أسمع صوتا يناديني ..صوت لا يسمعه أحد غيري .. صوت غير مفهوم لغويا و لكن له معنى ..إنها الساعة السابعة مساءاً إنه موعد القهوة قرب الحديقة ..عجيب هذا المشروب يقولون في التلفاز أن فيه مادة تسبب الإدمان تدعى كافيين .. كلام منطقي و لكن أعتقد أن الموضوع أخطر من ذالك ..
مدينتي تتميز باحترامها لسكانها , هل تعلمون أنه لا يوجد و لا متر مربع واحد مخالفات في مدينتي ؟ نعم إنها حقيقة , و مدينتي أيضا هي متحف واسع , عندما تتجول فيها تشعر بأنك في آلة الزمن , هناك معالم تشهد على كل حقبة زمنية و لكن المعلم الأساسي هو البحر .. الأجواء الفينيقية حاضرة دائما كحضور البحر على شاطئ المدينة ..حقب تمضي و قرون تمر و يبقى الفينيقيون قاطنين للمدينة لم يستطع أحد طمس أجواءهم , إنهم في كل مكان ...
يتصاعد ذالك النداء الداخلي..يبدو أنه علي أن أصطحب مشغل الوسائط الذي يعمل على بطارية جافة لأستمع لبعض الأغاني أثناء نزهة القهوة ....عند سياج الحديقة القريبة عادة يتواجد بائع قهوة على ناصية الطريق , وأحياناً لا يكون موجوداً . مما يعني كارثة حقيقية ..عندما أطل على الحديقة من بعيد يكون اهتمامي مركزاً على وجوده ..أول شيء رأيته هو انعكاس الضوء على دراجته الهوائية ..لا أعرف لماذا دائماً أرى دراجته المحملة بالقهوة الساخنة قبل أن أرى أي شيء آخر , لعل عقلي الباطني مهتم فقط بالقهوة و ليس أي شيء آخر ..و قد يكون حسر البصر بمقدار درجة وربع ( على ذمة الدكتور هائل ) لا يجعلني أرى جيداً من بعيد ...
الآن أستطيع أن أتمشى حول الحديقة بارتياح ,فالقهوة موجودة و الحمد لله ,كل ما علي فعله هو المشي السريع بضع دورات حول سور الحديقة لأحصل على دفء ذاتي ..من قال أننا بحاجة للمازوت لنحصل على الدفء مع العلم أن المادة على فكرة متوفرة بكثرة و لكن هناك مشكلة صغيرة في التوزيع ..هكذا قالوا لنا على شاشات التلفاز ....
" دع حبك يتدفق " لست أنا أقول ذالك , إنها الأغنية التي تتسرب إلى أذني من خلال سماعات الأذن .. دع حبك يتدفق كينبوع جبلي ...أغنية جميلة لفرقة اشتهرت في السبعينات اسمهاBELLAMY BROTHERS قد يكون الاسم ثقيل لفظا ولكن إذا كررته عدة مرات ستتعود عليه ...كن متأكدا من ذالك ..
أشجار جميلة تسكن على الرصيف ..أصبحت تعرفني جيداً ..تكاد تناديني باسمي ..أتساءل أنا ,,أليست الأشجار كائنات حية ؟ لماذا لا نسميها ؟؟ لا توجد شجرة تشبه الأخرى لماذا لا يكون لكل شجرة اسم ؟؟
يتساقط مطر خفيف جميل ليضفي على المشهد رونقا رائعاً بسبب انعكاس أضواء الطريق عن طبقة ماء خفيفة تغلف الشارع ..نعم الكهرباء غير مقطوعة الآن ...رغم المطر أقرر متابعة المشي و قراري اعتمد على قرار بائع القهوة البقاء في مكانه فلا يبدو أنه يخطط للذهاب إلى أي مكان ...حسنا الأمور كلها تسير حسب الخطة ..ما أروع ذالك ..
" هل حبك جميل كما تبدو أنت؟ " أغنية أخرى لنفس الفرقة ..
هناك سيارات تسير بتثاقل على الطريق ..إنها تسير على البنزين و بعضها على المازوت ..نعم إنني أراها ...من قال أن المحروقات غير متوفرة ..و إلا كيف تسير هذه السيارات ؟؟ إنه دليل قطعي على كذب القنوات المغرضة ...
تمر فتاة مستعجلة و رشيقة و تتبعها رائحة عطر خيالية ..مهلا أعرف هذه الرائحة جيداً ..إنها رائحة ( شانيل19) أروع عطر في العالم ..و الشيء الغريب كيف يمكن لرائحة عبقة جميلة أن تسافر بك عبر الزمن و تستحضر أجواء و ذكريات دفينة وتبعث أحاسيس جميلة ؟ تأخذك إلى عوالم أخرى بلمح البصر ؟ كيف يمكن لعطر ما أن يجتاحك هذا الاجتياح ؟
" عندما أكون بعيداً عنك , الشمس لا تشرق و القمر لا يأتي و العالم لا يدور " عبارة في أغنية أخرى لنفس الفرقة ...
أتممت الدورة الأخيرة حول الحديقة و هذا يعني أنه جاء موعد القهوة ....آمالي منصبة الآن على بقاء بائع القهوة في مكانه........يا للروعة مازال هنا ...
- قهوة سادة من بعد إذنك
- تكرم .
- عفوا ..هلا تكرمت علي بانتظاري قليلا ريثما أحضر علبة تبغ يبدو أنني نسيتها في المنزل
- تكرم و لو ..!!
يبدو أنني كنت خائفا من رحيله فجأة......
في المتجر المقابل هناك بائع مع شاشة مسطحة يتابع الأخبار باهتمام بالغ ...
- علبة سجائر من فضلك نوع ....... لا نستطيع كتابة النوع لأن ذالك يخالف القوانين
- تكرم
- هل مازالت ب خمس و ثمانون ليرة ؟ ( سؤال مرتبط بظروف الاقتصاديات المتضخمة )
أخرجت ورقتين نقديتين من فئة الخمسين ليرة ..واحدة قديمة و أخرى جديدة ( ولكن مهترئة) من جيبي الأمامي و هذه الطريقة في حمل النقود تزيد من اهترائها ..أخذ البائع يتفحص الورقة الجديدة بإمعان و ريبة شديدين ..فحسب تعليمات مصرف سورية المركزي لا أحد يجب أن يقبل عملة مكتوب عليها أي شيء كنوع من احترام العملة مما أدى إلى خسائر مادية للمواطنين و خلافات بين متداولي العملة ..نحن لا نعرف كيف نعامل عملتنا بعناية ...إنها عادة سيئة صحيح .. يبدو أننا شعب لا يحب التعلم إلا بالطريقة الصعبة ..بطريقة مصرف سورية المركزي.
كانت نتيجة فحص البائع للورقة النقدية إيجابية , فقبلها البائع أخيراً مع امتعاض نسبي ..يبدو أنه انزعج من عدم احترامي للعملة كما يجب ..معه حق ..لماذا أضع النقود السورية في جيبي الأمامي بدون اكتراث بينما إذا كان معي عملة صعبة أضعها بعناية في محفظة مخصصة للنقود ؟ هل لأنها عملة صعبة ؟ علينا احترام عملتنا وهي عملة قوية على فكرة ..هكذا قالوا لنا في التلفاز..
" أحبك بسبب جميع الأسباب الخاطئة " أغنية أخرى ...
الآن اكتملت جميع متطلبات طقوس شرب القهوة ..أنا الآن مستعد تماما ... و سعيد تماما ..
أخذت كوب القهوة الساخنة متلذذا برائحته أولا ,و دخلت للحديقة عبر ممر غير شرعي ..قام بصنعه مسؤولوا صيانة الصراف الآلي ليتمكنوا من الدخول بسهولة إلى الصراف فلن يكونوا مضطرين للالتفاف مسافة طويلة و الدخول من المدخل النظامي للحديقة ..
على المقعد في الحديقة الخالية تماما من أي شخص . و بصحبة أشجاري .... أشبعت إدماني المزدوج على الكافيين و النيكوتين ..و مازالت الفرقة تغني ....
" I need more of you , changing my rain into sun " أغنية أخرى ....
بصراحة متناهية أستغرب كيف يمكن لشخص أن يكتب تعليق بمثل هذه الروعة و هذا الرقي و هذا الجمال إلا إذا كان يملك هذه الصفات في روحه العذبة و أكثر , تعليق جميل يصل تأثيره لحد الصدمة و لكنها صدمة إيجابية , تعليق تجاوز المقال بمعانيه و أجواءه رغم قلة كلماته , هل أقول شكرا ؟؟ كلمة شكرا تقليدية و مملة بالنسبة لهذا الكلام الرائع الذي تجيديه , نحتاج لكلمات لائقة و مناسبة أكثر من كلمة شكرا ,,كلمات أعتقد خارج نطاق فهمي و قدرتي على التعبير ......
اسمع صوت امرأة تقول: انه نزار هذا الذي يكتب كتابات سياسية اقتصادية عجبا ماذا دهاه؟! يحول الاشياءالى رومانسية معناها ان الحب مازال يسكن بلدي.. اتمشى ببطء شديد لأكتشف انه نزار صاحب النظارات يمتلك سعة نظر اكثر مما يبدو.. خواطر جميلة تطغى عليها اللغة العلمية او انها ذات الكاتب...رائعة..اما عن هذه المرأة فهي أنا...سلمت يداك نزار مع التمنيات بدوام التفاؤل..
اللطشات صائبة و رائعة و أكتر شي عجبني بالمقال الأغاني .. حبيت كلماتها كتير. على فكرة كتاباتك و مقالاتك تستحق التجميع و نشرها في كتاب. بتمنالك التوفيق .. و إنشالله بسمع اسمك عن قريب ككاتب.