ـ كثيرةٌ هي الذكرياتُ المؤلمةُ التي تَقضُّ مضاجعك , وتُؤرّقُ جفنَك , وتُلظّي خاطرك , وتُشجي قلبك ...فهل تحب أن تنتهي منها ؟!.. إذا أردت ذلك فعليك أن تتذكر أنّها أصبحت ذكرياتٍ ونسياً منسياً , وأنها شيء مضى ولن يعودَ , وباختصار عليك أن تمسحَها من ذاكرتك
تعرفتَ في حياتك على كثيرٍ من الأصدقاء , وعلى كثير مِمَّن يدَّعون لك صافيَ الحب وخالصَ الوداد... ولكنْ , عندما قلب الدهرُ لك ظهر الْمِجَنّ , ودالت بك الأيامُ ـ والأيام دول ـ فافتقرتَ بعد غنَىً , وذُلِلْتَ بعد عزٍّ ,وتكاثرت عليك الخطوبُ , ورماك الدهرُ بسهامه حتى تكسرتِ النّصالُ على النصالِ ..فإن كثيراً من الأصدقاء الذين تعرفت عليهم أخذوا يتنكرون لك , ويتبرؤون من صداقتك , وكان أشدَّهم وفاءً ذاك الذي يكفيكَ خيرَه وشرَّه...
فحتى لا تبقى أسيرَ ذكرياتٍ كانت حُلوةً ولكنها الآن تُشجيك وتضنيك , ذكرياتٍ لمن كنتَ لهم ترساً فأصبحوا في صدرك رماحاً , وكنتَ لهم أمينا فخانوك , وأحسنت إليهم فأساءوا إليك , وحتى لا تسوّل لك نفسُكَ , وحتى لا يهمسَ الشيطان في أذنك بأن لا تفعل خيراً مع أحدٍ من الآن فصاعداً ..عليك أن تقوم بشيء واحد فقط : امسحهم من ذاكرتك.
ـ تراودُ فكرَكَ بين الفَينة والأخرى , وتداعِبُ روحَك المثقلةَ بالأحزان , وعيونَكَ الْهَتّانة بالدموعِ ذكرياتٌ مُشجيةٌ لطفولةٍ مريرةٍ تجرّعتَ فيها علقمَ الشقاء في كؤوسٍ مُترعةٍ من حميم البؤسِ والْحِرمانِ , طفولةٌ تجلببتَ فيها بجلباب الفقر , وتدثَّرت بدثار الأسى, وغرقتَ في بحور الكآبة... لكنْ , أقول لك هذه المرة : لا تمسحها من ذاكرتك , لأنها ذكرياتٌ من عالم الطفولة التي تظل بريئةً مهما اعتراها من عناءٍ , ومهما ارتشفت فيها من اليأس المرير , هي ذكرياتُ الطفولة التي لن تتكرر في حياتك مرةً أُخرى , فمهما كانت ذكرياتُ طفولتنا أليمةً فإنها تبعث فينا سحراً خاصّاً من الحبور والسعادة يبعث فينا نشوة الأمل من جديد....
وعلى كل الأحوال , فإن حديثنا عن ذكرياتٍ , منها ما نستطيع أن نمسحها من قلوبنا , ومنها ما لا سبيل إلى مسحه , و ما هي إلا ظِلٌّ زائلٌ , ودهرٌ مضى , وطيفُ كرى.....
ـ قرأتُ يوماً ما جملةً لأيزنهاور , لا تزال عالقةً في ذهني , وجاثِمةً في خاطري , يقول فيها :( لا تُضَيّعْ دقيقة واحدة في التفكّر في أعدائك , امسحهم من الذاكرة ) .
وكلما لاحت هذه الجملةُ في خاطري أقول في نفسي :
وهل هذا إلا ما يريده العدوُّ منا ؟ وهل يُريد العدو منا إلا أن نمسحه من الذاكرة حتى لا نفكر فيه , ولا فيما يَكيد لنا من مكائدَ , ويمكر لنا من مكر ؟ ....
فرجعت إلى قوله تعالى : (( وأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ)) . الأنفال :60
فعلمت أن هذا هو الصوابُ , وهو الذي أحقُّ أن يُتَّبَعَ ,...
.
ولو أن الرجل قال :
((لا تضيّع دقيقة واحدة في التفكر في [حُسّادك] , امسحهم من الذاكرة .)) لكان هذا الكلامُ أقربَ إلى الصواب والمنطق .
ـ تحاول مرةً تلو المرةِ أن تمسح من ذاكرتك بعضَ المنغّصاتِ والمواقف الأليمة التي مرت معك في الحياة , كما أنك تود لو تستطيع أن تجتثّها من جذورها الضاربة في أعماق فكرك حتى الصّميمِ , لكنك , وبعد لأْيٍ ومشقة , قد تستطيع أن تمسح بعضها فقط..
لكنّ معظم تلك الذكرياتِ تبقى جاثِمةً في ثنايا فكرك وفي لب فؤادك , لا يمحوها تعاقبُ الأيام ولا تتالي السنين..فعليك في تلك الحالة أن تخففَ من حِدة وقعها على نفسك , وأن تتذكر كما أسفلنا أنها أصبحت مجرّد ذكرى تُلَوّحُ لك من الماضي السحيقِ....
فإذا ما حاولتَ مسحها من ذاكرتك ونسيانها ولم تتمكن , فتذكر قول الشاعر :
إذا لم تستطعْ شـيـئاً فـدعْهُ
وجـاوزهُ إلـى مـا تستطيعُ
ومع ذلك إذا لم تستطع تغيير شيء ما , وأردت أن تشعر بالسعادة , فهناك مثل ألماني يقول : (السعيد من ينسى ما لا سبيل إلى تغييره) .