syria.jpg
مساهمات القراء
مقالات
العَـلْــمانية والدين-العرب 3 بقلم: الدكتور المهندس أكرم شحيدة

ذكرنا في مقالنا السابق كيفية دخول مفهوم العلمانية إلى البلاد العربية وفيم تجلّـت من تيارين رئيسين هما "تيار التنوير العَـلْـماني" و "حركة الإصلاح الديني". في هذا المقال سوف نذكر بتفصيل أكبر ما هي العوامل الداخلية والخارجية التي أدت إلى انتشار هذا المفهوم بشكل كبير وخصوصاً بين أوساط المتعلمين والمثقفين العرب والتي من بينها: (1) سياسة الدولة العثمانية، (2) الغزو العسكري الأوروبي المباشر، (3) التبشير والإرساليات المسيحية الأوروبية، (4) علم الاستشراق الأوروبي.


لقد عانى العرب من الظلم الشديد والتجهيل والإفقار في فترة الاحتلال العثماني والسيطرة عليهم باسم الدين حتى أن دولة عربية مثل مصر قد خلت من خمسين مهنة بسبب نقل من يعمل بها إلى عاصمة الدولة العثمانية.

يصف الجبرتي[1] في تاريخه الأوضاع التي كانت سائدة في مصر خلال القرن التاسع عشر وأحوال من كان يفترض بهم أن يكونوا حريصين على الدين قائلاً: " لأنه لمّا ابتدع المغارم والشهريات على القرى ومظالم الكشوفية ، جعل ذلك عاماً على جميع الالتزامات والحصص التي بأيدي جميع الناس، ما عدا الحصص التي كانت للمشايخ... واغترّوا بذلك، واعتقدوا دوامه، وأكثروا من شراء الحصص من أصحابها المحتاجين بدون القيمة، وافتتنوا بالدنيا، وهجروا مذاكرة المسائل، ومدارسة العلم..إلاّ بمقدار حفظ الناموس، مع ترك العمل بالكلية"..

"وارتكابهم الأمور المخلَّة بالمروءة، المسقطة للعدالة: كالاجتماع في سماع الملاهي والأغاني، وإعطاء الجوائز والنقوط بمناداة الخلبوص وقوله وهو يخاطب رئيسة المغاني ويسمعه القاصي والداني: "يا ستي، حضرة شيخ الإسلام والمسلمين .. مفيد الطالبين: الشيخ العلاّمة فلان ...إلخ".

أما الغزو العسكري الأوروبي، فقد بدأ بالحروب الصليبية تحت راية الدين والانتصار لبيت المقدس، وانتهى في تلك الفترة إلى استغلال كل الظروف الداخلية للدولة العثمانية وعلاقتها غير الجيدة مع العرب وصعود القومية العربية، لتسويق مفهومها الجديد بالحديد والبارود حيناً وبالخطاب حيناً آخر تحت شعارات الأخوة والإنسانية.

ولا يمكن إنكار الدور الهام والكبير الذي لعبته الإرساليات التبشيرية والتي كانت رأس حربة متقدم للفكر التوسعي الأوروبي. أما علم الاستشراق، فلم يكن حيادياً في معظمه، كونه صمم أساساً لدراسة أحوال الدول التي كان الأوروبيون يخططون للسيطرة عليها.

" لقد جاء الغرب في مطلع القرن الماضي، بعد أن كانت الأمة قد تهيأت لاستقباله طويلاً بكل أسباب الوهن والموات. كانت دفقة الحيوية الهائلة والعريضة قد تم سحقها إلى حد بعيد تحت مطارق الاستبداد والقهر  وكانت شريعة التوحيد الصافية والبسيطة المستمدة أساساً من النص الخالص، قد شابها كدر كثيف  فتضاءلت مساحة الحق خلف ركام من الروايات وأقوال الرجال. وكانت مفردات كثيرة من مباهج القيم العليا كالحرية والعدالة والعلم والحضارة وحمْـل أمانة الخير إلى هذه البشرية، قد خَفُتَ وهجها في ذاكرة الوعي العام"[2].

وبعد أن رحل الغرب بقواته العسكرية عن الدول العربية تاركاً إياها بدون هوية واضحة، تابعة له في إنتاجها الاقتصادي والزراعي والفكري، ترك في معظم هذه الدول طبقة من المتفرنسين أو المتأنكلزين أو المتعاطفين كي تكون حريصة على تطبيق ما أدخله الغازي أو المستعمر بأسم تحضير البلدان العربية المتخلفة.

ولمّـا كان التناقض واضحاً بين ما تؤمن به الأكثرية غير الحاكمة وبين ما تؤمن به الأقلية المستغربة الحاكمة، فإن الوصول حتى إلى حل توافقي يضمن حرية التعبير والتفكير والإبداع لم يكن ممكناً، على الرغم من أن محتوى دساتير بعض الدول العربية التي لم تعتبر الإسلام مصدراً للتشريع كان يشير إلى ضمان حرية التعبير والتفكير والإبداع.

 وبتضافر ذلك مع فشل المشاريع الوطنية والوحدوية لتشكيل الهوية الوطنية والحضارية العربية، فإن الهوّة بين الحاكم والمحكوم قد اتسعت وظهرت في صورة عودة مكثفة إلى الدين باعتباره الضمانة الوحيدة للحفاظ على الانتماء الفردي والوطني والقومي.

ولا بد هنا من الإشارة إلى أن بعض الأنظمة الوطنية والتي حاولت أن تشقّ مساراً خاصاً بها معتمدة على توافقية الحكم استناداً إلى التشريع الديني الإسلامي وما أدخل من التشريعات المدنية الأوروبية، اصطدمت باتجاهات متطرفة وصّـفت نفسها بأنها الناطقة باسم الدين الحقّ وأنها صاحبة الحقيقة المطلقة.

ومن الجدير ذكره، أنه ورغم محاولات بعض الأنظمة الوطنية تحقيق العدالة بأسلوبها الخاص، إلاّ أنها لم تكن قادرة على إعطاء مساحة أكبر من حرية التعبير والإبداع لظروف داخلية وخارجية. إضافة أنها لم تنجح في الاقتراب من الجماهير بسبب حالة الاستعلاء الفكرية والسلوكية التي وَصَمَتْ قادتها ومفكريها، وأن الجماهير بحاجة إلى من يقودها وأنها غير قادرة على قيادة نفسها.

وكما أنّ ما أطلقنا عليه اسم النظم الوطنية لم يستطع الوصول إلى الجماهير بسبب انغلاقه أيضاً وبعده عن الحوار وخوفه من أن تظهر عيوبه، كذلك فإن الحركات والتيارات الإسلامية بشكل عام لم تكن قادرة على تفعيل الجماهير بالشكل المطلوب من خلال تفعيل قدرتها على التفكير والإبداع، بل على العكس من ذلك، عملت على تكريس تبعية هذه الجماهير المحتاجة إلى إي شعاع من الضوء للغيبي.

وعملت على ترهيب هذه الجماهير من خلال أحاديث نبوية غير متفق على صحتها، أو من خلال تفاسير غير واضحة خاصة بهم لآيات من القرآن الكريم. وقد عملت بعض التيارات أو المذاهب الإسلامية على محاولة فرض وجهة نظرها لقراءة التاريخ الإسلامي والتفسير والتشريع والأحاديث النبوية مدعومة بسلطة رأس المال وتكفير كل من يقول بعكس ذلك.

إن كثيراً من التيارات الفكرية الإسلامية التي حاولت تنشيط المناخ الفكري السائد -منذ بداية الإسلام السياسي- والإتيان بأساليب وقراءات جديدة للفكر الإسلامي-وكما حدث أيضاً في الأديان الأخرى- قد اتُهمَت بالزندقة والكفر والارتداد ومخالفة الجماعة. وفي الحقيقة من الصعب الحكم على ذلك من خلال روايات تاريخية كتبها على الأغلب المنتصر.

من هنا نكتشف عمق الأزمة بين من يحاولون أن يحكموا ويقودوا الجماهير باسم التاريخية الدينية –والذين نجحوا إلى حد بعيد نتيجة سياسة الإغراء والترهيب وسياسة التجهيل المنهجية- وأولئك الذين يحاولون أن يحكموا ويقودوا الجماهير باسم العَـلْـمانية –والذين انتهوا أيضاً إلى كل الأشكال الممكنة من الديكتاتورية نتيجة سياسة القمع والتجهيل والتغريب-.

 "يقولون: إن لم يكن للخليفة ذلك السلطان الديني، أفلا يكون للقاضي أو للمفتي أو شيخ الإسلام؟ وأقول: إن الإسلام لم يجعل لهؤلاء أدنى سلطة على تقرير العقائد والأحكام، وكل سلطة تناولها واحد من هؤلاء، فهي سلطة مدنية قررها الشرع الإسلامي، ولا يسوغ لواحد منهم أن يدعي حق السيطرة على إيمان أحد أو عبادته لربه، أو ينازعه في طريق نظره"[3].

 

المصادر:

[1] المختار من تاريخ الجبرتي، محمد قنديل البقلي، دار الشعب، 1993، بتصرف.

[2] السلطة في الإسلام، عبد الجواد ياسين، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2000، ص 7.

[3] محمد عبده، الإسلام والنصرانية، القاهرة، 1922، ص 59.


العَـلْــمانية والدين-العرب 1 

العَـلْــمانية والدين-العرب 2 

2010-11-22
التعليقات
خالد بكداش
2010-12-21 03:38:14
على العموم،
على العموم، إن العلمانية إن جاءت من ( العالم )، أي من الحياة اليومية المباشرة بكل معطياتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، أم جاءت من ( العلم )، بكل قوانينه الوضعية، فإن للعالم والعلم كليهما قوانينه الموضوعية التي تفرض نفسها على الإنسان وإرادته، وتتحكم في سير حركة الواقع وتطوره بشكل حتمي. بيد أن العلمانية التي تقر بوجود هذه القوانين الموضوعية لاتنفي بالمقابل أن للإنسان وعيًا وحرية تعطيانه القدرة على التحكم أيضاً في آلية عمل الكثير من هذه القوانين وضبط حركتها لمصلحته. أي إقرار العلما

سوريا
الدكتور المهندس أكرم شحيدة
2010-11-24 00:56:30
إلى الأخ خالد بكداش (2)
ثم لنفكر قليلاً من ساعد هذه التيارات الدينية أو العَـلْمانية المتطرفة في مجتمعاتنا العربية على الظهور والتمادي؟ فإذا عدنا إلى الفترة التي قَوِيَ فيها الإخوان المسلمون في مصر، نجد أن الرئيس الراحل أنور السادات قد حاول استخدامها لضرب الحركة التقدمية المصرية، فانقلب السحر على الساحر. لكني أقول أن ليس كل من يدعي الدينية هو متدين، وليس كل من يدعي العَـلْمانية أو العِـلمانية هو عَلْماني أو عِلماني. فغياب مناخ الحرية السليم، يجعل التفريق بين الغثّ والسمين أمر صعب.

رومانيا
الدكتور المهندس أكرم شحيدة
2010-11-24 00:49:21
إلى الأخ خالد بكداش
أسعدني تعليقك. أوافقك الرأي تماماً فيما ذكرت. لكني أخالفك الرأي حول عدم وجود خلاف بين الدين والعَـلْمانية. أقول لا خلاف بين الدين والعِـلْمانية، لأن الأديان جميعاً حتى الوضعية منها قد حثّت على استخدام العقل والتدبر للوصول إلى المعرفة. لكن المشكلة في مجتمعاتنا تتمثّل في غياب الحوار الحقيقي القائم على الاحترام المتبادل. فكل طرف يعتبر أنه مستهدف من قبل الطرف الآخر نتيجة غياب الحرية الحقيقية في التعبير والفكر والتي هي أساس انطلاقتنا، فلا يمكن لخائف أن ينتج فكراً حراً أو مستقلاً.

رومانيا
خالد بكداش
2010-11-23 15:02:03
الحرية
إن هذا الفهم للعلمانية يشكل برأيي نقطة الخلاف الأساس ما بين العلمانيين ومناهضي العلمانية، وبخاصة هؤلاء الذين يريدون أن يحجروا على حرية الإنسان وعقله، مطالبين بكل صراحة بضرورة استقالة العقل أمام النقل، مكفرين العلمانيين تحت ذريعة الخروج عن النص الديني الذي فسروه هم كما فهموه أو أرادوه. إن الدين في حقيقة الأمر لايخالف العلمانية من حيث الجوهر، فالدين لم يلغِ في نصوصه البينات حرية الإنسان ودفعه إلى تجميد أو إلغاء التفكير عنده، بل على العكس فإن معظم النصوص تطالب الإنسان بالتفكير وتشغيل العقل للوصول إلى الحقيقة. ولم تخف هذه النصوص الدعوة إلى تكليف الإنسان ذاته خلافة الله على الأرض، هذا التكليف الذي رمى على عاتقه مسؤولية الإشراف والحفاظ على حسن سير الطبيعة والمجتمع. ولكي يدرك الإنسان ويعرف طبيعة هذه المسؤولية الملقاة على عاتقه، أُمر أن يسلك طريق المعرفة، فكانت أول آية قرآنية راحت تخاطب الإنسان هي ( اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم. ).

سوريا
Rafat Katta
2010-11-23 12:02:10
اتهام العثمانيين و الصهاينة و امريكا لا يجدي نفعاً
للأسف نحن العرب كمواطنين استكنا الى كروشنا و فروشنا و نحمل الآخرين وزر تخلفنا. الدولة العثمانية كانت حليفة الألمان في الحرب الأولى و خسرت و دمرت مثلما دمرت ألمانيا آنذاك و لكن الألمان استطاعوا النهوض و ركب الأتراك مركب حليفهم القديم في الحرب الثانية و لكن انظروا لحال الألمان و الأتراك و اليابان اليوم و إلى حال أغلب دول العرب أمر مشين هم نهضوا من الرماد بكل معنى الكلمة و نحن مازلنا نتقدم إلى الأمام قسراً لا طوعاً بسرعة السلحفاة

سوريا
ثابتة الجنان
2010-11-22 20:15:56
الفاروق العادل
ليس كل من يسرق تقطع يده السارق الذي تقطع يده هو من داوم على فعل السرقة حتى اصبح معروفا أنه سارق وحتى يقام عليه الحد يجب أن تثبت السرقة بطريقين: 1ـ إقرار السارق بالسرقة ومقتضى الاحتياط أن يقر مرتين. 2ـ شهادة رجلين عادلين على أنه سرق مالاً. و يسقط الحد اذا عفا صاحب المال عن السارق . و كما تلاحظ الحكم لا يصدر الا على بينة واقرار و بالتالي احتمال اصدار حكما خاطئا هوغير وارد مطلقاهذا عدا عن الشروط الأخرى لتي يجب الأخذ بها بعين الاعتبار منها ا، لا يكون مضطرا او لديه اطفال جياع على سبيل المثال.

سوريا
الفاروق العادل
2010-11-22 16:05:58
مازلنا بنفس الدائرة المفرغة
مازلنا ندور ونلف حول نفس الافكار ولا أحد مننا يقبل الأخر فالهوة شاسعة وهنا يجب أن نتحلى كلنا بالتسامح والمحبة ،، فالإسلام دين عظيم به الكثير من التشريعات والأفكار ولكن بعض المسلمين يتفنون في تفسيرها كل بحسب مصالحه ،، وللصراحة أقول أن الاسلام لم يعطي تشريع في كل شيء وفي الأمور التي أعطى فيها حكمه كان حكما مبهما ،، فما معنى القول أن السارق تقطع يده؟ وماذا يحدث لو وجدناه بريئاً بعد تنفيذ الحكم؟ كلمة حق تقال هنا أن العلمانية هي أكثر مرونة وعملية ودقة وتفصيل وتناسب العصر الحالي ومشاكله الجديدة

سوريا
haysamm
2010-11-22 14:03:07
مقالة منطقية
إن سبب تخلف العرب تاريخيا واستمرار روح التخلف موجودة حتى وقتنا الراهن هو الإحتلال العثماني .. فالعثمانيون -وكما ذكر الكاتب- نهبوا ثروات الشعوب المالية والزراعية وحتى البشرية ووضعوها في خدمة حروبهم مع الغرب التي خسروها وخسرنا شبابنا وأموالنا فيها فأنتشرت الأمية والتخلف والفقر .. فالعثمانيون لم يبنوا جامعة أو معهد تعليمي .. بل حاربوا الصحف ولم يسمحوا بدخول المطابع وكلنا نعرف أن أول مطبعة أدخلت لمصر كانت على يد نابوليون بونابرت .. الدين هو وسيلة للسلطة عبر الضحك على عقول بعض الناس البسطاء

سوريا