ان مصطلح "الاسلام السياسي" ليس بالجديد و لكن زاد انتشاره كثيراً بعد الثورات الحديثة في عدد من البلدان العربية و التي اتُهِمت بأنها في المقام الأول ذات أبعاد دينية اسلامية, و تهدف الى بسط هيمنة الشريعة الاسلامية على جميع مناحي الحياة في الدولة.
باختصار شديد يمكن القول بأن مفهوم "الاسلام السياسي" يشير الى الجماعات و الحركات الاسلامية التي تشتغل بالسياسة أو ذات أهداف سياسية. و لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل كان الاسلام في يوم من الأيام كدين أو كمُعتقد أو كفكر منفصل عن السياسة؟ أمرٌ بديهي و مُسَلم به أن الدين الاسلامي هو دين كامل و شامل لجميع مناحي الحياة البشرية: الاجتماعية و الاقتصادية و العلمية و السياسية ... الخ.
الكثير من المفكرين و السياسيين الغربيين يدعون و منذ زمنٍ غير قصير الى فصل الدين عن سياسة الدول في العالم الاسلامي و ذلك اقتداءً بما هو الحال في هذه الدول الغربية. بقراءة سريعة و بسيطة للتاريخ و وصولاً الى يومنا هذا فانه لن يكون من الصعب ان نستخلص ان مفهومي الدين و السياسة في الغرب يختلفان جذرياً عنهما في عالمنا العربي الاسلامي. هذا يعني ان ما يصلح تطبيقه في الغرب ليس بالضرورة ان يكون كذلك في عالمنا.
اذا ما انطلقنا من فكرة أن التعريف العام لمفهوم السياسة هو رعاية شؤون الأمة داخلياً و خارجياً من قبل الأمة و الدولة معاً أو بمعنى آخر من قبل القيادة و الشعب, فكيف يمكن فصل الاسلام و هو دين الأمة عن السياسة؟ جميعنا يعلم ان الهدف من النداءات الغربية هو ليس تحقيق مصالح دول العالم العربي و الاسلامي, فلماذا يجب أن نُنصِت لهذه النداءات و نجعل منها سبباً آخر لتعميق خلافاتنا و انقساماتنا.
أريد هنا ان أثبت صحة عدم امكانية فصل الاسلام عن السياسة من خلال مثالين بسيطين من الثورة السورية التي لا تزال الحدث العالمي الابرز. في هذين المثالين سأتناول طرفي الصراع القائم: الثوار و السلطة. اذا ما نظرنا الى الخطاب الثوري للثوار و المتظاهرين على الارض لوجدنا و ببساطة ان الخطاب الديني الاسلامي يهيمن بشكل كبير على شعارات و هتافات شريحة واسعة من المتظاهرين. أما بالنسبة للسلطة السوريا فهي ما انفكت و منذ بداية الثورة على اتهام المتظاهرين بأنهم محرضين على الفتنة الطائفية و أن الحراك الشعبي الحاصل يرتكز على أساس طائفي. و أنا سأقف هنا لأسأل: ألا يدل ذلك على اعتراف ضمني و صريح أن سياسة فصل الدين عن الدولة و التي اتبعتها السلطة منذ عقود قد فشلت؟ بل سأذهب أبعد من ذلك و أقول أنه من الممكن اعتبارها بشكل أو بأخر سبب رئيسي للحراك الشعبي الحاصل.
ان هيمنة الخطاب الاسلامي عند الثائرين في سوريا لا يجب ان يُنظَر اليه على انه أمر سلبي أو مخيف أو مثير للقلق. ان المتطاهرين الذين يخرجون من المساجد الى الشوارع و الساحات هم نفسهم الذين يعيشون اليوم بيننا و هم نفسهم الذين تعايشنا معهم قبل اندلاع الثورة. الأشخاص لم يتغيّروا, و لكن ما تغيّر هو الانقلاب المفاجيء في بعض معايير القوة و التي لم تكن في يوم من الأيام عُرضةً للنقاش أو المساومة. ان أي شخص له الحرية المطلقة في ان يكون علمانياً, ليبرالياً, شيوعياً... الخ, و لكن كذلك الأمر يحق له ان يكون اسلامياً. المهم في اختيار التوجه هو ان يكون للمصلحة العليا للوطن و للمواطن و ان لا تكون الغاية منه مجرد معارضة الآخرين. فأن تكون اسلامياً لا يعني ان تكون ضد الشيوعيين, و ان تكون شيوعياً لا يعني ان تكون ضد العلمانيين او القوميين. و من واجب السلطة الحاكمة في مثل هذه الحالة ان تستوعب الجميع و أن تكون قادرة على تفهم و معالجة أي تطور ناشيء. السلطة السورية لم تستطع تفهم القوة الناشئة ذات التوجه الاسلامي, بل جعلت منه الطرف الآخر من النزاع و هو ما صب الزيت على النار.
الجميع يشاهد و يسمع يومياً كيف يتم ربط الاسلام بما يُسمى بالارهاب, المفهوم الحديث الذي بات يجسد الغاية التي تبرر الوسيلة. بل و يذهب البعض أبعد من ذلك ليربط الاسلام بالتراجع و التخلف. و لكن العرب و المسلمين يعرفون أكثر من غيرهم ان الاسلام بريء جملةً و تفصيلاً من هذه التهم. فالمشكلة اذاً ليست في الاسلام كدين و شريعة, و لكن المشكلة تكمن في عدم المحاولة الى فهم الاسلام فهماً صحيحاً أولاً و في عدم القدرة على الفهم الصحيح لعلاقة الدين بالمجتمع ثانياً. هل يمكن لعاقل ان يصدق بأن الغرب و القوى العالمية تهتم لأمور العرب و المسلمين أكثر منهم أنفسهم؟ لماذا لا نكون نحن قادرين على بناء الدولة التي تتلائم و مجتمعاتنا و خصوصياتها؟ ان الاسلام هو دين الرحمة و التسامح و المغفرة, هو دين المعاملة الحسنة, هو دين رفض الظلم و نصرة المظلوم.
ان الغاية هنا ليست التشجيع أو الدعوة الى بناء ما يُسمى بالدولة الاسلامية, فذلك موضوع واسع و متشعب جداً, و لكنني ادعو و بشكل واضح الى أهمية الفهم الصحيح لفكرة فصل الدين عن السياسة. ان فصل الدين عن سياسة الدولة لا يعني رفض و محاربة الدين و ابعاده عن الحياة بشكل كامل. ان الاسلام كشريعة و دين متأصل و متجذر في مجتمعاتنا على عكس المجتمعات الغربية و التي بدورها لها خصوصياتها. و لكن يجب ان نعلم أن الغرب هو نفسه من أشاع و بسط فكرة فصل الدين عن السياسة في مجتمعاته لانها و ببساطة هي ما يناسب خصوصيات مجتمعاتهم.
ان اسرائيل هي العدو الأول للشعوب العربية و السؤال الذي لا يمكن تجاهله هو: ألم يتم ايجاد و خلق ما يُسمى بدولة اسرائيل على أساس الديانة اليهودية؟ ألا نعلم جميعاً بأن سياسات اسرائيل قائمة على أساس شعارها "حدودك يا اسرائيل من الفرات الى النيل"؟ أليس هذا الشعار ذو خلفية دينية يهودية؟ فلماذا يحق ذلك لاسرائيل و يتم دعمها في ذلك من قبل الغربيين بينما يطلب منا هؤلاء أنفسهم ان نفصل الاسلام عن الدولة؟
الاسلام ليس كلمات و عبارات نرددها. الاسلام هو دنيا يجب ان نفهمها و نطبق مفاهيمها بسياسة سليمة و مناسبة. ان الدول العربية ضعيفة بما فيه الكفاية, و يجب أن لا يقتصر تفكيرنا على كيفية محاربة هذا الضعف فقط, بل أيضاً على كيفية تقوية أنفسنا حتى نستطيع ان نخلق شخصية لها مكانتها بين الأمم. لقد اعتمدنا عبر سنوات طويلة على اميريكا و روسيا و الغرب و ما زادنا ذلك الا ضعفاً و انقساماً, لأننا و ببساطة اعتمدنا على اعدائنا. لا بد أن ندرك أخيراً بأن قوتنا يجب ان نصنعها نحن بأنفسنا و بأيدينا, فالقوة تماماً مثل النجاح تُصنع و لا تُشترى.
يسلم تمك
ترددت في البداية قبل أن أفتح هذه المقالة لعلمي أن معظم ما ينشر في هذا الموقع ذو اتجاه فكري محدد........ لكني لا أبالغ إن قلت أني تفاجئت وسررت من كلامك الموضوعي البسيط.