عرفت بابا الأقباط الأرثوذكسي شنودة الثالث، الراعي ال117 للكرازة المرقسية منذ سنوات طوال قد مضت. وأنا اليوم إذ أطوي اليوم الثاني لإنتقال هذا الرجل إلى السماء، لم أصدق بَعد بأن أحد أنبع الفرح والحياة في شرقنا قد رحل.
هو ليس بابا من حيث اللقب، بل العمل، والفعل، و القول لا يُرشد للمسيح، بل ينقل إليك ما إختبر، يخبرك بما عاين. تعاين فيه ما يخبرك عنه الآخرون. يلوذ بك في الأفق، كما يمتد، وإلى حيث يجب أن تكون وإلى حيث ينبغي أن تكون وتحيا يوصلك.
لا أستطيع أن أقول، بأني لم أعرفه شخصيًا؛ لأني أعتقد أنه هو نفسه يعرفني شخصيًا، كما يعرف كل مخلوق على وجه البسيطة ليس بإسمه، بل بمحبته هو، هو نفسه، ذاته، لكل من نفخ فيه الله، فأنفحه بروحه القدوس.
إستلذ بقوة يسوع فكان يُخرِجُ باعة الحمام من الهيكل، فكم وكم من حرم، قد أطلق... نحن المشرقيين اللذين لم نعتد أن نشعر بسلطة الحق، تسود كنائسنا، كالتي كانت تقوده لديكتاتورية تحقق مجد يسوع القائم من بين الأموات، والمقيم لأنفسنا؛ لأن غيرة بيته، وإنسانه قد أكلته، وحولته لعبد لها، لا يرضى بخرق القانون، إلا ضمن إطار المحبة، التي عاشها، ونقلها لمن حوله.
لم يكن رجل مواقف، بل كان رجل ما بعد الموقف، يفكر ويحلل، يستنتج، ومن ثم يصدر الأوامر، وهو أول من ينفذ، إذ لم يكن ينتظر المناسبة كي تأتي، بل يذهب هو إليها. لا ينعشها وحسب، بل يحيها من جديد، أقبل منذ إنبلاج حبريته، على الكد والتعب، مستوثقًا بأن أمامه حلان لا ثالث لهما: فإما أن يرتاح هو، ويتعب مَن حوله، أو أن يتعب هو، ويرتاح من حوله. فأختار الثانية؛ لأنها الأقرب إلى يسوعه الناصري، الذي عرفه، من عام 1923، حين رسمه لله، أسقفًا في أحشاء أمه.
لم يسمح لمسيحي مصر الأقباط الأرثوذكس، بأن يذهبوا للحج، إلى حجارة الأراضي المقدسة، بعد توقيع السادات مع بيغن لمعاهدة (كامب ديفيد). وبهذا لم يُنأِي المسيحيين الأقباط عن الصراع (العربي-الإسرائيلي)، كما فعل السادات بكامب ديفيده. وبهذا أبقاهم على محك محنتهم ومحبتهم لمشرقيتهم.
معرفته بحقيقة الإنقلاب العسكري بمصر، وما يُعرف بالثورة التي إندلعت مؤخرًا، وإدراكه لما سيأتي للبلاد والعباد من بعدها، حعله يدرك، بأن الحل، هو بالنأي عن الثورة، أو ربما الفورة المُفتعلة، خوفًا من الويل والثبور وعظائم الأمور التي ستحل من بعدها.
عرف تاريخ مصر ودرسه جيدًا، في قديمه وحديثه. لهذا كان يعرف خير معرفة، أين تكمن مصلحة الشعب، ويسير على هذا الأساس وفق خطى ثابتة، معززة بالإيمان، والصدق، والمحبة.
البابا شنودة الثالث كان كالمعلم الناصري، ديكتاتوريًا عندما يعني ذلك عدم الرضوخ، ولا التساهل ولا التسامح مع المخطأ والمجرم، بحق الله، بل العودة به إلى الصواب بعد تأديبه وتأنيبه. إستخدم الديكتاتورية كوسيلة ليس للحفاظ على السدة العصماء، بل الكنيسة جمعاء.
كان مع الطفل الصغير صغيرًا أكثر منه، ومع السادات كبيرًا ومتجبرًا أكبر منه. لم يحمل خواص البطاركة، بل البابوات، ولم يكن سهلًا في الشدائد بل رجل دولة، وفي المماحكات، رجل خفة؛ وفي الإدارة رجل عفة، وفي التعليم والكرازة رجل ظرافة، وطرافة، وقبل أي شيء صاحب رسالة.
سيتعب من سيأتي بعده. سيضني العالم لفراقه. فنحن يا مولانا منذ سنة 1971 حتى اليوم، واثقون بإدارتك دفة السفينة، وتوجيهك لها، كما كان يجب. أنت في الواقع بين مطرقة أميركا المستغلة، وسندان الأخوان المذلة، فطرقت بجبروتك الإثنين، متجهًا نحو السماء بأعلى درجات التوتر، كبطرس عظيم لن يخبو نوره برحيله، بل سيشع أكثر وأكثر، فوداعًا إلى أن نلتقيك كما كل أربعاء، وفي مكان ما نجتمع سويًا لنؤلف جمهورية الحقيقة.
سرد ممن لا يعرف التطير ولا النرد وقراءة مقتضبة كونت أبها جوهر وعرض زاد بالنفس الاطمئنان بأنه لازال هناك إنسان ينطق وبأعماقه إيمان راسخ لا يزعزع ومداد سطرت مرصعة مقدمة قرطاس بأيقونات متراصة لا يبلع منتهاها إلا خالي الأوزار .. بوركت أناملك وحماك الله من كل شر سيدي صاحب المقالة .. وبرجاء المولى أن يتغمدهـ بالرحمة ويكلله بالمغفرة ويهديه روض من رياض الصالحين والأبرار .. .. ..