحظة اللمع في بوتقة الإلهام.
أم الأمر يحتاج للفلش والتنشيف والتبريد؟
لقد كان الإبداع وما برح، مكمن أسرارٍ ومجمع أسئلة، من حيث أصله وفصله؟.. مسبباته ودوافعه؟.. ماهيته وكنهه.. وقته وزمنه؟
ولئن كان كلٌّ من الأسئلة السابقة يستغرق بحوثاً ودراسات، فحسبنا هنا أن نضيء سؤالاً واحداً من الأسئلة الآنفة: إلى أي حدّ يمكن لتاريخ ولادة إبداع ما، أن يتقارب مع تاريخ محرضاته؟
أفضِّلُ كتابة الفكرة بعد الحدث مباشرة كيلا تهرب مني.
الروائية: نجاح إبراهيم
بالنسبة إلي أحاول عادة التقاط الَّلمْعِ العام للفكرة بأضوائه الأولية، وتثبيتها على جسد الورق، كي أخفف ما استطعت، من احتمال ضياعها أو هروبها من على شاشة ذاكرتي، المزحومة بأضواء وظلال الفِكْر والأفكار.
لكن هذا لا يعني بالضرورة ودائماً، أن يكون التثبيت بشكله النهائي، وفور ورود اللَّمْعِ. هذا من ناحية، ولا أنها ستثبت خالصة ومنتهية تماماً، من ناحية أخرى. كما أن لنوعية أو جنس الإبداع دور في العملية. ففي الشِعر مثلاً، قد يتطابق زمن ولادة القصيدة مع زمن حدوث مسبباتها. بمعنى أنه بإمكانك كشاعر أن تتأثر عميقاً بلقاء إحداهن، فتتولد لديك قصيدة تلقائية أثناء اللقاء نفسه. في حين يختلف الأمر، عندما تريد كتابة رواية عن الأحداث المأسوية التي يتعرض لها بلدك. عندئذٍ قد تحتاج إلى شهور وسنين بعد الأحداث، كي تتركز لديك الخطوط الرئيسية التي ستتمحور عليها الرواية. وإلى شهور أو سنين أخرى، كي تجهزها. فالرواية لدى (ماركيز) مثلاً، تحتاج بعد اكتمال أسبابها إلى ما لا يقل عن خمس سنوات من أجل كتابتها. في حين لم تحتمل رواية (امرأة من طابقين) سوى يومين اثنين حتى كانت مكتوبة حسبما قالت صاحبتها. وهكذا مثلما ترى، يختلف الأمر حسب نوع الإبداع وعوامله المسببة. ناهيك باختلافه من مبدع إلى آخر.. بل ولدى المبدع الواحد، حسب مزاجيته التي قد تختلف أيضاً من إبداع إلى آخر.
المبدع السوري لا يقرأ ما يجري حوله
الأديب: علي الراعي
إذا لم يترافق الإبداع مع زمن أسبابه، إذاً ثمة مشكلة والتباس ما بالتأكيد، وإذا لم يكن الإبداع -وربما ليس مطلوباً منه أن يكون - توثيقياً، غير أن على المبدع أن يقرأ ما حوله، ويعبّر عنه من خلال مجاله الإبداعي. سواء في القصة أم في الشعر والرواية، أم في أشكال والأجناس الإبداعية الأخرى.
لابد للمبدع من قراءة ما يجري حوله، وإلاّ كان هذا المبدع بلا إحساس، وأرى أن المبدع السوري متخلف كثيراً وبعيد جداً عن قراءة ما يجري حوله، وأرى أيضاً أن الفن التشكيلي كان الأسبق - كما دائماً - في التقاط الحدث والوجع، كما أرى أيضاً أن الأغنية السورية كانت الأسرع والأصدق في مقاربة (زمن أسبابها). وعلى ما يبدو أن (انتهازية) ونفاقاً ما، يعيشه الروائي السوري، وكذلك الشاعر والقاص وغيره.. نفاقاً فرض على هذا المبدع أن يراوح طويلاً في المرحلة الرمادية، حتى تتكشف له الأمور إلى أي الجهات ستنفرج أم ستنفجر..! إلاّ القليل من الذين حسموا أمرهم، وانحازوا لضفة ما. لكن لم يكن الإبداع سبب انحيازهم، وإنما المصالح الشخصية لهذا المبدع أو ذاك، ممّن ربما كانوا هم أنفسهم، شركاء في صناعة الحدث أو الوجع السوري؟
بقدر ما يكون المبدع واعياً تجربته
الأديبة: رولا حسن
أعتقد أنه.. بقدر ما يكون المبدع واعياً لتجربته التي هي بشكل ما صورة حية لتجربته مع حيز من الوجود يكون زمن الإبداع متطابقاً مع زمن محرضاته.. وبقدر ما يستطيع المبدع أن يكون متصالحاً مع ما يكتب.. بعيداً عن أية حالة فصام ثقافية بحيث لا يبدو المنتج الإبداعي من عالم والمبدع من عالم آخر.. ولن تكون هناك تجربة جمالية أصلاً إلا في حالة تطابق الذات مع الموضوع في وحدة حية ملموسة.
وللأسف قلائل من مبدعينا استطاعوا تجنب حالة الفصام هذه.. والخروج من دائرتها.. نحو أفق أوسع وأشمل.
لا أنكر أن أي عمل إبداعي.. هو عبارة عن تناقضات عديدة ومتباينة داخل النفس البشرية وترجمة ثقافية لمجتمع ما.. خلال أزمنة معيّنة.. وبقدر ما يكون المبدع قادراً على نقل هذه التناقضات.. بتفاصيلها وتكون صادقة في الترجمة الثقافية لمجتمعه.. بقدر ما يصير التماس واضحاً بين هذين الزمنين زمن الإبداع.. وزمن محرضاته فهل نحن الآن قادرون على عمل كهذا؟
الإبداع: ثمرة.. نتيجة.. وتتويج
الكاتبة: مناة الخير
بداية لا أرى هناك تطابقاً ضرورياً، بين زمن ولادة المنتَج الإبداعي، وبين وقت حدوث دافعه أو مسببه.وغالباً ما يحتاج المبدع إلى زمن ووقت ما - يطول أو يقصر - بعد حدوث الأثر في نفسه، كي يختمر الإبداع المزمع ويكتمل ويتّخذ شكله النهائي.
كثيراً ما أسمي المنتج الإبداعي أو لنقل القصيدة، كوني أحياها أكثر من غيرها (بالمولود) الذي يمر بمراحل عدة قبل أن ترى عيناه النور ونسمع صرخته الأولى.
الشعر أو ربما سائر أنواع الإبداع، هو حالة انفعالية، صحيح أنها تولد بلحظة معينة مكتملة أو شبه مكتملة، لكنها مع ذلك، تنتمي إلى أساس وجذر، وحتى إلى شبه وجود أو وجود إبداع بصيغة ما، داخل المبدع. ربما تكون في لا وعيه موجودة منذ فترة، وما لحظة ولادتها المعروفة، سوى تتويج لوجودها السابق. ولعل للمعرفة، بعامة، وللثقافة، إضافة إلى المران الذي يمتلكه المبدع، دوراً لا يستهان به في بلورة الموهبة، وتسريع ولادة الإبداع أو تتويجه.
ليس ضروريّاً ارتباط الإبداع بتجربة
المسرحي: جوان جان
ليس ضرورياً ارتباط النتاج الإبداعي بتجارب فردية يمر بها المبدع، أو جماعية كالمنعطفات التاريخية التي تؤثِّر على المبدع سلباً فينزوي إبداعاً، أو إيجاباً فينطلق قارب إبداعه مبحراً في عوالم نتائجها غالباً ما تكون مقبولة عند المبدع والمتلقي، باعتبار أن المبدع لا يكتفي بدور المتأثر بالحدث بل والمؤثر أيضاً.
المبدع العربي اليوم مطالب بأن يقوم بدوره فيما يشهده العالم العربي من أحداث تختلف ظروفها بين بلد إلى آخر، وما يمكن أن نلمسه على الساحة السورية قيام العديد من مبدعينا باتخاذ مواقف مسؤولة قبل أن تتجلى هذه المواقف إبداعاً على الورق من شأن الأخذ بها تجنيب البلد ما يريده له أعداؤه.
من الإبداعات ما يحتاج تأملاً طويلاً قبل البدء به
النحات: شفيق نوفل
للمآسي والحروب والكوارث أثرها الأكبر والأوجع، وبالتالي الأعمق، في نفس الفنان والمبدع، مقارنة مع الأفراح والاحتفالات.
وهناك من الأعمال الإبداعية، ما يتطلّب وقتاً طويلاً للتأمل والتفكير والتخمير قبل الشروع بتنفيذه، وأعمال أخرى ربما يباشر بها الفنان فور تأثره بالمسبب أو المحرّض. غير أن ذلك لا يعفي الأديب أو النحات أو المبدع بشكل عام من دفع ضريبة موهبته ـ إن صح التعبير ـ وهو التحرك والمحاولة والفعل قبل سواه، للوقوف في وجه الظلم والظُلّام والاعتداء والمعتدين، وكل مَنْ وما مِنْ شأنه تحقير إنسانية الإنسان أو إذلالها أو تشويهها.
لجنس الإبداع وطبيعة المحرِّض وطبع المبدع
أثره على تزامن ولادة المادة الإبداعية مع مسبباتها
الناقد: عادل الفريجات
حين تستثار الموهبة الإبداعية لسبب أو لآخر، يتجسَّد الجنس المبدع في الوقت ذاته، وقصائد الرثاء خير شاهد على ذلك، فموت مفاجئ لعزيز قد يفجِّر نبعة الإبداع في الحال عند مبدع بعينه. وقد يلجم أحياناً هول المفاجأة وشدّة وقع المصاب لسان المبدع فيتأخر نتاجه القولي سواء كان شعراً أم رواية أم غير ذلك.
وفي تاريخ الإبداع أمثلة على مبدعين اختمرت لديهم التجربة بعد أن حُرِّضت الذات المبدعة بزمن، وبعد أن بردت المشاعر، وارتكس الانفعال. وعندما مرَّ الوقت راجعت الذات ذاتها، وأسفرت عن أثر فني بديع وأخَّاذ.
وربما كان للجنس الأدبي تأثير في هذا الباب فقول الشعر عند الشعراء قد ينبجس حال توفّر المحرض، أما كتابة الرواية، فقد تحتاج إلى اختمار وتمثّل واستيعاب حتى تنضج ثم تُنْتَج.
وحتى هذا الشأن لا يحدث في جميع الحالات، ففي شعرنا القديم ورثنا ما يسمَّى بالحوليات أي القصائد التي استغرق نظمها حولاً كاملاً، وهذا يدفع قول من قال إن مولدَيْ المحرض والأثر الإبداعي متزامنان.
ختاماً: لكأن قدر الإبداع البقاء على الدوام مُشاكلاً، وذلك ليس فقط لجهة تشاكله مع الجنون كما يرى شكسبير، أو تشاكل زمن الإبداع وموضوعه الذاتيين مع عموم الأزمنة وسائر الإنسانية، كما يرى عبد الكريم الناعم وإنما لجهة درجة تقارب زمن ولادته مع زمن محرّضه. فمنهم من يقول بتطابق الزمنين، كما رأينا في استطلاعنا الراهن... ومنهم من يقول بتقاربهما.. ومنهن ومنهم من يؤكد تباعدهما لصالح اختمار الفكرة وتقطير الصياغة.