الحالة الثورية العربية، أو الحراك الجماهيري في تنوعه وتباينه، هدفه الآني والمستقبلي، مكوّناته السياسية والاجتماعية، لم تُحسم بعد نتائجه الإصلاحية والتغييرية في تأسيس بنيته السياسية والاقتصادية والثقافية .
ولا تزال آراء الباحثين والسياسيين العرب تتباين في معرفة آفاق هذا الجديد المغاير للقديم. فالنقاش يحتدم في جميع مستوياته، ويشكل حالات تناقضية حادة وتوافقية في الشكل والمضمون والنظري والممارسة. إن الخلاف والاختلاف ظاهرتان بارزتان متناقضتان في حياة البشر. فالخلاف مثلاً بين شخصين يتحصنان وراء أيديولوجيتين أو نصين، لا يقبل الأول رأي الآخر بأي شكل من الأشكال. وهذا راسخ منذ زمن طويل، وأصبح عقبة في طريق التطور، وينطبق على الأفراد والجماعات والأحزاب والحاكم والمحكوم.
ولكن الشخص عندما بدأ يمارس خصوصيته، ويبتعد عن الجماعة، نمت في داخله رغبة في التميز والتباين عن الآخر ، باعتبار أنه كما يعتقد أو يتصور، أصبح يمتلك الرأي الصحيح الصائب المستقل، ولا يعترف بالآخر مهما قدَّم هذا الآخر من براهين تثبت صحة ما يقول. الحوار كما جاء في (لسان العرب) (هو مراجعة الكلام بين طرفين أو أكثر دون وجود خصومة بينهما بالضرورة). والاختلاف كما أثبت التطور حاجة اجتماعية سياسية ثقافية ملحّة، وظاهرة صحيّة تشكل التربة المروية بالتعدد الثقافي والفكري والسياسي والمثاقفة بين شعوب الأرض، لغرس نبتة الديمقراطية والمواطنة والعدالة والحرية والكرامة وحماية الوطن والحفاظ على استقلالية القرار والسيادة.
وظلّ الخلاف خلال عقود، وكمثال قريب (بعد الاستقلال)، هو سيّد الموقف والمسيطر على الحياة العربية. فالقرار واحد والرأي واحد والحاكم وإن تغيّر (فهو واحد). والشعب المتنوّع المتعدد في مكوّناته الاجتماعية والثقافة والإثنية، عليه التصفيق وقبول ما يُمْلى عليه. إن أولى الإيجابيات لثورة الاتصالات، أنها أشعلت النار في شعار(إن لم تكن معي فأنت ضدّي)، وهي التي أدخلت مبدأ الاختلاف وأعتقته من عبودية الاستبداد، وأخرجته من دائرة من يردد صباح مساء (أن نصّه غير قابل للتأويل، وهو محرَّم على من يحاول الاقتراب منه).
الاختلاف ثورة بدأت من الشارع، نما وتطور مع تطور البشرية جمعاء، ودخل إلى بيوت الناس. ففي الأسرة الواحدة التي تتابع الأحداث في سورية والعالم العربي، تظهر التباينات في المواقف بين (من هم مع ومن هم ضد). فالفرد يبدأ بتكوين فكره الخاص به والدفاع عنه، ثمَّ يتطور تفكيره وتزداد معارفه، ويخطو الخطوة الأولى، أو يتحول باتجاه الآخر والتعامل معه انطلاقاً من(مبدأ الاختلاف لنزع فتيل الخلاف والوصول إلى الاتفاق).
لقد أنتجت الحالة الثورية العربية، مرحلة متقدمة من التمايز في الآراء بين الآباء والأبناء، وبين الأحزاب من مختلف الأيديولوجيات والانتماءات. فالابن مثلاً الذي يقتدي بأبيه حتى في ترديد وتكرار عباراته وأفكاره ويقلّده في سن معينة، وفي الوقت نفسه، أصبح مشاركاً أو مناصراً للحراك الجماهيري من أجل التغيير والانتقال إلى حياة جديدة، ودخل (حقل الألغام) أدى ذلك إلى ظهور التغاير بينهما، وإلى التباين في تحليل الظاهرات من الناحيتين (النظريةً والعملية)، مما أحدث تقاطعات بينهما أيضاً من (التضاد أو القبول والاقتناع). وهذا انتقال صحيح وصحّي (وعافية ثقافية وسياسية)، لأنَّ منطق الاختلاف يقول (إن الاختلاف يجب أن يؤدي إلى الاتفاق). والأمثلة الحية كثيرة لهذا الحدث العربي الكبير الذي أفرز حالات صحية رغم كل الارتباكات، ورغم نشاط القوى المغلقة (السلفية والمعادية) المناهضة لمبدأ الاختلاف، فقد تشكلت تحالفات جديدة وجبهات عريضة لأحزاب كانت قبل الانتفاضات متباعدة ومختلفة سياسياً وفكرياً، لكنها كوَّنت إطارات للمشاركة في مصير وقضية وطن.
يؤكّد المفكر التونسي (فتحي التريكي) أن فلسفة الاختلاف هي فلسفة هامة جداً، لكنها لا تخرج عن فلسفة الوحدة، لأن الاختلاف هو الوجه الثاني للوحدة... ويقول أيضاً عشنا في الستينيات فترة صعبة لأنها فترة الحزب الواحد والفكر الواحد والدولة الواحدة والأيديولوجية الواحدة والرأي الواحد، بحيث أن تلك الفترة قضت نوعاً ما على الديمقراطية والتفكير. إن ثقافة الاختلاف هي ساقية ترفد نهر الديمقراطية من منبعه في تونس، إلى مصبّه في الخليج العربي، لكن هذه الثقافة تواجه قوى (داخلية وخارجية) مزوّدة بالمال والسلاح، قوى رجعية حاقدة من أسمال الماضي. أي أن المعركة بين القديم والجديد ما تزال في أول الطريق. وفي سبيل نجاحها تهدر دماء ألوف المدافعين عنها، من أجل استمرارها وديمومتها، وتخليص شواطئها من الذين يصطادون في المياه العكرة، ويعملون على مدى الـ 24 ساعة لتلويث المياه الصافية، والكذب والتحريض والدس وتفكيك المجتمعات العربية وبث روح الفتنة، وتنفيذ أجندة خارجية في خدمة مخططات الإمبريالية والصهيونية.
* رئيس التحرير جريدة النور السوري