ليست مدخنة لمصنع ولا لمنجم , ولا هي صاروخ عابر للقارات , وليس منها أي فائدة تذكر , وضررها أكثر من أن يحصى , و أول من ابتكرها طبيب , ومنشأها بلاد الأعاجيب وهي بلاد السند والهند , إنها بكل بساطة تلك الآلة العابثة الأركيلة .
فالأركيلة تبدو لك من بعيد تقف شامخة كالطود العظيم , ملتهبة الرأس و يخرج منها الدخان فتكاد تشعرك بقرب انفجارها وتناثر أتون حممها , وكأنها تحمل في داخلها ما يكاد يفصح عن ذاتها من الغيظ و الحقد .
و لو أننا نحن دلفنا إلى داخلها لنتقصّى الخبر عن مكنونها , لعرفنا بالبداهة أن ما فيها ليس إلا لظىً من حمى إحراق ذاتها , ينفرج عنها فقاعات هواء من العنجهية الفارغة التي لا تغني عن نفسها ولا عن صاحبها شيئاً .
و صلة الوصل بين الأركيلة وصاحبها خرطوم طويل ينقل له ما تمخض من حقدها مستمتعاً بفتكها , فتصل بدخانها إلى شعب الهواء بجوار القلب , لتجري سمومها في الدماء حتى تخالط الحشا , فلا تبقي ولا تذر , كمثل الشيطان كما أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى فضيقوا مجاريه بذكر الله ) .
ذلك ما كان من الشيطان أما بالنسبة للأركيلة فلا تقلق عليها فإنها أشفى غلاً من الشيطان , فهي ترى في تضييق مجاري الدم لديك عربوناً للصداقة معها , و السرطان مكافأة لك على مساهرتها , فتتركك صديقاً للأدواء و محجة للأطباء , ويؤول الأمر إلى الندم حيث لا ينفع الندم , ولما تُسْلِم الأنفاس تتحول هي بالوراثة إلى غيرك ليتنفس شذا عبيرها ويقع من جديد في بر اثنها .
وأما ما يخص صاحبها فالأمر أفدح وأجلّ , فلا ترى مُجَالِسَها إلا مثالاً جلياً للعبودية والرق بين هذه الآلة العابثة بينه .
فتراه جالساً يحتضنها في وقار وسكينة فيها الكثير من التقديس , تنظر عيناه إلى البعيد في تأمل مهيب , كأنه يعاين الملكوت الأعلى بقلبه وجوارحه , فلا يرى فيما يحيط به شيئاً أجمل مما يعاينه من الهيبة والجلال , بينما هو لا يدري بأنها أزرت به و أهبطته إلى مدارك الانحطاط في الفكر , جاعلة فهمه و مداركه رهينة آلة حبكها له صبي صغير , جعل مفردات لغته التي يخاطبه بها الحجر و الفحم و المعسّل ( تفاح ..... أناناس ..... فريز ) .
وتراه يستيقظ بين الفينة والأخرى لثوانٍ يلتقط فيها أنفاسه مخرجاً سحابتين من الدخان من فتحتي الأنف يستعيض عنهما بسحابة أخرى من الفم في إصرار عجيب على أن يبقى جوفه عابقاً بهذا الدخان الذي ترتشفه جوارحه بلذة قل نظيرها .
في هذا الجو المفعم بالدخان تندثر الأيديولوجيات وتنحدر لغة التخاطب و تصبح الشهادات العليا التي يحملها صاحبها مجرد ورقة يمكن حتى لشهادة السواقة أن تضاهيها .
وما يجعل المرء يشعر بفداحة الكارثة رؤية النساء وقد أصبحن من رواد هذه البدعة وكأنّهن يعلن مساواتهن مع الرجال ولكن بطريقة شنيعة ومؤذية , فترى الأمهات في المطاعم و قد جلسن في وقار مصطنع , يتناولن خرطوم الأركيلة بكل ثقة ,وينفثن الدخان حولهن بحرفية تدل على إدمانهن عليها , و لكن ما يدمي القلب ويلهب الجوارح في نفس الوقت رؤية أبنائهن من الشباب الصغار في مقتبل العمر يجلسون بين أيديهن محدقين بهن , فيصبح الأمر لديهم مع الوقت معتاداً ومألوفاً لا غرابة فيه , متناسيات أن أولئك الأبناء لا يرون الدنيا إلا من خلال أعينيهن , فهن قدوة لهم ويالها من قدوة !!!! , فبأي منطق أو حق يمكن أن يمنعن أبنائهن أو بناتهن يوماً من التدخين سراً كان أم جهراً .
فلا عجب يا صاحبي أن ترى الصغار الذين ينتعلون الأركيلة في النوادي ينتشرون كالنار في الهشيم بلا رادع أو حسيب , فيخالجك شعور بأنهم سيكونون نواة لمشكلة معقدة ما تنتظر المجتمع على ما فيه من المشاكل المعقدة أصلاً .
كانت الأركيلة حتى وقت ليس ببعيد شيئاً من الماضي اندثر مع حكايات الجن والعفاريت و أبو زيد الهلالي , و لكن أن تعود في القرن الواحد والعشرين و بهذا الزخم ليعتبر إشارة إلى انهيار ما قد حصل ولم نشعر به , فهل يمكن لانهيار ما أن يحصل دون أن نشعر به ؟
نعم و ألف نعم فانهيار القيم التي تعتبر إحدى الركائز الأساسية التي يقف عليها مصير المجتمعات الإنسانية جميعاً هو الذي حصل و لم نشعر به .
وأجمل ما قرأت من الشعر في هذا الموضوع هذه الأبيات للشاعر عبد الوهاب نشار :
أصديقٌ أنتِ أشــاهدهُ فصداكِ حشاي تردّده
أم بركانٌ تضطرم النا رُ بأعــــــلاه فتصعّده
والماء بجوفك مسكنه يعليه الجمر ويُرْقـِــده
برع الهنــــدي بمخترع قد أفقرني شُلَّت يده
يا بنت الهند كفى صلفاً فدخانك قلبي مَصعده
أحرقـــــتِ فؤاداً مكتئباً لو غيرك كانت تُسعِده
إبليسُ أبوك وهل شكٌّ ؟ والنار برأسك مقعده
علًمني حبـــُّـك معتوهٌ أرداهُ الله وأبعــَــــده
ليس غريب عليك يا دكتور احمد الابداع ابداً لقد اجدت عزيزي وصديق الطفولة بما نثرته على مسامعنا وفقك الله وسدد خطاك
ما أقبح هذه العادة وأكثر ما أستغربه هو رؤية الصبايا والنساء وخاصة المحجبات منهن وهنّ يمسكن بنربيش الاركيلة في المقاهي بحركة (سوقية) بشعة ويضعونه في أفواههن..ناهيك عمّا ذكرته من الانتحار البطيء.والانكى أنك مهما حاولت أن تقنع أحداً من هؤلاء المدمنين أن صحته ستتدهور شيئا فشيئا لا يسمع ولا يريد أن يسمع وعندما تشتكي من دخان هؤلاء المدخنين تظهر بمظهر من يكبت حريات الناس فهم لايمكن أن يقتنعوا بأن أحداً يمكن أن ينزعج من سموم أركيلتهم. ولله في خلقه شؤون.
مقالة رائعة بالفعل,بس مين سمعك,هلا بيطلعلك الف واحد بيتهمك بالتخلف لانك عم تتعدى عالحرية الشخصية,المشكلة عنا انو مفهومالحضارة صار مرتبط بالتدخين,والسينما والتلفزيون عم يساهموا بها الشي وخاصة مسلسلاتنا,بتلاقي المسلسل بورجيك انو يلي باركل هوجنتل وكتير كلاس (متل ما بقولوها الصبايا)ومحشي مصاري,لذلك للاسف صارت اول دحشة للاركيلة او السيكارة بالتم وبعدها اول نفخة دخان بريستيج ضروري للشب للظهور بمظهرالجنتل مان قدام الناس وخاصة البنات.واتطور الموضوع لوصل كمان للنسوان متل ما ذكرت حسب حق المساواة,تحياتي
التبغ يرفد خزينة الدولة يجادلك في ذلك أحدهم، ولكن ماذا عن ضحايا هذا التبغ؟ أليسوا عبئا على الدولة؟ ماذا عن أمة مدخنة يفتتها المرض والوهن؟ ألن تضيع منها أضعاف أرباح التبغ؟ ألن تنفق الأمة أضعاف هذا الربح على الطبابة؟ وهل لم تحارب الصين بالأفيون؟ من كان يخشى نهضة التنين الصيني؟
إحكو سياسة , إقتصاد , رياضة , مولاة أو معارضة .... بس ما تجيبو سيرة الأركيلة بالعاطل .. بكفي انو المعسل مضروب اللي عم بيجينا ومع ذلك ساكتين وما عم منطلع مظاهرات. مع الشكر لصاحب المقالة لك عم نمزح معك لا تزعل وفي مثل بقول : أركل عليها تنجلي
في شي عم يقتلنا كل يوم وكل ساعة اكتر من الاركيلة بالف مرة .. فاذا عملنا نفسين اركيلة كل فترة والتانية ما رح تقتلنا...
جزاك الله خيرا على هذه النصيحة المصاغة بطريقة رائعة ، مع العلم أنني من المدخنين للأركيلة إلا أنني أقول لك : بعد مقالتك سأحاول الإقلاع جديا عن هذه العادة