كان تيم جالساً قرب نافذة الطائرة الأسطورية حين ارتسمت بسمة الفرح على جبينه المشتاق لظلال بلاده الأرجوانية، وازدادت نبضات قلبه المليئة بالأشواق القلبية، كيف لا و بعد قليل سيلتقي بأهله الذين قرر أن يفاجئهم ليرى ردة فعلهم العفوية، فقد عاش الغربة في بلاد الشمس لسنوات طويلة متوالية... وفجأة!! قطع خيط شروده صوت كابتن الطائرة الحديدية!!
كابتن الطائرة:
السادة الركاب، بعد قليل سنهبط إلى مطار "بلاد الغار " الدولي
الرجاء الجلوس في أماكنكم و التأكد من ربط أحزمتكم وعدم مغادرتها إلى حين وقوف
المحركات، وتفقدوا جميع أمتعتكم قبل مغادرة متن الطائرة، أتمنى لكم قضاء أجمل عطلة،
و شكراً لاختياركم خطوط "السعادة " الجوية.
كانت الساعة السابعة صباحاً حين وصل تيم إلى موطنه "أرض الغار "
فتسلل بخفة حاملاً حقائبه، وعند الوصول إلى بيته طرق عتبه الدار وفي قلبه شوقٌ
ورهبة، ثم فتحت أمه الباب وفي عيونها بريق ذهول ورجفة!
أم تيم: يا إلهي! هل أصدق ما تراه عيناي!!! هذا أنت بُنيّ و قرة عيني وفلذة كبدي
وحبيب عمري تيم! أبهجت بحضورك ديارنا الحزينة وملأت بروحك المكان بأغاريد الفرح
القديمة، كيف جئت وغامرت بالقدوم في ظل الظروف الكئيبة؟!
تيم : أماه، لقد هبت نسمات دافئة من الحنين قادمة من بلاد الغار الحبيبة، فتراقصت
ذكرياتي في مخيلتي مبعثرةً أشواق فؤادي الحزين، فلم أطق فراقكم ولم أقدر على بعدكم
الذي هز بصمت لهيب شوقي الدفين، فأتيت مسرعاً لأطمئن على حالكم من بعد طول مغيب!
كيف حالكِ أماه وكيف تمضون بدوني يومكم الطويل؟ لله درك ما فعلته بي الغربة وكيف
افترقنا على مر السنين!
أم تيم : بني إننا بخير وما كان ينقصنا سوى وجودك بيننا لتكتمل فرحتنا العائلية،
فما زلنا نعيش في بيتنا تلك الحياة الروتينية فقد استيقظت للتو من نومي لأصحو على
عبق مفاجأتك الصباحية، وبعد قليل سأحضر الفطور على نغمات الأغاني الفيروزية، وسأقرأ
الأخبار المدونة في الصحف اليومية، رباه إني سعيدة بلقائك! بُنيّ تعال معي نجلس
سوية لنتبادل الأحاديث النابعة من صميم أشواقنا العاطفية.
تيم: أجل أماه ، طيف خوفي عليكم زلزل كياني وأرّق مضجعي في بلاد الاغتراب، تُرى كيف
حال أرض الغار الحبيبة وماذا حل بها بعد طول غياب؟
أم تيم : أهٍ بُنيّ... أماعن أرض الغار الحبيبة؛ فقد تغيرت معالمها واختلفت
تضاريسها لتُصبح كالعجوز تفتقر لروح الحيويّة، عُدنا بغيابك إلى الوراء مليون سنة
ضوئية! تخيل أننا نعيش فوق سماء أوطاننا حالة من الغربة العجيبة، فكم اشتقنا لزيارة
سهول بلادنا وتلالها الكستنائية والاستماع إلى لحن المياه وهي تنساب من جداولها
الحريرية، كم نتوق لرحلة إلى شواطىء ديارنا الذهبية لنتأمل حفيف الشجيرات وهي تداعب
سرب العصافير الربيعية التي ترفرف وتزقزق نشوةً بالحياة البرية، وإلى الورود
الملونة وهي تفتح براعمها الفتية لتلثم بجمالها شعاع شمس بلادنا المخملية، وإلى صوت
الأمان و ضحكات الأطفال وثغورهم الباسمة من صميم قلوبهم العفوية، يا ليت شعري أصبحت
تلك الأمور أشياءً منسية!
تيم: تحلي بالصبر و بجميل الأخلاق، إننا نعاني من ألم فراقٍ لا يشفي غليله طول
العناق! فلا بد للسحابة أن تنجلي يوماً لترسم خلفها لوحةً فنية تتراقص فيها الآمال
عبر بعيد الآفاق مُبشرةً بأجمل إشراق بإذن الله الخلاّق.
ترررن.... وجعل هاتف تيم يرن، ويبدو أن خبر زيارته المفاجئة قد تسربت للأهل وأحدثَ
قدومه صدىً بين المقربين، فانهالت دعواتهم عليه لتذوق ما لذ وطاب من الطعام، أه يا
تيم كم أنت مسكين لتعيش التخمة كحال كل المغتربين !
أم تيم: من كان يكلمك على الهاتف بُني؟
تيم : جارتنا أم ياسمين كانت تطمئن على حالي في الاغتراب، وسألتني أيضاً هل وجدت
امرأةً من بلاد الشمس للارتباط؟
أم تيم: و ماذا كان جوابك.؟
تيم : قلت لها إني رجل من بلاد الغار، روحي كشجرة زيتون نامية وراسخة في عمق تربتنا
الوطنية، جذوري ترتوي من مياه تقاليدنا القديمة، وبذوري مصقولة بحروفنا الأبجدية،
وعائلتي أوراق غارٍ عطرية تفوح من بيئة متوسطية، فكيف أرتبط بامرأة من بلاد الشمس
الشمالية؟ فهي بعيدة عن بيئتي كالبعد بين الارض والكواكب الفضائية، فالزوجة
الأجنبية في نظري كنجم الشمسِ بطبيعتها النارية، راسخةٌ بين السحبِ الهوائية، وقد
تحرق بارتباطها بي براعم أشجاري الزيتونية، لكن العيب ليس مني ولا فيها بل السبب
فقط هو "اختلاف طبيعتنا التكوينية! "
وهنا ارتسمت ابتسامة خفيفة على وجه "أم تيم " ثم قالت له : بني
يبدو أنها كانت تلمح لك لعلك تبصر ابنتها ياسمين لتصبح عروسك المستقبلية...!
تيم: أوه حقاً؟ أما زالت النسوة تفكر بتلك الطريقة؟ كيف حال تقاليدنا وعادتنا
القديمة، أما زالت في عهودها الذهبية؟ أما زالت جارتنا "أم عبدو
" تخطب و تبحث لابنها عن عروس مثالية؟ و كيف حال السهرات الشبابية؟
أم تيم : وهل يقف الزواج في بلاد الغار؟ هذه تقاليدنا فلا تزال الخطبة متربعة على
عرش بيوتنا العتيقة و شبابنا يبحثون عن دفء المشاعر الحقيقية بين بيوت الأسر
العائلية لتصبح أيام بحثهم معطرة بفناجين قهوة صباحية، آملين بالتقاء نصفهم الآخر
لتكون سنداً لرحلة عمرهم الطويلة، أما أرصفة شوارعنا فهي مكتظةٌ بالمقاهي في الحياة
اليومية وأيامهم مليئة بجلسات الأنس والسمر المسائية، آملين بتناسي الأوقات
العصيبة!
تيم : اشتقت لبائع السحلب، ماذا حل به؟
أم تيم : أما عن صاحب صوت بائع "السحلب " الشهير فإنه يمضي قدماً
رغم بؤس الواقع المخيف منادياً للناس أجمعين تحت وطأة الظلام الشديد باحثاً عن قوت
يومه المرير، فكم هو بنظري إنسان قدير! هذا حالنا اليوم، فترى الحزن يبحث عن فسحة
من سرور ليغدو نشيد الفرح كنسمة أمل ربيعية في ظلال حرارة الأوضاع غير العادية .
وفي تلك الأثناء أبرقت و أرعدت في سماء بلاد الغار!
أم تيم : يا إلهي ! اسمع بني الآن ستهطل حبيبات مطرية لؤلؤية مصحوبة بأصوات رعدية
خفيفة، ولعمري باتت أوصالنا ترتعد وجلاً من تقلبات الأحوال الجوية ونهاب عند سماع
إحدى الظواهر الطبيعية خوفاً من كونها قنبلة صوتية ليصبح وميض البرق وكل النعم
السماوية في عيوننا أشياءً مأساوية !.
تيم : آه يا بلادي! ماذا حل بك؟ ما كان يؤجج ويحرق فؤادي هو رغبتي بالقدوم لألثم
ثرى أوطاني ولأقابل أحبابي من أهلي و أخواني، ولتداعب روحي طيفَ ذكريات أحلامي
وطفولتي والأيام الخوالي، وما كان يعيقني من القدوم هو خوفي من سوء الظروف التي
منعتني من رؤياكم، فما أصعبها اليوم من أماني وإني من بعادكم ومن شدة خوفي عليكم
أعاني، فمشاعري اليوم تترجمها قصيدة للشاعر نزار قباني الذي قال:
مآذنُ الشّـامِ تبكـي إذ تعانقـني وللمـآذنِ.. كالأشجارِ.. أرواحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنـا فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هنا جذوري.. هنا قلبي...هنا لغـتي فكيفَ أوضحُ؟ هل في العشقِ إيضاحُ؟
بالمناسبة (تيم : كناية عن غربتنا قي عقر ديارنا)، ومع ذلك تبقى بلادنا - رغم حالة
الاغتراب- التي نعيشها "عزيزة " علينا ، فهي بالنسبة لنا كما
يراها المغترب "بعيون الحنين " وقد صدق من قال:
بلادي و إن جارت علي عزيزة*** و أهلي و إن ضنوا عليّ كرام
ياريت أكون أتاهلمغترب يلي أجى عغفلةاشتقنالبلدناكلامك رائع وأسلوبك جميل شكراللكاتبة